الصورة للتوضيح فقط - تصوير : Suzanne Tucker - shutterstock
تدفع البطلة باب المنزل القديم ببطء، ويُصدر الباب صريرًا. تدخل خائفةً وتفحص محيطها. تتدلّى خيوط العنكبوت من السّقف، ويغطّي الغبار الجدران، ويلفت ضوء خافق وامض من بعيد انتباهها. تخطو الخطوة تلو الخطوة نحو الضّوء، ويتردّد صدى خطواتها في فضاء المنزل المهجور. فجأة، تهبط يد على كتفها. يتخطّى قلبها نبضةً وتدور إلى الخلف هاربة بسرعة. إنّنا نستعدّ للأسوأ.
قال لها شريكها: "ها أنت! لقد بحثنا عنك في كلّ مكان". عندما تهدأ، نهدأ نحن أيضًا، حتّى أنّنا قد نبتسم. كان ذلك مخيفًا! وممتعًا! لكن، مهلًا، لماذا نستمتع بذلك؟
إنّه مخيف!
الخوف هو ردّ فعل طبيعيّ وضروريّ، وقد خدم أسلافنا وساعدهم في البقاء على قيد الحياة خلال تواجدهم في الطّبيعة، مثلًا خلال مواجهة الحيوانات المفترسة، وما زلنا نستخدم الخوف ونستعين به في حياتنا المعاصرة. تحدث سلسلة من التّغييرات في نشاط الجسم، تهدف إلى تحسين فرص بقائنا على قيد الحياة، وذلك كردّ فعلٍ لشيء مثير ما، يرى الدّماغ فيه خطرًا.
تضعنا هذه التّغييرات في موقف يُعرف باسم ردّ فعل "القتال أو الهروب" أو "الكرّ أو الفرّ" (Fight or Flight). ينشط، في هذه الحالة، الجهاز العصبيّ الودّيّ في الجسم - وهو عبارة عن مجموعة من الأوامر الهرمونيّة والعصبيّة الصّادرة من الدّماغ إلى سائر أعضاء الجسم، الأمر الّذي يعمل على زيادة يقظتنا ويهيّئنا للرّدّ السّريع على الخطر. يؤدّي هذا النّظام، إضافة إلى أمور أخرى، إلى زيادة وتيرة نبضات القلب والتّنفّس وإمداد العضلات بالطّاقة. تبدأ العمليّة عندما يُلقي الدّماغ توجيهاته لغددٍ معيّنة في الجسم لإفراز هرمونات مثل الأدرينالين والكورتيزول لِلدّورة الدّمويّة. تُحدث هذه الهرمونات، عندما تصل إلى الأعضاء المستهدفة كالقلب والرّئتين، التّغيير اللّازم في طبيعة عمل هذه الأعضاء.
اللّوزة الدّماغيّة (Amygdala)، هي جسم صغير في الدّماغ، شكلُهُ كحبّة اللّوز، هي المسؤولة عن القرار فيما إذا كانت خطورة موقفٍ ما كافية لإثارة الخوف. تستقبل اللّوزة الدّماغيّة الإشارات من حاسّتي البصر والسّمع وتقوم، بناء على هذه الإشارات، بتحليل موقف أو عارض ما، واتّخاذ القرار: هل هو خطير أم لا. تنشط هذه الغدّة، مثلًا، عندما نرى وجه إنسان يعبّر عن شعور معيّن، ويزداد نشاطها إذا كان الشعور سلبيًّا، كالغضب أو الذّعر.
وتشارك اللّوزة الدّماغيّة، أيضًا، في عمليّة ترميز ذاكرة الخوف، وقد أظهرت التّجارب على الفئران أنّها ضروريّة لترسيخ ذاكرة العامل المثير للخوف، على الأقلّ في ظروف المختبر. إنَّ تعلُّم الخوف من العوامل المُسيئة والضّارّة، هو قدرة ضروريّة لبقاء الفرد على قيد الحياة، ويحدث ذلك طوال حياتنا. نحن قادرون على أن نتعلّم، عن طريق التّجربة الفعليّة على أجسادنا، أيّ المحفّزات تشير إلى الخطر وأيّها لا، وَنلائم ردود أفعالنا وسلوكنا،عندما نتعرّض لهذه المحفّزات مرّة أخرى في وقت لاحق من الحياة، وفقًا لذلك.
هل ذلك خطير؟
ماذا يحدث عندما لا نتواجد في خطر حقيقيّ؟ كثيرة هي المخاطر الحقيقيّة في عصرنا الحاضر، مثلًا السّيّارات الّتي تمرّ بسرعة من جنبنا أثناء عبورنا الشّارع. لكن كوننا كائنات تُشَكّل بيئتها بنفسها، فإنّنا نمتلك امتيازًا فريدًا يتيح لنا التّواجد في مواقف تبدو خطيرة، ولكنّها ليست كذلك في الواقع.
توجد أمثلة كثيرة على ذلك: أفلام الرّعب الّتي نتعرّض خلالها للقطات مخيفة تتوسّط شاشة العرض؛ الأفعوانيّات (قطارات الجبال)، الّتي نشعر خلال الرّكوب فيها بالسّقوط الخطير وفقدان السّيطرة؛ القفز بالحبال حيث نسقط فعلًا إلّا أنّ كابلًا مرنًا وحزام أمان يحمِياننا؛ والمزيد من الفعاليّات الأخرى المتنوّعة. يشعر الجسم بالخطر في مثل هذه المواقف، ويستعدّ للتّعامل معه بمساعدة النّظام الودّيّ، لكنّنا نعلم عن وعيٍ أنّنا لا نكافح حقًّا من أجل البقاء على قيد الحياة، وأنّنا لم نفقد السّيطرة.
