logo

مقال : بين المقارنة العلميّة والمقاربة السياسيّة

بقلم : المحامي زكي كمال
22-09-2023 13:02:42 اخر تحديث: 22-09-2023 13:54:45

مدركا الفوارق الواضحة بين البحث العلميّ خاصّة المقارن منه، وعمله على شرح ومعرفة كيفيّة وأسباب الظواهر العلميّة المختلفة عبر مقارنتها مع بعضها البعض من حيث أوجه الشبه



المحامي زكي كمال

 والاختلاف فيما بينها، وفحص الظروف الدقيقة المرافقة للظواهر، وبالتالي محاولة إيجاد الروابط والشبه أو الفرق، وتوقّع حدوثها أو تكرارها، أو تكرار نفس النتيجة كلّما تكرّرت نفس الظواهر، وما يحدث في نفس المضمار في علم السياسة، أو البحث السياسيّ المقارن. وهو ما وصفه جون ستيوارت بأنه دراسة ظواهر سياسيّة تحدث في مجتمعات متشابهة، أو مختلفة، ومحاولة الوقوف على أوجه الشبه والاختلاف، نحو دراسة مستمرّة للتشابهات والاختلافات مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الظاهرة السياسيّة غير المستقرّة، والتي تشكّل تحدّيًا كبيرًا لمن يحاول الاستقصاء والاستنتاج مستعينًا ببحث ظواهر سياسيّة كانت في مجتمع ما، وتتكرّر متشابهة أو موازية، أو قريبة في مجتمع آخر، والجزم أو الاعتقاد بما يشبه اليقين بأن نتائجها ستكون نفسها ..

أكتب مقالي هذا على وقع ما تشهده إسرائيل في الشهور الأخيرة خاصّة والسنوات الأخيرة عامّة من تشريعات وخطوات سياسيّة وعسكريّة وغيرها، تندرج ضمن توجّهات تجعل إسرائيل تقترب بخطىً حثيثة من اعتبارها، أو المخاطرة باعتبارها تنفّذ سياسة التمييز والفصل العنصريّ، في داخل أراضيها من جهة والضفة الغربيّة من جهة أخرى، كما كشفتها أقوال رئيس الموساد الأسبق تمير باردو، الذي أدلى بها لوكالة "أسوشييتد برس"، واعترف فيها بأن إسرائيل هي فعلًا دولة فصل عنصريّ، حيث نُقل عنه قوله:" هناك دولة فصل عنصريّ.. هنا أرض يخضع فيها شعبان لنظامين قانونيّين مختلفين ، فهذه دولة فصل عنصريّ، يمكن للإسرائيليّين ركوب السيارة والقيادة أينما يريدون، باستثناء قطاع غزّة المحاصر، بالمقابل، لا يستطيع الفلسطينيّون القيادة في أيّ مكان.

