logo

حرب أكتوبر 1973 بين الحقائق العسكريّة والعبر السياسيّة

المحامي زكي كمال يكتب:
29-09-2023 07:49:20 اخر تحديث: 29-09-2023 07:57:53

لم تكن حرب أكتوبر سواءً بموعدها الميلادي، السادس من أكتوبر، أو العاشر من رمضان، أو بتسميتها العبريّة حرب يوم الغفران، الحرب الأولى بين إسرائيل والدول العربيّة ، بل هي الرابعة في هذا السياق سبقتها واحدة عام 1948

 المحامي زكي كمال - تصوير: موقعب بانيت وقناة هلا

والتي اعتبرها الفلسطينيّون نكبة وطامة كبرى، واعتبرها الإسرائيليّون حرب استقلال، وثانية عام 1956 اعتبرها العالم العربيّ عدوانًا ثلاثيًّا إسرائيليًّا، بريطانيًّا فرنسيًّا على مصر، وثالثة عام 1967، كانت معالمها ونتائجها واضحة، وهي نكسة انتهت باحتلال الضفة الغربيّة وكامل سيناء وهضبة الجولان وشرقيّ القدس، لكنّها وإن كانت نتائجها على أرض الواقع وهي النتائج المرئيّة للجميع والأسهل للتحليل والنظر والمراجعة، وهي استعادة مصر كافّة مناطق شبه جزيرة سيناء (مقابل تكريس احتلال إسرائيل لهضبة الجولان السوريّة بعد رفض سوريا لمبادرة الرئيس أنور السادات)، وسيادتها وسيطرتها على قناة السويس، وتمهيد الطريق، بل تعبيده بسلاسة وسرعة لاتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، التي وُقّعت عام 1978 إثر مبادرة السلام التي أطلقها الرئيس المصري أنور السادات، في تشرين الثاني 1977 وزيارته لمدينة القدس وخطابه أمام برلمانها، إلا أنها ورغم ما سبق، ما زالت تلك الحرب التي اختلفت حولها التقييمات، خاصّة وأنك لا تكاد تجد خبيرًا عسكريًّا واحدًا يجزم أن النصر التامّ كان حليف واحد من الطرفين، وأن الهزيمة كانت من نصيب الطرف الآخر، أو أن نهاية الحرب كانت واحدة من النهايتين العاديّتين اللتين ترافقان تاريخ الحروب، وتؤكّدان أن الحروب تنتهي إمّا بانتصار أحد أطرافها، أو بعقد هدنة تتبعها قرارات سياسيّة، أو انسحاب أحد الأطراف لعدم قدرته على الاستمرار، وهو ما لم يحدث فيها، فهي حرب خاضتها دولتان عربيّتان هما مصر وسوريا دون أن تنتهي إلى نتائج تصبّ في مصلحتهما كلّها، بل إن دولة واحدة استأثرت بالنتائج، من باب الحكمة، أو حسن التدبير، أو استغلال الفرص، أو استغلال إسرائيل لفرصة سنحت لتحييد مصر وإبقاء سوريا وحدها، ومعهم الفلسطينيّين برفضهم للحكم الذاتيّ في اتفاقيات كامب ديفيد، وفوق كلّ ذلك، فهي الحرب التي يختلف حتى السياسيّون العرب في تعريفها بمعنى ما إذا كانت فعلًا حربًا تحريريّة أي جاءت لهزيمة إسرائيل وربما اخضاعها، أو أنها تحريكيّة جاءت لهزّ عرش إسرائيل قليلًا لترتعد فرائص نشوتها التي عاشتها منذ العام 1967، والتي جعلتها تعيش وضعًا اعتقدت معه أن الدول العربيّة لن تجرؤ على أيّ عمل عسكريّ، وأنها أي إسرائيل صاحبة الجيش الذي لا يقهر ومالكة لسلاح الجو الذي اعتادت وصفه بأنه قبضة حديديّة، ستطال كلّ من تسوِّل له نفسه مجرّد التفكير في أيّ عمليّة عسكريّة، حتى أن هناك من يعتقد أن مجريات الحرب وخاصّة تلك المتعلّقة، ووفق ما كشفته الوثائق الرسميّة الإسرائيليةّ، بموقف الولايات المتحدة إزاء توسّلات إسرائيل بمدّها بالأسلحة خشية انهيار جيشها على ضوء خسائره خاصّة سلاح الجوّ والمدرعات، والتي يتّضح أن أمريكا اعتبرتها، وبقدر كبير من الصحّة في ذلك اليوم وفي العقود التي تلته، مبالغة إسرائيليّة في تصوير الخطر وتضخيم التهديدات التي تواجهها، وذلك تبريرًا لمطالبها بأسلحة جديدة، أو تبريرًا لتسلّحها النوويّ والذريّ وسياساتها اليوميّة في الضفة الغربيّة وغيرها، في حالة تعيد إلى أذهان البعض ما ردّدته إسرائيل طيلة عقود أن "الخطر الوجوديّ" الذي يشكّله العرب بشكل عام والفلسطينيّون بشكل خاصّ عليها، وهو ما يتكرر حول النوويّ الإيرانيّ.