يفرز الدّماغ، في نهاية ما يخوضه الجسم من تجربة مثيرة، مجموعة أخرى من الهرمونات الّتي تسمّى اندورفينات، بالإضافة للهرمونات الّتي يفرزها الجسم للوصول إلى حالة الجاهزيّة والاستعداد. يرتفع مستوى الاندورفينات، أيضًا، بعد النّشاط البدنيّ الشّاقّ. تخلق هذه الموادّ شعورًا بالنّشوة يقاوم التّوتّر الّذي خضناه.
ويتمّ إفراز النّاقل العصبيّ الدّوبامين في اللّوزة الدّماغيّة أثناء إنشاء ذاكرة الخوف، ويرتبط الدّوبامين جزئيًّا بتنشيط نظام المكافأة الّذي يمنحنا شعورًا إيجابيًّا كردّ فعلٍ على الإنجازات. من شأن هذا المزيج من الإثارة الجسديّة المَزيدة، والإفراز الأوتوماتيكيّ لِلهرمونات في مجرى الدم، جنبًا إلى جنب مع رسائل التّهدئة الّتي تصل من أجزاء التّفكير في الدّماغ والّتي تدرك أنّ الخطر ليس حقيقيًّا، أن يؤدّي إلى شعور لطيف بالمتعة والإثارة.
يعمل على تماسك المجموعة
لقد أحبّ البشر تخويف بعضهم البعض منذ فجر التّاريخ. قد تكون القصص المخيفة أصلًا، هدفت إلى تحذير الجيل الشّابّ من المخاطر الّتي تتربّص بالإنسان خارج نطاق حضن المجتمع القبليّ، ومن التّخلّي عن قيم الحياة الدّينيّة والأخلاقيّة، إلّا أنّنا نروي القصص المخيفة منذ الكثير من السّنين، ونشاهد أفلام الرّعب من أجل الإثارة بحدّ ذاتها. يصعب تحديد درجة الخوف الّتي من شأنها أن تثير المتعة لدى كلّ شخص وآخر. تختلف القابليّة لحالات الإثارة ومقاومة المحفّزات المخيفة من شخص لآخر، لكلّ شخص قابليّة مختلفة للتّجارب المخيفة.
تتبّع باحثون من جامعة آرهوس (Aarhus) في الدّنمارك أشخاصًا مكثوا في منزل تسكنه الأشباح، وذلك لفحص طبيعة العلاقة بين الخوف والمتعة. فحص الباحثون وتيرة نبضات قلب المشاركين خلال التّجربة، ووثّقوها في اللّحظات الّتي بلغ فيها الرّعب ذروته، وطلبوا منهم تَدريج مستوى متعتهم خلال التّجربة. من تحليل العلاقة بين الخوف والمتعة، نتج منحنى على شكل الحرف العبريّ ח'. ذلك يعني أنّ المتعة لدى المشاركين بلغت ذروتها عندما كانوا خائفين، ولكن ليس كثيرًا. من أجل الاستمتاع وفقًا لمدى مقاومتنا للمحفّزات المخيفة، نحتاج أن نحدّد لأنفسنا بشكل دقيق، إلى أيّ مدى نريد الابتعاد عن منطقة الشّعور بالارتياح دون المبالغة في تَخَطّيها. اِتّضح من التّجربة، أيضًا، أنّ النّساء بلّغْن عن درجة خوف أكبر من الرّجال، ومتعة أقلّ.
توجد للخوف دلالة اجتماعيّة أيضًا. عندما يخوض أشخاص تجربة الخوف سويّةً، يُعزّز الخوفُ المُكوِّنَ المُبلوِرَ، وعادة ما تتعزّز وتتعمّق العلاقات الّتي ننشئها في أوقات الخوف والإثارة. وجدت دراسة أنّ الرّجال الّذين خاضوا تجربة مخيفة خلال إحدى التّجارب انجذبوا للباحثة التي أجرت التّجربة، مقارنةً بأولئك الّذين خاضوا تجربة محايدة معها.
تعتبر مشاهدة فيلم رعب وخوض تجربة المكوث في منزل تسكنه الأشباح من النّشاطات الممتعة الّتي يَستحسن الشّخص القيام بها سويّة مع الأصدقاء. من شأن التّواجد بالقرب من الآخرين أن يقلّل، أيضًا، من الانزعاج الّذي يصاحب مواقف الخوف والتّوتّر المتطرّفة.
يمكن أن يُشكّل الخوف المضبوط والخاضع للسّيطرة، في عصرنا الحاضر، عاملًا إيجابيًّا يزيد من الإثارة والتّماسك الاجتماعيّ. مع ذلك، علينا أن نتذكّر أنّ الطّريقة الّتي نخوض بها الخوف تختلف من شخص لآخر، وقد يكون لِلخوف المبالغ به والتّوتّر المتزايد تأثير سلبيّ على نشاطنا مع مرور الوقت. ولكن طالما أنّنا ندرك حدودنا، فلا يوجد سبب يمنعنا من إعداد إناءٍ مليء بالفُشار، والجلوس على الأريكة براحة وأمان مع الأصدقاء، ومشاهدة فيلم الرّعب الجديد.
ترجمة : خالد إبراهيم مصالحة – معهد دافيدسون