وعندما يكون هناك تجمّعان سكانيّان يخضعان لنظامين قانونيّين مختلفين، فإن هذا يعدّ تجسيدًا لنظام الفصل العنصريّ"، في تصريح أثار غضب اليمين الإسرائيليّ الاستيطانيّ خاصّة، ومعظم القيادات السياسية الإسرائيليّة عامّة، باعتباره قولًا يأتي من فم من كان في موقع اتّخاذ القرار وتنفيذه، مدركًا للحقيقة والواقع الذي تعمل إسرائيل بآلتها الإعلاميّة على تجميله، أو تحديدًا عملت على تجميله وتلطيفه حتى جاءت الحكومة الحاليّة، وكشفت وجهها الحقيقيّ عبر تشريعات وتصريحات تؤكّد أنها دولة لليهود، وأن حياة مستوطنيها اليهود أثمن وأغلى من حياة الفلسطينيّين أصحاب الأرض في الضفة الغربيّة، وأنها تريد هناك منظومتي حياة، الأولى آمنة ومستقرّة تصونها قوّة الجيش للمستوطنين تضمن حياتهم وأمنهم والثانية مشروطة ومنقوصة، أو معدومة تنغّص حياة الفلسطينيّين أصحاب البيت، وتجعلهم في المرتبة الثانية والثالثة مشروطي الحريّة والحياة، وأحيانًا مسلوبي الحريّة، كما تريد داخلها منظمّات حياة مدنيّة مختلفة لليهود والعرب يتمّ وفق كلّ منظومة تحديد سقف الحقوق لمن ينتمي اليها، فإسرائيل دولة لليهود، وليست يهوديّة، وبالطبع ليست ديمقراطيّة بالمكان الأول، وبالتالي هناك أولويّة للحفاظ على حياة وأمن اليهود، ومنع انتشار العنف والجريمة بينهم عبر أجهزة تطبيق القانون القائمة والمتّبعة كالشرطة وغيرها، وباستخدام ما نص عليه القانون المدنيّ من إجراءات قضائيّة تضمنها الديمقراطيّة حتى لو كانت شكليّة أو صوريّة، تمنع التعسّف والظلم وتسييس الشرطة، بينما هناك حاجة وضمن اختلاف منظومات التعامل ، لمعاملة الأقليّة العربيّة رغم كونهم مواطنين في الدولة، عبر تشكيل "حرس قوميّ" يعتبرهم تهديدًا على الأمن وخطرًا على السلطة ومنح وزير سياسيّ متطرّف صلاحيّة إصدار الأحكام والاعتقالات الإداريّة على خلفيّة جنائيّة، ودون شرح الأسباب ودون رقابة قضائيّة، ووقف النشاط السياسيّ والمجتمعيّ والطلابيّ، وإغلاق وسائل الاعلام والحرمان من العمل والتعليم والحقّ في السكن من منطلقات قوميّة وأخرى وحرمان السلطات المحليّة والبلديات. وهي الذراع المحليّة للحكومة والتي توفر الخدمات اليوميّة من الميزانيّات لمجرد كونها عربيّة، لا تنتمي إلى مجموعة الأغلبيّة العرقيّة والدينيّة، أي اليهود.

 أقوال رئيس الموساد هذه، وتجنّبًا للتجنّي، أو التسرّع في إصدار الحكم والوصول إلى استنتاجات، يجب وضعها في سياقها الصحيح تاريخيًّا وسياسيًّا. ولذلك، فهي ليست حدثًا منفصلًا قائمًا بحدّ ذاته، وإن كان توقيتها اليوم، وفي ظلّ محاولات الحكومة الحاليّة، تنفيذ انقلاب دستوريّ، وجعل إسرائيل دولة تحكمها سلطة واحدة هي الحكومة، تمتنع السلطة القضائية فيها عن إبداء الرأي وقول الحقيقة والدفاع عن الحقوق، إضافة إلى هويّة قائلها، تجعلها هامّة للغاية إعلاميًّا على الأقلّ، لكنها باستثناء ذلك أمور يمكن القول وبمراجعة سريعة، أنها تعبير عن مظاهر وظواهر تكرّرت منذ قيام الدولة بوتيرة مختلفة ومتنوّعة، وبحدّة تتفاوت وتختلف، وإن اختلفت التسميات والتبريرات دون أن يجرؤ أحد ربما على " تسمية المولود باسمه الصحيح" ، ودون أن يتمكّن أحد من البوح بالحقيقة الساطعة لأسباب سياسيّة وأخرى، أو خوفًا من تشويه السمعة، أو التزامًا بالمصلحة العامّة والرواية الجماعيّة والجمعيّة، وإن لم تكن صحيحة لكنّها تصبح الموقف السائد انطلاقًا من اعتبارات غريبة تفضّل إخفاء الحقيقة، أو تجميلها، رغم ان المقاربات التاريخيّة والمقارنات بين الأحداث تؤكّد أن تشابه الظروف، حتى في العلوم والحياة السياسيّة. وهي ليست من العلوم الدقيقة ينذر بنفس النتائج وبالتالي يستوجب نفس التسميات.