 انتهت الحرب وما كان فيها وما بعدها، بين من يعتبرها خطوة من الدول العربيّة، على الهزيمة التي ألحقتها إسرائيل عام 1967 بجيوش ثلاث دول هي مصر وسوريا والأردن ورغم مساعدة قوّات أخرى، ونتائج حرب 1967 التي أعادت رسم خريطة المنطقة باحتلال الضفة الغربيّة وسيناء والجولان، وبين من يعتبرها بمجرياتها الكاملة ونهايتها وما سبقها، حبكة متكاملة تؤكّد أن الدول التي شنّتها لم تكن تؤمن بأّنها ستنتهي بإبادة إسرائيل او حتى هزيمتها، فالعالم عامّة والولايات المتحدة خاصّة لا يسمح بذلك، وأن هناك في العالم العربيّ، ومن أصحاب المناصب الكبيرة من أراد لهذه الحرب أن تكون كذلك، أي أن تكون حربًا تنتهي إلى عدم الحسم العسكريّ التامّ والواضح، بل أن تكون حالة يمكن للطرفين القول أنهما انتصرا فيها، فإسرائيل بعد أيام من التراجع والخسائر استطاعت اختراق التحصينات المصريّة، والوصول إلى الجهة الغربيّة من قناة السويس، بعد أن كانت مصر قد اجتازت تحصينات خط بارليف الشهير، إلى الجهة الشرقيّة منها، بمعنى أن هناك وفق المواد التي تمّ الكشف عنها من اعتقد أو أدرك، أنه مهما حدث فإن العمل العسكريّ لم يعد وسيلة لتحقيق الحسم في النزاع العربيّ الإسرائيليّ عامّة والشأن الفلسطينيّ خاصّة، لكن الأنكى من ذلك، وما يؤكّد خصوصيّة هذه الحرب هو ما تمّ كشفه من وثائق من أرشيف دولة إسرائيل بعد 50 عامًا من الحرب، أشارت إلى "وجود الملاك الحامي لدولة إسرائيل" وهو ليس الملاك بمعناه الدينيّ التوراتيّ، أو العسكريّ، بل المصريّ أشرف مروان، صهر الرئيس المصريّ الراحل حينها جمال عبد الناصر، الذي ترأس مصر إبّان هزيمة 1967، وتوفي في أيلول 1970، والمستشار المقرّب من الرئيس المصريّ أنور السادات، والذي أكّدت الوثائق أنه أراد لإسرائيل البقاء، وحتى تحقيق النصر على بلاده ووطنه وجيشه وقوّاته العسكريّة التي كان من أوائل المطّلعين على وثائقها وخططها، والذي اهتم بأمر إسرائيل أكثر من اهتمامه بأمر بلاده، فحذّرها – على حساب إخلاصه لبلاده والتي مكّنته من مناصب عليا- من نشوب الحرب، ولتأكيد ذلك كشف جهاز الاستخبارات الإسرائيليّ "الموساد"، صورة