المحامي زكي كمال - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت
فهي حرب تبدو من جانب إسرائيل، رغم أن من أعلنها كذلك، هو الرجل السياسيّ الأول في الدولة بنيامين نتنياهو، والذي يرأس الحكومة، وأيّدها السياسيّون من كافّة الأحزاب السياسيّة اليهوديّة وسط إجماع غير مسبوق، يمكن القول اليوم، بتأكيد وثقة تامين وواضحين، إنها مارد خرج من القمقم وحطّمه، أو أنها حرب خرجت عن السيطرة، واضعة لنفسها قواعد جديدة وغير متبعة وغير مألوفة، فالحروب السابقة، أو الحملات العسكريّة على قطاع غزة، اتّضحت معالمها وتوجهاتها وإنجازاتها، أو إخفاقاتها بعد انقضاء أسبوع، أو شهرين منها، ووفقًا لها رسم السياسيّون صورة وصيغة الخروج منها، أو ما يحلو للمراقبين والإعلاميّين تسميته "صورة النصر "، وهي صورة ترافقها عادة رواية نصر، تختلف في مضمونها بين طرفي الحرب، لكنها تتفق في أهدافها، وهي إظهار كلّ منهما بصورة المنتصر، أو على الأقلّ من تمكّن من تحقيق معظم إنجازاته، حتى وإن لم تكن كلّها، ما يمكنه من تبرير موافقته، أو مبادرته إلى وقف إطلاق النار، بخلاف الحرب الحاليّة التي تبتعد هذه الصورة كلّما تقدّمت الحرب، بل أكثر من ذلك، إذ تصبح أهدافها أقل وضوحًا، وأكثر بعدًا، وأقل احتمالًا كلّما طال أمدها، حتى يبدو أحيانًا للمراقب عن بعد ، أنها حرب يريد الطرفان لها أن تستمرّ، انطلاقًا من أن استمرارها وهي تراوح مكانها، رغم استمرار الخسائر البشريّة والماديّة، عملًا بقول فريدريخ نيتشه، إن من كان يحيا بمحاربة عدوّ ما، تصبح له مصلحة في الإبقاء على هذا العدوّ حيًّا، وبالتالي تدخل هذه الحرب، خاصّة بعد انتهاء الهدنة الإنسانيّة، أو وقف إطلاق النار ، مرحلةً جديدة، تنذر بمستقبل يلفّه الخوف وانعدام اليقين، بل الخطر وعدم الوضوح، وهذا صحيح بدرجات متفاوتة للفلسطينيّين في غزة فهم الأكثر تضرّرًا ومعاناة وخسارة، وهذا شأن أؤكد أن الخوض فيه ما زال مبكرًا لكون ذلك يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنتائج الحرب النهائية، وما سيتبعها، ومن هنا فالحديث في هذه المرحلة، هو ضرب من التكهن في أحسن الحالات واستباقًا خطيرًا للأحداث في حالات أخرى، كما أنه صحيح لإسرائيل حكومةً وشعبًا وجيشًا ، وعلى عدّة أصعدة.