قبل الخوض في التفاصيل والمقاربات والمقارنات خاصّة حول ما قاله رئيس الموساد السابق تمير باردو، وتسميته بواقع أبارتهايد يتم تنفيذه فعليًّا، على أرض الواقع وبشريعة وشرعنة تشريعات وائتلافات حكوميّة وسياسيّة تخلق واقعًا سياسيًا يعتمد الأغلبيّة الائتلافيّة غطاءً لتنفيذ سياسات غير شرعيّة، لا بدّ من العودة إلى التاريخ السياسيّ، والاعتراف بأن أقوال باردو هذه رغم تأخّرها تعبّر عن نوع من "الشجاعة" بغضّ النظر عمّا إذا كانت شجاعة مبدئيّة وقيميّة، أو موقفًا سياسيًّا من حكومة كسرت قواعد اللعبة، وقرّرت بنشوة ائتلافيّة متهوّرة تجاهل كافّة الأولويّات الاقتصاديّة والحياتيّة والاجتماعيّة والتمحور صياغة حالة سياسيّة، تعني تسخير كلّ ما يجب لتنفيذ أجندات سياسيّة ضيّقة واستغلال فرصة لن تعود، وخلق حقائق على الأرض تكون غير قابلة للتغيير، أو دون رجعة كضمّ الضفة الغربيّة ومنع المواطنين العرب من التصويت، وشرعنة المستوطنات كلّها وتغيير مكانة المواطنين العرب المدنيّة وتقليص حقوقهم وغير ذلك، وتحديدًا إلى ما جاء ذكره في كتاب:" نهاية الشجاعة: من أجل استعادة فضيلة ديمقراطيّة" لسينتيا فلوري ، الفيلسوفة والمحلّلة النفسيّة، وأستاذة العلوم السياسيّة في الجامعة الامريكية في باريس، حيث ترى المؤلفة أن المجتمعات، خاصّة تلك الحديثة والمتحرّكة وغير المستقرّة خاصّة في نظامها الديمقراطيّ، سقفًا كئيبًا، يزيح الغمامة عن العيون، ويجعل البعض يرى حقيقة الواقع الكئيب،. وهو كتاب من قسمين تبحث الكاتبة في جزئه الأول "آيات الشجاعة"، وفي الجزء الثاني" سياسة الشجاعة" .

وتؤكّد أن "الشجاعة السياسيّة الشجاعة هي توفيق بين الاستقامة والمرونة"، وهو تعريف مرن يعني أن السياسيّين وأصحاب المناصب السياسيّة، أو المحكومة بسلطة سياسيّة، ورئيس الموساد الإسرائيليّ أحدهم، يحاولون ضمن مهامّهم التوفيق ما بين الحقيقة من جهة، وبين الرغبة في الاستمرار في الحياة ، مضيفة أن الوصول إلى لحظة الشجاعة السياسيّة، وكم بالحريّ الشجاعة الشخصيّة والقيميّة والأكاديميّة والمهنيّة، هي لحظة قاسية معناها أن تخرج من مسار القطيع، وأن تخرج من الصفّ، وأن تكون مميزًّا وظاهرًا واستثنائيًّا، أن تقاوم نظامًا تعتبره غير صحيح وغير عادل، وبالتالي وضمن نظام ديمقراطيّ حقيقيّ يحترم أقلّيّاته وحقوقها وينشد المساواة بعيدًا عن التقوقع العرقيّ والفوقيّة الدينيّة والقوميّة، على الجميع القبول بلعبة شجاعة قول الحقيقة والاستماع إلى من يخاطر بقول الحقيقة، نحو ترسيخ لعبة ممارسة الحقيقة والحريّة، وخلق ميثاق سياسيّ ديمقراطيّ، وإلا فإن رفض ممارسة الحقيقة السياسيّة يعني بكلمات أخرى، التمييز والفصل العنصريّ والتمييز الفئويّ، وكلّها مسمّيات تشكّل منظومة الأبارتهايد، وفق القانون الدوليّ، أو على الأقلّ وفق المقارنات والمقاربات التاريخيّة ، من حيث التصرّفات من جهة والتحلّي بالشجاعة السياسيّة والأخلاقيّة من جهة أخرى، في موقعين الأول موضع أقوال تمير باردو، أي إسرائيل، والثاني الموقع الوحيد على البسيطة الذي اختار بمحض إرادته الشيء ونقيضه، بمعنى أنه اختار تطبيق نظام الابارتهايد والفصل العنصريّ، ثم اختار التحلّي بالشجاعة الكافية ليس فقط للاعتراف بوجوده والتراجع عنه، بل العمل على تفكيكه نهائيًّا وهو جنوب أفريقيا عبر قائدها فريدريك دي كليرك الذي كان لي شرف معرفته الشخصيّة ولقائه.