لأشرف مروان، صهر الرئيس المصريّ الأسبق جمال عبد الناصر ولاحقًا مستشار الرئيس أنور السادات، خلال لقائه مع "مشغّله" الذي حمل اسم "دوبي"، وذلك في إطار كتاب أصدره الموساد تحت عنوان "ذات يوم عندما يُسمح بالحديث" ويتحدّث عن دور الجهاز الاستخباريّ قبل وخلال الحرب، علمًا أن الكتاب يكشف عمل ودور ومساهمة أشرف مروان الذي لم يكتفَ بقيامه قبل ساعات من الحرب بتحذير إسرائيل منها خلال لقاء مع مشغليه في لندن، بل واصل تحذيراته ونقله المعلومات حتى خلال الحرب، خلافًا لمعظم العملاء والجواسيس الذين يفضّلون بعد انطلاق أتون الحرب التزام الهدوء منعًا لانكشافهم، وتحديدًا ما يحلو للمراقبين وصفه بأنه "المعلومة الذهبيّة" التي تتعلّق بتحرّكات الجيش المصريّ، وكان قدّمها لإسرائيل في حينه، والتي أفادت بأنّ المصريين ينوون عبور القناة في 14 من الشهر نفسه، وبناء على تلك المعلومة تغيّرت الخطة الاسرائيلية، وبدلاً من عبور القناة، تقرّر نصب كمين للجيش المصريّ في خطوة غيّرت وجه الحرب، ومنعت هزيمة إسرائيل، في حالة ما زالت حتى اليوم تثير التساؤلات والاستفسارات حول طبيعة أو نوعيّة العلاقة ما بين الدولة في العالم العربيّ ومواطنيها، وبشكل أدق الأسباب التي تجعل آلاف بل عشرات الآلاف من المواطنين في الدول العربيّة ومن أصحاب المناصب القياديّة، وقبلهم شخصيّات عربيّة وفلسطينيّة أخرى، تقرر عن طيب خاطر "نقض أبسط قوانين الانتماء والإخلاص" بل أقسى من ذلك، العمالة لدولة معادية، أو تعتبرها سلطات دولتهم معادية، ما يثير أسئلة كثيرة منها ما هو مدنيّ حول الانتماء والمواطنة، ومنها ما هو قيمّي حول الإخلاص والمبادئ، ومنها ما هو فوق ذلك وتحديدًا ما يعنيه من تفسير لحالة العالم العربيّ المتردية وزيف شعارات الانتماء والوطنيّة، فالتاريخ في قضية التخابر والتعامل يتكرّر، وإن اختلفت الاسماء والمواقع، وفي كتب التاريخ عبر وأمثلة ابتداءً بمن سوَّق نفسه قائدًا قبيل عام 1948 ليتّضح أنه تخابر وباع وخان، ومن كان بعد ذلك، في تلك الدولة العربيّة أو غيرها .. والأمثلة كثيرة من لبنان إلى سوريا وإلى مصر والضفة الغربيّة وغزة.