ثلاثة خيارات الواحد منها أكثر مرارة من الثاني والثالث ، على ثلاثة أصعدة، أو في ثلاثة سياقات، ستواجه إسرائيل حال انتهاء الحرب، وبغض النظر عما إذا كانت قد حقّقت نتائجها كاملة، وتم وقف الحرب تبعًا لذلك، أو أن الحرب توقّفت بضغط أمريكيّ أوروبيّ عربيّ، وهذا ليس بعيدا لأسباب سنعرّج عليها لاحقًا، أو لأسباب داخليّة سياسيّة وشعبيّة واقتصاديّة وجماهيريّة، تبدو حاليًّا غير ناضجة وربما بعيدة، لكن للسياسة الإسرائيليّة ديناميكيّتها الخاصّة والمميزة، فغير الممكن يصبح فيها ممكنًا، أما السياقات الثلاثة فأولها يتعلّق بحال غزّة بعد انتهاء الحرب وهويّة من سيحكمها، ومن سيدير أمورها ويقينًا أنه لن يكون "حماس" بصيغته الحاليّة، وثانيها بحال إسرائيل إقليميًّا وعالميًّا بعد حرب اتّضح فيها أن جيشها الذي لا يقهر تلقى صفعة وصدمة مؤلمة، وأن كبرياءها قد تمّ المسّ به، وثالثها السياق الإسرائيليّ الداخليّ بكافّة أبعاده الحزبيّة والسياسيّة والبرلمانيّة والجماهيريّة، وحرب الأسباط والفئات التي شهدتها إسرائيل طيلة تسعة أشهر، قبل أكتوبر 2023، والتي يحاول كثيرون الادّعاء أنها كانت سبب اندلاع الحرب، أو أنها حفّزت "حماس" على حربها، وهذه ضمن محاولات إبعاد ألسنة اللهب عن أطراف ثوب بنيامين نتنياهو، ومحاولة "إعفائه" من تحمّل المسؤولية، وإلقائها على الآخرين كرئيس هيئة أركان الجيش، ورئيسي الشاباك والموساد ورئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة، فحال غزة بعد الحرب ينتظره خيارات ثلاثة لم تحسم إسرائيل أمرها بعد، خاصّة وأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأهداف التي تريد تحقيقها، أو صورة الوضع الذي تريده، وهو أمر لم تفعله الحكومة الحاليّة بعد، ولغاية واضحة في نفس يعقوب، قوامها إمساك العصا من طرفيها، أو أطرافها الثلاثة إن وُجِدت، نحو تحقيق أهداف هي عدم إثارة غضب الشركاء الائتلافيّين من اليمين المتديّن، وعدم إثارة غضب أمريكا بايدن، والحيلولة دون احتجاجات جماهيريّة جرّاء وقف الحرب إذا لم تتحقق الأهداف النهائيّة، وهذا ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق إيهود أولمرت الذي قال إنه إذا أرادت إسرائيل كسب الوقت وصبر المجتمع الدوليّ، فعليها الإعلان بأنها ستنسحب من القطاع بعد الحرب، وأن تقدم رؤية واضحة لغزة بعد القضاء على "حماس" ، وهو ما لم يحدث حتى اليوم، ولن يحدث قريبًا فهذه الحرب، كما يبدو أقوى من أولئك الذين اتّخذوا القرار بشنّها، وأول الخيارات الثلاثة هو احتلال غزة واستئناف الاستيطان الإسرائيليّ فيها، وهو ما يريده اليمين في الحكومة وخاصّة اليمين الصهيونيّ المتديّن، الذي لم يخف رغبته هذه عبر تصريحات عدد من أعضائه. ولعل التعبير عنها هو الشعارات التي خطّها الجنود الإسرائيليّون خاصّة من الطيف السياسيّ المتديّن اليمينيّ، وملخصها العودة إلى مستوطنات "غوش قطيف" ، وكلّ ما يعنيه ذلك من تحمّل لأعباء إدارة الشؤون المدنيّة والأمنيّة لأكثر من مليوني فلسطيني، يميلون بأكثريتهم إن لم يكن بغالبيتهم، إلى تبني الفكر الإسلاميّ المتزمّت، وما يحمله ذلك من تحدّيات أمنيّة يوميّة تضطرّ إسرائيل إلى تخصيص وحدات كاملة من الجيش بعتادها وجنودها لضمان الأمن، وهو