" تثبيت سيطرة وفوقية وحقوق فئة سكانيّة واحدة"
من باب المقاربة التاريخيّة لا بدّ من ترتيب الحقائق، وهي واضحة للعيان، إذ صبّت سياسات إسرائيل وقرارات وتشريعات حكوماتها المتعاقبة، ومنذ إقامتها عام 1948 في مصلحة تثبيت سيطرة وفوقية وحقوق فئة سكانيّة واحدة ومحددة وذات أولويّة، بأعذار مختلفة ومتنوّعة ومتغيرة، تستند إلى اعتبارات في ظاهرها أمنيّة وفي حقيقتها قوميّة وعرقيّة، نحو تحقيق أقصى حدّ من السيطرة على الأراضي لصالح اليهود، عبر هيئات تكرّس "أن الارض لليهود" كالوكالة اليهودية ودائرة أراضي إسرائيل، وقوانين تشرعن ذلك كقوانين التخطيط والبناء، ولجان القبول والتجمّعات السكنيّة اليهوديّة ذات الطابع الخاصّ ، وبناء مدن وقرى لليهود فقط، واستقدام المهاجرين الجدد من اليهود فقط، مقابل تشكيل هيئات وسنّ تشريعات تحكم الحيّز العامّ للعرب داخل الدولة، وتنزع ملكيتهم عن أراضيهم، وتمنع توسيع مناطق سكناهم وتحول دون إقامة بلدات جديدة لهم، بل تمنعهم من حقّ السكن في مئات التجمّعات السكنيّة اليهوديّة وربما ستمنعهم قريبًا من شراء المساكن في مدن مختلطة، بتشريعات يريدها وزير القضاء ياريف ليفين، بمعنى أن العوامل السكانيّة العرقيّة كانت منذ 1948 وحتى اليوم تجاه المواطنين داخل إسرائيل، السبب الرئيسيّ والمباشر للتشريعات والسياسات فيها، وأنها هدفت إلى إحداث وتكريس تغيير التركيب السكانيّ للدولة الجديدة لصالح اليهود حتى عام 1967 عبر فرض الحكم العسكريّ حتى العام 1966، وتقنين وتقليص حريّات العرب، بينما شكَّل اليهود فئة موحدًة وفوقيّة، تتمتّع بحالة قانونيّة خاصّة تحظى بامتيازات ومنصوص عليها في القانون الإسرائيليّ، منها ما يتعلّق بالحقّ في التعليم والعمل واشتراط الخدمة العسكريّة، وهي غير مفروضة إلزاميًّا على فئات واسعة من المواطنين العرب، عذرًا ومعيارًا للقبول في أماكن عمل معيّنة. وهي مواقف وتوجّهات تواصلت ضمن سلسلة قوانين وقرارات لسلطات حكوميّة ، حاولت تطبيق ذلك على أرض الواقع ممّا اضطرّ المواطنين العرب للتوجّه إلى القضاء للحصول على المسكن، كما في حالة قرار محكمة العدل العليا في قضيّة المواطن عادل قعدان، وإقامته في بلدة حريش اليهوديّة، حين ادّعت دائرة أراضي إسرائيل أن البلدة أقيمت لليهود فقط، وهي نفس المحكمة التي لم تستطع رغم قرارها ضمان حقّ مواطني قريتي إقرث وبرعم من العودة إلى منازلهم رغم قرارها من العام 1950، وهي نفسها التي لم تجرؤ على إلغاء قانون المواطنة، أو ما يسمى بالعربيّة "قانون منع لم الشمل" الذي يحظر زواج فلسطينيّين، أو فلسطينيّات مع مواطنين ومواطنات من العرب داخل إسرائيل، لأسباب أمنيّة ظاهريًّا عرقيّة في الحقيقة. وللمقارنة، كان هناك قانون مشابه في جنوب افريقيا، من العام 1949 حظر الزواج بين البيض وأيّ شخص من أيّ عرق آخر، حتى لو كان من نفس الديانة، معتبرًا اللون والعرق أساس المعاملة ومصدر الحقوق.