"ابعاد أخرى"
قبل الخوض في الأسئلة حول حرب أكتوبر، واستمرارًا لما سبق حول النتيجتين المحتملتين للحرب، هزيمة ونصر أو سلام، يمكن القول أن نتائج الحروب المعاصرة أو حالات الحرب ، وإضافة إلى الجوانب العسكريّة تشمل جوانب وأبعادا أخرى تشمل عملاء الحرب والأغنياء الجدد من شركات وتجّار الأسلحة، كما تخلق الأبطال والأساطير من الداخل والخارج بمن فيهم الجاسوس إيلي كوهين الذي نشط لسنوات طويلة في سوريا ، كما في كلّ الحروب التي خاضتها إسرائيل، بما فيها حرب أكتوبر التي توَّجت في نظر إسرائيل، أبطالًا منهم الجنرال أفيغدور كهلاني الذي يتمّ سرد أساطير دفاعه عن معسكرات الجيش في هضبة الجولان ما منع نصرًا مبينًا للجيش السوريّ وصولًا إلى ضفاف بحيرة طبريا، لكن يبدو أن إسرائيل نفسها تعترف ضمنًا هذه المرّة بأن نتائج حرب أكتوبر لم تكن، بل إنها ما زالت غير واضحة، فأشرف مروان الذي كان من حذَّر إسرائيل من مغبّة نشوب الحرب دون أن يستمع إليه أحد، كان من الأولى بإسرائيل أن تعتبره بطلًا لو كانت تعتبر نتائج الحرب نوعًا من الانتصار، لكنها تؤكّد وفق الوثائق التي تم الكشف عنها أن أشرف مروان رغم مساهمته ورغم وصفه بأنه "ملاك" "الموساد" كان عميلًا عاديًا للموساد عمل في خدمة إسرائيل، وليس عميلًا مزدوجًا ، كما يرفض الموساد وفق وثائقه محاولات مصر، التعامل معه وكأنه ذلك البطل القوميّ، وفي ذلك رسالة واضحة أن مروان كغيره ممّن عملوا لصالح الموساد، كانوا وما زالوا وسيلة لتحقيق غاية تنتهي صلاحيّتها بتحقق الغاية، ورغم ما سبق فإن هذه الحالة تؤكّد ضرورة طرح أسئلة شجاعة في الدول العربيّة حول ظاهرة العملاء لصالح الموساد الذين يتمّ تجنيدهم في الدول العربيّة وإيران والمناطق الفلسطينيّة، وما يلف هذه الظاهرة التي تشكل في نظري دليلًا واضحًا بل مقلقًا يؤكد مرة تلو الأخرى السهولة التي تتمكن بها الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية وربما الأجهزة الأمريكيّة وغيرها من تجنيد العملاء في العالم العربيّ في صفوفها، وتنوّع الأدوار التي يقوم بها هؤلاء العملاء، وسبل مواجهة هذه الظاهرة، وفوق كلّ ذلك بل قبل كل ذلك، حول نتائجها خاصّة وأنها سواء أردنا أم أبينا، تؤدي إلى ضرب الروح المعنويّة للدول كافّة وحركات المقاومة وإرباك عملها، فالكشف عن العملاء في هذه الهيئات يعرض صفوفها للبلبلة، ويزيد من الشك ويقلص الثقة بين عناصرها، ويدفعها لإجراءات تقلّل من جدواها وفاعليّتها، كما يسهم في ضرب الروح المعنويّة للجمهور، لأنه يكشف عن حجم الاختراقات وخطورتها، مما يقلّص ثقة الجمهور بالمؤسسات، كما أنها خاصة في حالة إسرائيل والتعاون، أو التخابر معها تحمل أسئلة أكثر حول الخيانة والأمانة والانتماء الجماعيّ مقابل الانتماء الفرديّ، وهو آفة العالم العربيّ خاصّة وأن زعماءه في معظم الأحيان يصلون سدّة الحكم على صهوة شعارات الوطنيّة والجماعيّة والانتماء العامّ والمصلحة العامّة والعمل لمصلحة الوطن، سرعان ما تتبدّل وتتغيّر لتتحوّل إلى اهتمام بالفئويّة والمصلحة الشخصيّة وجني الأرباح وتكديس المال وقمع المعارضين والخصوم، وتسخير السلطة لخدمة السلطان فقط، مع تكريس وبقاء وتعزيز الأنظمة الاستبداديّة في