ربما ما يريده نتنياهو في قرارة نفسه لكنّه يرفض التصريح بذلك، خاصّة وأنه يكرّر القول إن الانسحاب من غزة من طرف واحد عام 2005 كان خطأ رغم أنه صوّت إلى جانب هذا القرار، وثانيها منح جهة ثانية مسؤوليّة إدارة الشؤون المدنيّة أسوة بما يحدث في المناطق المصنّفة " بي B" في الضفة الغربيّة، مع اختلاف الطروحات بين رفض نتنياهو التامّ، لأن تكون السلطة الفلسطينيّة هذا الجسم، نظرًا لعدم الثقة تجاه السلطة الفلسطينيّة، وبالتالي فالاقتراحات تتراوح بين " هيئة مدنيّة" وهي تسمية فضفاضة للسلطة الفلسطينيّة، أو تحديدًا سلطة فلسطينيّة مُحَّسَنَة، أو نسخة مُحَّسَّنة من السلطة الفلسطينيّة، برئاسة مروان البرغوثي، أو سلام فياض، أو محمد دحلان المقيم في الإمارات العربيّة المتحدة، وهو اقتراح يحمل رغم تأييد الولايات المتحدة له، إشكاليّات جمَّة تجعله شبه مستحيل إن لم يكن مستحيلًا، خاصّة وإن هذه الهيئة ستكون منذ يومها الأول متهمة أنها وصلت الحكم ، على فوّهات البنادق، أو أنها سلطة تنفذ تعليمات إسرائيل، ناهيك عن الإشكاليّة الأساسيّة المتعلّقة بالجانب الأمنيّ، فالاحتمال هنا والذي تريده إسرائيل لن يمنح هذه الهيئة أيّة صلاحيّات أمنيّة حتى تلك الداخليّة، التي تحتم وجود آلاف أفراد الشرطة والأمن الوقائيّ المسلّحين بسلاح خفيف ومتوسّط، وبالتالي لن يقبل أيّ طرف فلسطينيّ أن يتولى المسؤوليّات المدنيّة، بمرتبة سلطة محليّة موسّعة، دون مسؤوليّات أمنيّة ولو رمزيّة، وثالثها احتمال يدمج بين الجانب المدنيّ الوارد في الاحتمال الثاني وبين وجود قوة أمنيّة متعدّدة الأطراف على شاكلة قوة حفظ السلام الأوروبيّة التي حاولت حفظ السلام، ووقف اطلاق النار بعد الحرب الأهليّة في يوغسلافيا، والمسمّاة قوة تحقيق الاستقرار متعدّدة الجنسيّات( يوفور EUFOR) ، والتي ثبت فشلها خاصّة، وأنها اضطرت لضمان نجاعتها ونجاحها الاستعانة بأسلحة الجوّ الأوروبيّة، أو قوات الردع العربيّة والتي يشارك فيها ربما فلسطينيّون، وتاريخ هذه القوات التي نشطت في لبنان من العام 1976 وحتى العام 1990، خلال فترة الحرب الأهليّة هناك، يثبت فشلها فهي لم تستطع منع المواجهات المسلحة بين الأطراف المتنازعة ، رغم نجاحها في ضمان وحدة أراضي لبنان، تمامًا، كما لم تؤدّ مهامّها كما يجب عام 1991 خلال الحرب الأهليّة في الصومال، والخيار الثاني والثالث يواجهان الرفض الإسرائيليّ خاصّة بكلّ ما يتعلّق بالجوانب العسكريّة، خاصّة وأن الحكومة الحاليّة تؤكّد رفضها لوجود أيّ قوة عسكريّة فلسطينيّة داخل القطاع، والنتائج السلبيّة، أو الاستنتاجات والعبر التاريخيّة من اعتماد إسرائيل على قوات أجنبيّة، كما كان الحال عليه في جنوب لبنان عبر جيش لبنان الجنوبيّ بقيادة الجنرالين سعد حداد وبعده أنطوان لحد، وهي تجربة تكلّلت بالفشل الذريع.