وإن كانت الحكومات المتعاقبة، ولأسبابها قد خفّفت من وتيرة التشريعات والمبادرات التي تصبّ في نفس الخانة، أي تفضيل اليهود وخلق منظومتين حقوقيتين مدنيتين وقضائيّتين، واحدة للعرب داخل إسرائيل والفلسطينيّين في الضفة الغربيّة والثانية لليهود داخل إسرائيل والمستوطنين اليهود في الضفة الغربيّة، جاء قانون القوميّة من العام 2018، ليزيل الشك باليقين وليؤكّد لكلّ من في رأسه عينان أن إسرائيل، تنازلت عن مكانتها كدولة ديمقراطيّة، أو حتى دولة يهوديّة ديمقراطيّة وأصبحت دولة لليهود فقط، وأنها بقانون صريح وواضح تشرعن، ولاعتبارات قوميّة واضحة ومكشوفة ودون وجل أو خجل، كون اليهود فئة قومية تتمتّع بالفوقيّة، وأنهم أعلى درجة من المواطنين العرب على مختلف انتماءاتهم ، أما محكمة العدل العليا، والتي تعتبر في كلّ بلاد العالم ملاذ الأقليّات فصمتت صمت أهل القبور ورفضت الالتماسات المقدّمة ضد القانون وتذرّعت بقانون" حريّة الإنسان وكرامته" كضمان للمساواة، وهنا كانت بداية المنزلق، فالقانون يشرعن فوقيّة عرقيّة وفوقيّة دينيّة واقتصاديّة وحقوقيّة وسكنيّة وتعليميّة وأكاديميّة وثقافيّة ولغويّة، وماليّة وميزانيّات، يعتبرها لليهود أولًا ثمّ لغيرهم في المرتبة الثالثة أو الرابعة ما يعني خلق منظومتين، الأولى للفوقيّة اليهوديّة وحقوق أفرادها مضمونة في كلّ مجالات الحياة تشرعنها التشريعات، ومنظومة أخرى أقلّ قدرًا ومكانةً وحقوقًا وأضيق من حيث آفاق تقدّمها وتطورها، يعتبر أفرادها مواطنين مشروطين، أو مؤقّتين، عليهم إباء إخلاصهم للفوقيّة اليهوديّة والتزامهم بأجنداتها وروايتها التاريخيّة والسياسيّة والدينيّة وإلا فهم محرومون من الميزانيّات والدعم والحقوق، نحو واقع فتح الباب على مصراعيه أمام وزراء الحكومة وأعضاء البرلمان ومسؤولين آخرين، بإطلاق تصريحات عنصريّة تتبعها أعمال تمييزيّة منها مثلًا قيام رجال الدين اليهود بتحريم تأجير شقق سكنيّة للطلاب الجامعيين العرب أو بيعها لهم، ورفض بعض المشغلين تشغيل عرب لمجرّد كونهم كذلك، لينتفي شرط الخدمة العسكريّة كدليل على المنطلقات العرقيّة.

"فرض السيطرة والحكم"
والشيء بالشيء يذكر، فالحديث اليوم عن أنه من حقّ الحكومة الحاليّة وأغلبيّتها اليمينيّة الواضحة برلمانيًّا على الأقل وتشكيلة ائتلافها اليمين المتدّين الاستيطانيّ، سنّ القوانين التي يريدونها لفرض السيطرة والحكم، أو ما يمكن تسميته بالحوكمة وفرض النظام وضمان أمن الدولة اليهوديّة وحقوق مواطنيها اليهود، هو حديث يؤكّد ضرورة المقاربة والمقارنة التاريخيّة، مع خطوات أرادت تكريس الفوقيّة البيضاء وبالتالي سارع القوميّون ( على وزن حكومة اليمين القوميّة في إسرائيل) في جنوب أفريقيا، مستعينين بأغلبيّتهم البرلمانيّة القانون تلو القانون لقمع كلّ من تسوِّل له نفسه، من الأقليّات القوميّة والعرقيّة والسياسيّة والفكريّة معارضة الفصل العنصريّ وقوانينه، عبر قوانين غريبة منها قانون قمع الشيوعيّة، ومُنِح وزير العدل سلطة إصدار قرارات تعسفيّة تقيّد بشدة الحريّات الشخصيّة، تشمل عقوبات الإقامة الجبرية، وحظر التجمّعات السياسيّة والاجتماعات والتأطّر الحزبيّ وصولًا إلى حظر الخطابة أو الكتابة وفرض القيود على الإنتاج الأدبيّ والثقافيّ، وفرض العقوبات على كلّ من لا يتماشى ويتماهى مع فوقيّة الرواية والقوميّة، حتى أمكن فرض العقوبة "على الجناة" لتبلغ السجن لمدّة خمس سنوات، مثلًا على رفع علم حزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ، حزب نيلسون مانديلا ( وهو ما تحاول بعض شخصيّات الائتلاف الحكوميّ الحالي هنا في إسرائيل فعله اليوم من تجريم وتحريم لرفع العلم الفلسطينيّ) وشملت التشريعات إمكانيّة الاعتقال لمدة 30 يومًا بدون محاكمة، يتم تمديدها إلى ثلاثة أشهر، ثم ستّة أشهر ، وأخيرًا الاحتجاز إلى أجل غير مسمّى، وهو نسخة طبق الأصل لما يريده وتحت شعار محاربة الجريمة في المجتمع العربيّ، وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ، من سنّ قوانين تمنحه شخصيًّا كما تمنح الشرطة سلطة سَجن المواطنين العرب الإسرائيليّين دون غيرهم ، دون تهمة أو محاكمة ولأسباب جنائيّة، وهي سياسة تمارس بالفعل في الضفة الغربيّة، ناهيك عن رغبته في إقامة ميليشيا خاصّة أطلق عليها اسم" الحرس الوطنيّ" تكون تحت إمرته وأوامره.