العالم العربيّ التي بنشاطها الذي يميّزه القمع والكبت والغوغائيّة وإبقاء المواطن والمواطنين باستثناء بعض المقربين من القوة والسلطة، في نهاية سلم الأولويّات الوطنيّة والإنسانيّة، تقتل عنصر الانتماء في نفوس الكثير من المواطنين في الدول العربيّة وغيرها ، وهو ما يخلق بيئة مناسبة لعمل الموساد، كما أكد كبار قادة ونشطاء الموساد ومنهم رافي إيتان المعروف من قضية تجنيد جوناثان بولارد، ورئيس الموساد الأسبق شبتاي شافيط، لكنّ الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ في نظري، فالدول العربيّة اليوم، وهذا ما يدركه مواطنوها لم تقم ولم تتم إقامتها لمصلحة مواطنيها، بل خدمة لأهداف أخرى تخدم الدول الكبرى من جهة أو بعض المصالح الإقليميّة من جهة أخرى بعضها طائفيّ ودينيّ ضّيق، وبالتالي وبما أن الديمقراطية التي تضمن المساواة وعدم تفضيل جماعة على أخرى، معدومة في العالم العربيّ، وبالتالي يتصرّف البعض من المواطنين وحتى المسؤولين من منطلق" إذا كانت دولتي لا تهتمّ بي، فمن حقّي الاهتمام بنفسي أولًا". ولكن فوق ذلك، هناك سؤال آخر يتجاهله كثيرون في هذه القضية يتعلّق بمكانة إسرائيل وموقعها وما إذا كانت الأنظمة العربيّة المتعاقبة ومنذ العام 1948 وحتى اليوم قد نجحت في تجنيد الرأي العام أيّ مواقف مواطنيها وإقناعهم بالحجّة والبرهان لتأييد مواقفها وسياساتها تجاه إسرائيل، أم أن هذه الأنظمة والقيادات كالعادة، تتّخذ المواقف والسياسات دون أيّ اهتمام لمواطنيها، ودون أيّ اعتبار لكونهم مجموعة لها رأيها، حتى وإن منعتها الأنظمة الاستبداديّة من قوله، حول وجود إسرائيل من عدمه وحول كونها دولة ديمقراطيّة يتمتّع مواطنوها بالديمقراطيّة، وإن لم تكن تامّة وكاملة، ويعيشون حالة من الرخاء الاقتصاديّ والتقدّم الصناعيّ، وربما الاجتماعيّ، وتتمتّع بسمعة واحترام عالميين، وبكلمات أخرى، هل نجحت القيادات العربيّة في إقناع مواطني دولها أن إسرائيل هي عدو لشعوب المنطقة وخطر عليهم، وليس فقط عدو للقيادات، أم فشلت في ذلك تمامًا، كما فشلت في تسويق السلام معها بأنه سلام بين الشعوب وليس بين القيادات، والنتيجة أو الحقيقة الواقعة هي أن إسرائيل ورغم المجريات التاريخيّة والسياسيّة تشكّل في نظر الكثيرين من مواطني الدول العربيّة مصدر جذبٍ واهتمام، خاصّة على ضوء استقرارها وقوتها وتقنيّاتها ودور شركاتها الكبرى وتأثيرها العالميّ في مختلف المجالات، وهو ما اتّضح جليًّا في مواقف مواطني الدول التي وقّعت مع إسرائيل اتفاقيّات أبراهام، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام الإسرائيليّين من المواطنين وأصحاب الشركات على حدّ سواء.

إضافة إلى ذلك، فإن قضية أشرف مروان، وإن كان ربما المسؤول العربيّ الأعلى منصبًا، الذي تمّ الكشف عنه على الأقلّ، إلا أنها تؤكّد أن تجنيد العملاء هو حالة ترافق الصراع الإسرائيليّ العربيّ بكافّة جوانبه، منذ نحو قرن من الزمن، عبر ما تم الكشف عنه من مساهمة لفلسطينيّين وعرب في بيع الأراضي لصالح الوكالة اليهوديّة، قبل قيام دولة إسرائيل وبيع الأراضي في مرج بن عامر وغيره خير دليل، وبيعها لمستوطنين بعد قيام الدولة سواء كان ذلك في الضفة الغربيّة وشرقي