على الصعيد الخارجيّ، إقليميًّا ودوليًّا، ثلاثة خيارات تواجه إسرائيل بعد نهاية الحرب، أولها إقليميًّا أنها تنازلت طوعًا عن دور مصر في حلّ الأزمات والنزاعات أمام قطاع غزة خلال العقدين الأخيرين، واستعاضت عنه بتبجيل وتعظيم ومضاعفة دور قطر، وهي التي أعلن أميرها تميم يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع أن إسرائيل تنفّذ جرائم حرب وإبادة شعب، وهي التي قبل ذلك موَّلت "حماس" منذ العام 2009 وبشكل خاصّ منذ العام 2014، بثلاثين مليون دولار شهريًّا يتم نقلها عدًّا ونقدًا إلى القطاع، وهي التي يقيم فيها قادة الحركة السياسيّين وفي مقدّمتهم خالد مشعل وإسماعيل هنية وغيرهما، وهي التي يتهمها قادة الأجهزة الأمنيّة بأنها عرَّاب "حماس" والسبب في وجودها، وأنها الرابط بينها وبين إيران وتركيا، والتي نقل عن رئيس الموساد دافيد برنياع، قوله هذا الاسبوع أن الجهاز أقسم على تصفية قادة "حماس" في غزة وتركيا وقطر وكلّ مكان، وفوق ذلك حاولت الدفع بأكثر من مليون غزي باتجاه الجنوب وسط تسريبات تؤكد أن المرجو، وربما المخطط له، هو أن تسمح مصر لهؤلاء بالإقامة في سيناء ، بمعنى تفريغ قطاع غزة من سكانها ونقلهم إلى سيناء وجعل المشكلة مصريّة بامتياز وليست إسرائيليّة، ناهيك عن تأثير ذلك على مواقف السعوديّة، والتي ازداد الحديث عن احتمال توقيعها اتفاق سلام أو صلح أو تطبيع مع إسرائيل، خاصّة وأن السعوديّة ورغم انتهاء أزمة الرياض والدوحة ما زالت تكن لقطر مشاعر الشكّ والريبة، على ضوء العلاقات المميزة للأخيرة مع إيران (رغم الصلح السعوديّ الإيرانيّ) وأنقرة، ، وثانيها أن إسرائيل بعد أن تنتهي الحرب، أو حتى قبل نهايتها، تجد نفسها في موقع من ينتظر أن تطالبه الولايات المتحدة بدفع الثمن مقابل دعمها التام وغير المشروط لها منذ أول أيام الحرب والذي وصل ذروته بتحريك حاملتي طائرات إلى حوض البحر المتوسط ردعتا "حزب الله" عن المشاركة في الحرب، وردعتا كذلك ودون شك إيران، خاصّة وأن الولايات المتحدة لا تخفي موقفها القائل أن مفاوضات إحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيّين يجب أن يتم استئنافها فور انتهاء الحرب، ففي العلاقات الدوليّة لا وجبات مجانيّة، وأن النتيجة التي تريدها أمريكا هي التوصل إلى حلّ الدولتين، وهو ربما ما يبرر إصرار أمريكا على أن تلعب السلطة الفلسطينيّة دورًا أساسيًّا في إدارة شؤون غزة بعد انتهاء الحرب، ما يعيد إلى الواجهة قضيّة الوحدة الجغرافيّة الفلسطينيّة، وبكلمات أخرى جعل غزة والضفة الغربيّة كيانًا واحدًا ، وهو ما تدعو إليه الدول الأوروبيّة التي وقفت إلى جانب إسرائيل طيلة الحرب، كقيادات وبدرجة أقل بكثير كشعوب، وهو ما يقود إلى الخيار الثالث، وهو ما يتوقعه كثيرون من تغيير ولو بطيء في موقف دول أوروبيّة، بدأته بلجيكا وإسبانيا، يصل حدّ اتهام إسرائيل باستخدام القوة المفرطة بلغة المؤيّدين وارتكاب مخالفات وفق القانون الدوليّ، بلغة المنتقدين والمعارضين، وهو ما قد يسهل على الأقل قيام منظمات دوليّة كمحكمة الجنايات الدولية بالتحقيق في احتمال ارتكاب إسرائيل مخالفات للقانون الدوليّ، وهو ما حدث سابقًا، وما سيكون له التأثير الكبير على إسرائيل، رغم أنها ليست عضوًا في المحكمة، وكذلك الولايات المتحدة، وهو تغيّر قد تفرضه على الحكومات، المواقف التي تعكسها المظاهرات الحاشدة المؤيدة للفلسطينيّين وغزة في مختلف الدول ومنها إيطاليا وبريطانيا وألمانيا والسويد وغيرها، ومن المنتظر في حال قام المدّعي العام بالتحقيق في هذه الحرب ستكون حصّة الأسد في الجريمة لحماس على أثر ما جرى في السابع من أكتوبر من قتل الأبرياء.