وقبل الختام، هذه المقاربات والمقارنات، وعلى ضوء ما سبق، تتزايد حدة وتشابهًا خاصّة على ضوء العلاقات الخاصّة والمميزة التي ربطت إسرائيل بجنوب أفريقيا إبان فترة الفصل العنصريّ، وصفقات بيع الأسلحة بين الطرفين، والحقيقة الساطعة أن إسرائيل عارضت كافّة قرارات الأمم المتحدة التي أدانت الأبارتهايد الجنوب أفريقيّ، تمامًا كما امتنعت جنوب أفريقيا عن تأييد أيّ قرار للأمم المتحدة يشجب سياسات إسرائيل، حتى تغيّر الحال بعد انتهاء نظام الفصل العنصريّ مطلع التسعينات من القرن الماضي بقرار شجاع من فريديك دي كليرك، يستوجب وقوفًا خاصًّا ، باعتبارها الشجاعة التي جاءت من أجل استعادة فضيلة ديمقراطيّة، أي ضمن ظروف أمكن لدي كليرك لو أراد مواصلة انتهاج التفرقة العنصريّة والفصل العنصريّ لكنّه رفض ذلك، إيمانًا منه بأن هذا ما يجب فعله، دون أن ينتظر لسنوات طويلة بعد إنهاء مهام منصبه الرسميّ، ليتوب عن ما فعله عن طيب خاطر خلال مهامّه الرسميّة، وهنا الفارق في الشجاعة القيميّة والشخصيّة، وهي سلعة نادرة في السياسة العالميّة عامّة، لكنّها معدومة في السياسة الإسرائيليّة، على الأقلّ خلال العقود الأربعة الأخيرة، باستثناءين أولهما قرار رئيس الوزراء مناحيم بيغن التنحّي عن منصبه مطلع ثمانينات القرن الماضي على خلفيّة جرّه من قبل حكومته ووزير أمنها إلى مغامرة حرب لبنان الأولى، وقبله استقالة سلفه إسحق رابين على خلفيّة حساب مصرفيّ لزوجته، لتنتهي مظاهر الشجاعة السياسيّة ولتحلّ محلّها" عبارات البوليتكلي كوريكت" وكأنه عليك خلال مهامّ منصبك التزام الصمت والهدوء والانصياع للتعليمات الصادرة من الجهات السياسيّة. وهي ليست موضوعيّة كلها، بل قد تكون شخصيّة، وحتى لو كانت غير مقبولة، وتلوح منها سمات الأوامر غير الشرعيّة وغير القانونيّة، وذلك من منطلق الإخلاص للوظيفة، وهو ما يتضّح اليوم في إسرائيل، لينبري فجأة قادة أجهزة أمنيّة رفيعو المستوى صمتوا دهرًا ثم نطقوا كفرًا، نفّذوا السياسات بحذافيرها وأقسى صورها، ثمّ اتّضح لهم وبقدرة قادر ، بعد إنهاء مهامّهم، أنهم كانوا على خطأ، محذّرين اليوم من استمرار الاحتلال، وترسيخ قيم التفرقة العنصريّة وسلب المواطنين العرب داخل إسرائيل والفلسطينيّين في الضفة الغربيّة حقوقهم، عبر خلق منظومات قانونيّة وخدماتيّة ومدنيّة منفصلة، تقدِّس فوقيّة اليهود دون غيرهم، وتهتمّ بأمنهم دون غيرهم، وقبل غيرهم وربما على حساب غيرهم، وأعداد القتلى جرّاء حوادث العنف في الوسط العربيّ دليل صارخ على ذلك. أما استخدام الادّعاء الغوغائيّ بأن هذا العنف هو وليد ثقافة وحضارة عنيفة فهو مدماك آخر من الفوقيّة والفصل العنصريّ، والتنصّل من المسؤوليّة التامّة فعدم مكافحة العنف في الوسط العربيّ هو سياسة وعدم فرض القانون سياسة باستثناء ما يهمّ الأغلبيّة، أو جماعة الفوقيّة، وهو الحال في أمثلة مختلفة في العالم تؤكّد أن السياسة مصلحة، وأن الشجاعة ليست صفة السياسيين أمثال طوني بلير رئيس الوزراء البريطانيّ الذي اعترف بعد نحو 20 عامًا بأن غزو العراق كان نتيجة معلومات استخباريّة مضلّلة وغير صحيحة كان من الواضح ربما منذ البداية أنها غير صحيحة، بل صفة القادة أمثال فريديريك دي كليرك، ونلسون مانديلا، وغيرهما ، وبالتالي فإن مشكلة إسرائيل الحقيقيّة وهي التي كنت قد أشرت إليها في السابق هي أن كثرة السياسيّين وانعدام القادة، وبالتالي تتغيّر الأمور وتمتنع القيادة عن اتّخاذ القرارات الشجاعة، أو تفضّل عدم رؤية الظواهر معتقدة أنها ستزول من تلقاء نفسها اقتصاديًّا وأمنيًّا وسياسيًّا، أو تندم حين لا تنفع آيات الندم مستعينة بالقول الممجوج :"ما يمكن مشاهدته من هنا لا يمكن مشاهدته من هناك"، أي باختلاف الموقع والصلاحيّة، وهو القول الذي تحوّل الى عذر سافر يحاول الكثيرون عبره تبرير آثام الماضي، وغسل اليدين وتنقية الضمير.