القدس، والكتب التي صدرت في إسرائيل حافلة بالأسماء والتفاصيل والشخصيّات التي كان لها الدور البارز في ذلك، في تأكيد على أن الانتماء هو ليس حالة مولودة، أو موروثة مئة بالمئة، بل هي في مجتمعات معيّنة حالة مكتسبة يعزّزها احترام الإنسان وحقوقه وحياته وكيانه وضمان أمنه ومعيشته وكرامته، فواجب الانتماء لا يمكن أن يتحقّق إذا لم يتوفّر الشقّ الثاني من المعادلة وهو الحقوق، ناهيك عن أن الدولة التي تحكمها سلطة مستبدة هي دولة تفقد انتماءها إلى مواطنيها، وبالتالي يصحّ هنا القول أن فاقد الشيء، أي الدولة التي تفقد الانتماء لمواطنيها كأفراد وجماعات، لا يمكنها أن تعطيهم أو تعلمهم الانتماء، بغضّ النظر عن المستوى الثقافيّ والاقتصاديّ للمواطن، ما يؤكد مرة أخرى ضرورة طرح السؤال التالي في حالة الدول العربيّة، بينها وداخلها، :" إذا لم تكن اللغة و التاريخ والثقافة والعرق والدين هي ما يحدّد قوة ومتانة الانتماء، ويمنع العمالة والخيانة، فما الذي يحدّد الانتماء إذن، وإذا كانت هذه الأبعاد والروابط لا تكفي لتجمع بين أطياف المجتمع الواحد، وتمنع شرذمته وعنفه وتفكّكه فما الذي يكفي؟ ناهيك عن أن الترسيمات الجغرافيّة لم تمنع هذا التفكك، ومن هنا فإن هناك حاجّة في كافّة أنحاء العالم العربي عامة والمجتمع العربيّ في إسرائيل خاصّة، إلى نظرة معمّقة لمعنى ومسببات وعوامل الانتماء. وهي عوامل تتغيّر وتتبدل بمعنى أن وزن وقيمة بعضها تزداد، أو تنقص في عهود مختلفة، فالعلوم الاجتماعيّة تعتبر الانتماء بمثابة ارتباط للفرد بالجماعة، وهو ارتباط يرغب الفرد فيه باعتباره بجماعة، أو مجموعة قويّة يتقمص الفرد شخصيّتها ويشعر أنه هي تمامًا، وبالتالي لا يكن لمجتمع ضعيف ومتهالك دون حقوق، ودون قوة أن يشكل مصدر انتماء لأبنائه، والقوّة هنا لا تعني العسكريّة فقط، ولا تتعلّق بكون المجتمع يقيم دولة مستقلّة أم لا، بل إن مجرد شعور الفرد إن جماعته قويّة ومتماسكة، ولها وزنها واحترامها وهدفها الواحد والموحّد يجعله يتشبّث بالانتماء لها والتاريخ زاخر بالأمثلة كانتماء المواطنين في الهند إلى بلادهم رغم احتلال بريطانيا لها، وانتماء الجزائريين إلى ثورتهم وبلادهم رغم ضعفها العسكريّ والاقتصاديّ مقابل فرنسا وهكذا دواليك، ومن هنا فإن مشكلة الانتماء ومنها تشتق مظاهر التخابر والخيانة، كما في حالة أشرف مروان، لا يمكن حلّها بشعارات غوغائيّة حول المصير الواحد والأمّة الخالدة ووحدة اللغة والدين ، بل بخلق أجيال من المواطنين يدركون أنهم جزء من مجموعة قويّة يستمدّون منها قوتهم وقدراتهم ويعتزّون بكونهم جزءًا منها، وليس العكس، فالحديث عن كرامة وطنيّة وعن انتماء للدولة، هو حديث في العموميات ما دامت الدولة كمنظومة متكاملة مهزوزة وضعيفة، وما دام الانتماء للوطن لا يختلف في نظر الحكام عن الانتماء للحاكم ، بل إن المواطن في الدول العربيّة مطالب بالولاء للحاكم أولًا ومن ثمّ المجموعة، في حالة اجتماعيّة وسياسيّة غير مسبوقة، تعني بصريح العبارة أن المواطن العربيّ مطالب بالولاء التامّ دون أن يردّ له وطنه ذلك، ومطالب بالإخلاص والتفاني حتى لو كان الوطن قد نسيه والحكام قد تجاهلوه، ما يجعل دولة تهتمّ بمواطنيها، وتبذل الغالي