"ثلاثة خيارات"
ثلاثة خيارات تواجه إسرائيل داخليًّا، والتي تنتظرها مراجعات داخليّة على المستويين الأمنيّ والسياسيّ، بعد انتهاء الحرب في غزة ، وهذا هو الأهم في نظر معظم مواطني الدولة إن لم يكن لدى كلّهم، عملًا بقول دافيد بن غوريون رئيس الحكومة الأول لدولة إسرائيل، إنه ليس المهم ما يقوله الأغراب ، أي الأمور والمواقف من الخارج، بل ما يفعله اليهود أي الشؤون الداخليّة، فما كان قبل السابع من أكتوبر لن يكون بعده، وهذا ينطبق على كافة الأصعدة بدءًا بالائتلاف الحالي الذي رغم محاولات أعضائه العلنيّة الإيحاء بأنه صامد في وجه الأزمات، إلا أن أركانه تضعضعت خاصة داخل حزب الليكود الذي أكّد عدد من أعضائه أن على رئيس الوزراء إعلان مسؤوليته عن القصور والفشل الذي شهدته إسرائيل في السابع من أكتوبر، دون الحديث علنًا عن التنحي، لكن الرسالة تقرأ من عنوانها. بينما أعلن آخرون أن المطلوب بعد الحرب هو تغيير مبنى وطبيعة وأولويّات وأيديولوجيّات الائتلاف، وجعله ائتلافًا وطنيًّا تنبثق عنه حكومة وحدة وطنيّة تضمّ كافّة الأحزاب الصهيونيّة، بمعنى ربما التخلّي عن أحزاب إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش التي يرفض عدد من أحزاب المعارضة الجلوس معها في نفس الحكومة، وربما بعض أحزاب اليهود الحريديم، مرورًا بالأوضاع الجماهيريّة، أو الاحتجاجات الجماهيريّة التي سبقت الحرب، وانتهاءً بالاقتصاد والعلاقات بين العرب واليهود في البلاد والتي رغم الهدوء السائد داخليًّا وصلت حدًّا خطيرًا من التحريض اللفظيّ وغيره، والحقوق الديمقراطيّة وخاصّة حريّة التعبير، فالخيارات هنا ثلاثة أولها استمرار الحكومة الحاليّة وبقاء نتنياهو رئيسًا لها، ما يشكل استمرارًا لما وصفه بعض الصحافيّين والمحلّلين من أن نتنياهو الذي يريد اليوم مواصلة الحرب دون تحديد أهداف نهائيّة واضحة، يريد مواصلة ذلك عبر مواصلة ترأس الحكومة دون تحمّل المسؤوليّة، خاصّة وأنه يدرك أن انتصاره هو بمعنى عدم التنحي، أو عدم الإطاحة به، لا يتطابق مئة بالمئة مع الانتصار الذي يريده الإسرائيليّون، ومواصلة حياة الائتلاف رغم كل شيء وهذا عبر تشكيل لجنة تحقيق حكوميّة وليست رسميّة، يتم اختيار أعضائها من قبل الحكومة، تكون مهمتها إجراء تحقيق عاديّ دون صلاحيّات واضحة وصارمة ودون توصيات ملزمة، ما سيصب في مصلحة رئيس الوزراء، والذي يحاول بكلّ ما أوتي من قوة وبواسطة جيش من الإعلاميّين والناشطين في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وضع الجميع باستثنائه، في خانة الاتهام، والتنصّل من كونه من يتحمل المسؤوليّة الكاملة، والمتهم الأول بما حدث، خاصّة وأنه سبق لأحد قيادييّ الليكود ورئيس البرلمان الحالي أمير أوحانا ، الذي كان وزيرًا للأمن الداخلي خلال حادث مصرع 44 إسرائيليًّا في منطقة ميرون في الجليل الأعلى خلال طقوس دينيّة، أن قال الجملة المشهورة:" أنا مسؤول لكن ذلك لا يعني أنني متهم"، علمًا أن هذا الخيار يعني أن تتعاظم الاحتجاجات الجماهيريّة، وأن يشارك فيها مئات الآلاف الذين يحتجون على نتائج الحرب، وما سبقها وعلى خطوات الحكومة في مجال الانقلاب القضائيّ، وأن يتزايد الشرخ الاجتماعيّ الذي غيّبته مؤقتًا الحرب، لكنها وبتياراتها التحت أرضيّة، كفيلة، بل تضمن توسيعه خاصة على ضوء الانقسام حول كون نتنياهو المتهم أم لا. والمواقف هنا تنقسم سياسيًا بشكل حادّ وواضح للغاية وغير قابلة للنقاش والحلول الوسط، وبذلك فهي تجعل إمكانيّة الصدام الداخليّ والحرب الأهليّة أمرًا واقعًا وقريب الحدوث، وهذا ما يعززه ازدياد الرفض الداخليّ للحرب، حيث يرى البعض وخاصّة أهالي المحتجزين في غزة وغيرهم ، أن الهدف كان يفترض أن يكون إطلاق الأسرى والمحتجزين، دون أن تغرق إسرائيل عسكريًّا في غزة، ودون أن تعرض نفسها لاتهامات دوليّة جراء ما يتكشف يوميًّا من حجم الدمار وأعداد المدنيين الضحايا في القطاع، وارتفاع حصيلة الجنود الضحايا بشكل مضطرد خلال المعارك، بمعنى أن السقف العالي لأهداف الحرب التي صاغها نتنياهو وحكومته شكّل عنصر أزمة وانقسام داخل إسرائيل.