هي مقارنة ومقاربة لظواهر مماثلة ومتشابهة، تؤكّد اليوم وعلى ضوء ما يحدث من محاولة انقلاب دستوريّ لحكومة اليمين ،يدمج بين أمرين أولهما داخليّ إسرائيليّ يعني إضعاف جهاز القضاء ومنع الرقابة والمحاسبة، وثانيهما لا ينفصل عنه ويعني ضم الضفة الغربية والسيطرة عليها، وإدامة الاحتلال ومنع أيّ إمكانيّة لتغيير الوضع، بل تكريسه قضائيًّا وسياسيًّا وعمليًّا، وهنا مكمن الخطر، وبالتالي تنطلق اليوم أصوات تؤكّد ضرورة عدم الفصل بين الاحتجاجات ضد الانقلاب القضائيّ وبين قضيّة الاحتلال، وهو ما يؤكّد بالتالي أهميّة مواجهة ما يحدث من قبل الجماعات الأكثر تضرّرًا من تكرار الظواهر التي شكّلت عصب نظام التفرقة في جنوب أفريقيا، ونقلها ربما بتسميات مخفّفة، وبتشريعات تتمّ في دولة يعتبرها الكثيرون خاصّة في أوروبا وأمريكا ديمقراطيّة وليبراليّة تحفظ حقوق الإنسان وتحترم القانون الدوليّ، وفصل السلطات، لكنّ التاريخ يصرّ دائمًا على قول كلمته دون انتظار إذن من أحد، لتتحوّل الديمقراطيّات بجرعات صغيرة ومتواصلة من ليبراليّة ومساواة إلى فوقيّة عرقيّة ودينيّة، وإلى دكتاتوريّة الأغلبيّة في أحسن الأحوال ودكتاتوريّة العرق والدين في غيرها، وهنا بيت القصيد فأقوال رئيس الموساد السابق تمير باردو خطيرة لكنّ خطورتها أقل، طالما كان يتحدّث عن حالة يحدث الفصل العرقيّ فيها بين السكان الفلسطينيّين واليهود داخل الأراضيّ المحتلة وما يحكم مكانتها من أعراف وقوانين دوليّة لا تعترف بها جزءًا من دولة إسرائيل، وليس ضمن إطار الدولة الواحدة والمواطنة الواحدة، أي ليس بين عرب ويهود يتمتّعون بنفس الجنسيّة، ويحملون المواطنة الإسرائيليّة ، ويبدو أن استمرار الحكومة الحاليّة يشير وينذر بأن هذا أيضًا قادم.