والنفيس من اجلهم حتى لو واجهوا المصاعب في آخر الدنيا، مزارًا ومكانًا يتوق إليه الكثيرون جسديًّا أو نفسيًّا، أو بأيّ شكل من أشكال التواصل والعلاقة، إضافة إلى أن هذه الظاهرة، أي تراجع الانتماء في الدول العربيّة، هي نتاج واضح لحالة سياسيّة ملخصها إقامة واستقلال دول بقرار سياسيّ، في بعض الأحيان خارجيّ، دون المرور بالمراحل الحقيقة والضروريّة اللازمة لصياغة مجتمع مدنيّ يتحوّل بشكل طبيعيّ إلى كيان له مقوّماته وأسسه، وإلى دولة مبنيّة على أساس وجود مؤسّسات تجسّد معاني الثقافة المدنيّة، وهو ما شهدته أوروبا بشكل متزامن مع عمليّة تحديث المجتمع الأوربيّ وإقامة الدول المختلفة، بمعنى أن عمليّة التحديث والبناء والاستقلال كانت شاملة وطالت جميع جوانب المجتمع الماديّة والثقافيّة، وبالتالي جسّدت الثقافة المدنيّة الجانب القيميّ الأهمّ في مسألة الانتماء الوطنيّ، أي ليس فقط الانتماء إلى التراب الوطنيّ، بل إلى الوطن كصرح سياسيّ ثقافيّ إنسانيّ يشكّل التجسيد الكامل للثقافة المدنيّة وثقافة المواطنة، وهي التي تكاد تكون معدومة في العالم العربيّ، أو أنها تتغيّر وتتبدّل دون دراسة ووفق تأثيرات خارجيّة، فعوامل الانتماء في العالم العربيّ كانت مدنيّة وعلمانيّة ثم قوميّة وحدويّة ثم دينيّة، لكن هذه العوامل لم تكن حقيقيّة، ولا نتاج تغيرات وتطورات على أرض الواقع، بل " فرمانات رئاسيّة" كالشيوعيّة في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، ثمّ الوحدة القوميّة بين الدول كمصر وسوريا في الستينات وقضية الجمهوريّة العربيّة المتحدة، ثمّ اللجوء إلى الدين ونشوء الحركات الأصوليّة، وفي كلّ هذه الحالات لم يكن المواطن حرًّا في خياراته ولا حرًّا في إبداء رأيه أو ممارسة دوره الفعليّ، كشريك في بناء وتعزيز الانتماء وصياغة مفهومه وطريقة ممارسته، بل طلب إليه، أن "ينتمي" وأن يقبل بحقيقة أن هناك من قرّر كيف وبأي قدر يكون الانتماء.

"منح الإنسان ما يضمن إنسانيّته وكيانه"
 ختامًا: طبيعة الإنسان أن يبحث عن حريته وعن كيانه، والحرية لا تعني فقط المنصب والعمل والمكانة والشهرة، بل هي مجمل المشاعر التي يمكن اختصارها في " منح الإنسان ما يضمن إنسانيّته وكيانه" وهذه مكونات تختلف لكنّها تجمع بين الشعور بأن بإمكان الإنسان أن يختار، وأن دوره في بناء كيان بلاده هو دور يحظى بالتقدير، وأن القرارات التي تتخذ بصدده لا تتجاهله كفرد ولا تصدر كفرمانات مقدسة، وأن السياسات توضع من منطلق مصلحة الجميع، وإلا فإن مشاركة المواطن في بناء بلاده لا تكون من منطلق الانتماء الكامل والتامّ مدنيًّا وسياسيًّا ومؤسساتيًّا. ومن هنا تكون الطريق قصيرة نحو خروجه من " قالب الانتماء الجماعيّ المفروض عليه عنوة"، أو الخروج من الانتماء الموجود إلى المنشود وهو الحريّة، عملًا بقول بنيامين فرانكلين: "حيث تكون الحريّة يكون الوطن"، بمعناه الواسع الذي لا يخلو أحيانًا، بل ربما تغذيه، الحالة التي يعيشها العالم العربيّ من انجذاب كبير للهويّة الأجنبيّة (عقدة الخواجا)، وانبهار بالثقافة الخارجيّة، وخنق الهويّة المدنيّة والوطنيّة الحقيقيّة وانعدام المواطنة الحقة.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]