وثانيها التوجّه إلى انتخابات مبكرة تبدو نتائجها واضحة للعيان على ضوء الاستطلاعات التي تؤكد خسارة الليكود لنصف مقاعده البرلمانيّة وخسارة عدد من أحزاب الائتلاف بعض قوّتها خاصة حزب الصهيونيّة الدينيّة برئاسة وزير الماليّة، بتسلئيل سموتريتش، الذي تؤكّد الاستطلاعات أنه لن يجتاز نسبة الحسم، وبالتالي لن يكون ممثَّلًا في البرلمان القادم، وخسارة نتنياهو رئاسة الوزراء ليخلفه بيني غانتس، ما يعني أن نتنياهو سيواجه مصيره الذي سيحدّده قرار القضاة في محاكمته بالتهم الثلاث والتي تتواصل، وتحديدًا تم استئنافها مؤخرًا، دون أن يتمكن من اتّخاذ أي خطوات تؤدّي إلى وقف المحاكمة، أو إلغائها عبر تشريعات قضائيّة تصبّ في مصلحته، أما ثالثها فحكومة وحدة وطنيّة تشكّل تأجيلًا للقدر وليس إلغاءً له، فهي حكومة سيكون فيها نتنياهو رئيسًا صوريًّا ، تحدّ الشراكة مع يائير لبيد وأفيغدور ليبرمان وبيني غانتس وجدعون ساعر، تشكّل عودة الى حكومة إسحق شمير من العام 1989 والتي شكَّل ثلاثة من أعضائها، بل قياداتها وهم أريئيل شارون ودافيد ليفي ويتسحاك موداعي، جماعة معارضة داخليّة للحكومة تمت تسميتها " المعرقلون الداخليّون " بعد أن أقرت الحكومة خطّة عمل شملت تعزيز العلاقات مع مصر، وإقامة علاقات سلام مع دول عربيّة أخرى غير مصر، وإيجاد حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينييّن، والسماح بإجراء انتخابات في الضفة الغربية لاختيار ممثلي الفلسطينيّين في مجلس إدارة الحكم الذاتي الذي شمله اتفاق كامب ديفيد.
"الصورة قاتمة للغاية"
فلسطينيًّا أو غزيًّا الصورة قاتمة للغاية، تؤكد أن السابع من أكتوبر والذي اعتبره البعض نصرًا أو إنجازًا، كان وبالًا ومأساة، بل طامّة كبرى ستغير وجه قطاع غزة الى الأبد سيدفع ثمنها كما العادة الشعب الفلسطينيّ، وخاصّةً البسطاء والفقراء والأبرياء، يجب دراستها بتعمّق واستنتاج العبر السياسيّة والأخلاقيّة والأيديولوجيّة منها، وهذا فالعنف والقتل كما قال مارتن لوثر كينغ، لا يجلب السلام، حتى لو حقّق ما يعتبره البعض، وعادة ما يكون خطأ، إنجازًا مؤقّتًا، فطبيعة الحروب أن لا تتكشّف أسرارها ونتائجها بينما هي تدور في ساحات المعارك، بل إن نشوة القتال عادة ما تمنع الغالبيّة عن رؤية حقيقة ما يحدث، خلال حدوثه وبالتالي وقفه ومنع تفاقم نتائجه وأضراره وأعداد قتلاه، ليصح في ذلك قول بنيامين فرانكلين، العالِم والسياسي الأمريكيّ، من أنه لا تدفع قيمة الحروب في وقت الحرب ، بل إن الفاتورة تأتي لاحقًا، لكن الخطر في حالة حرب أكتوبر الثانية والحرب على غزة اليوم، والحروب بين إسرائيل والفلسطينيّين، هو أن نهايتها لا تعني بأيّ حال من الأحوال نهاية النزاع والكراهية، وعن هذا الواقع بالضبط قال ميخائيل نعيمة، إنه لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع، بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضًا .
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .