الدكتور محمود عبد العال فراج -صورة شخصية
مفاده أنه إذا لم تترجم الأعمال التركية إلى لغات متعددة هل كان العالم من مشرقه إلى مغربه قادراً على فهم هذه الأعمال؟
وهل كان صنّاع الأعمال الدرامية قادرين على تسويقها للعالم دون ترجمة لتلك الأعمال؟ هذا ما قادني إلى مجموعة من التساؤلات باعتبار أن بيع الأعمال التلفزيونية التركية أو السينمائية صارت من أهم مصادر الدخل للدولة التركية، حيث ذكرت وكالة الأناضول التركية أن حجم مبيعات المسلسلات التركية للعالم تجاوز مبلغ 500 مليون دولار أمريكي في العام 2018م، وذكر موقع العربي الجديد أنه من المتوقع أن حجم تلك المبيعات قد يصل إلى مليار دولار في العام الجاري 2023م، وهذه أرقام جديرة بالتأمل والتحليل. إضافةً إلى ذلك أن ترجمة تلك الأعمال تلعب دوراً حاسماً وكبيراً في تعزيز القوة الناعمة لتركيا، وهذا ما سنذكره لاحقاً، كما وسنحلل كيف للترجمة أن تساعد في تمكين القوة الناعمة للدول والمؤسسات.
" الترجمة بدأت قبل الاف السنين "
في الحقيقة، بدأت عملية الترجمة في العالم قبل آلاف السنين، وتطوَّرت تدريجياً على مر العصور، حيث تمَّ ترجمة النصوص من لغة إلى أخرى لأغراض دينية، وأدبية، وعلمية في العصور القديمة، ثم تمَّ ترجمة الأعمال الفلسفية، والعلمية الكلاسيكية اليونانية واللاتينية إلى لغات أوروبية مختلفة. كما ولعبت هذه الترجمات دوراً كبيراً في تفسير الأفكار الكلاسيكية ونقلها إلى العالم الإسلامي وأوروبا في العصور الوسطى، ثم جاء عصر النهضة في أوروبا والذي قدَّمت الترجمة فيه دوراً ملموساً في ترجمة العديد من الأعمال اليونانية واللاتينية إلى اللغات الأوروبية الحديثة، وهو ما ساعد في انتشار أفكار النهضة وتقدُّم الفهم الإنساني والعلمي مع تقدُّم التكنولوجيا ووسائل الاتصال في العصر الحديث. أصبحت عمليات الترجمة أسهل وأسرع، كما تأثرت الترجمة بالعولمة، حيث أصبحت لغات العمل والتجارة تتقاطع بشكلٍ أكبر اليوم، حيث تلعب الترجمة دوراً حاسماً في تيسير التواصل بين الثقافات واللغات المختلفة، وتسهم في نقل المعرفة والثقافة والأفكار عبر الحدود باعتبارها أداة أساسية في التفاعل الدولي والتبادل الثقافي والاقتصادي، حيث لعبت الترجمة تاريخياً دوراً هاماً في تطور الاقتصاد والتفاعلات الثقافية بين مختلف الشعوب فكانت الترجمة تُستخدم لنقل المعرفة والأفكار بين الحضارات المختلفة، مما ساهم في تطور العلوم والثقافة، فتاريخياً كانت ولا تزال عاملًا حيوياً في تعزيز التفاهم بين الشعوب والتبادل الاقتصادي العالمي، وقد ساهمت في تكوين العالم كما نعرفه اليوم في العصر الحديث.
" حاجة ماسة "
هناك العديد من الأسباب التي تجعل عالم الأعمال بحاجة ماسَّة للترجمة منها الوصول إلى أسواق دولية حيث تسمح للشركات بالوصول إلى أسواق جديدة حول العالم، ويمكن ترجمة مواقع الإنترنت والمواد التسويقية لاستهداف جمهور دولي وزيادة فرص النمو، وكذلك التواصل مع العملاء الدوليين، فالشركات بحاجة إلى التواصل بفعالية مع العملاء الدوليين الذين يتحدَّثون لغات مختلفة وذلك يشمل التفاوض على الصفقات وتقديم خدمة العملاء بلغات متعددة، ومن ثم العمل على بناء الشراكات الدولية والتحالفات وتوضيح الشروط والاتفاقيات، كما تساهم في نقل المعرفة والتكنولوجيا بين مختلف أرجاء وبقاع العالم، وهذا يتطلَّب معرفة دقيقة للغات الشركات المصنعة للتكنولوجيا الحديثة، وكذلك حاجة الشركات والدول لها من أجل ترجمة الوثائق المالية والقانونية بهدف التزام تلك الدول والشركات بالمتطلبات وامتثالها للقوانين واللوائح المنظِّمة لقطَّاع الأعمال سواء كانت القوانين واللوائح محلية أو دولية، وهذا ما يتطلَّب معرفة وثيقة باللغات التي كُتبت بها تلك القوانين واللوائح. كما لا ننسى أهمية الترجمة ودورها الحيوي في تسهيل السفر والتنقُّل بين دول العالم المختلفة بهدف إبرام العقود وعقد الصفقات المالية والتجارية والاقتصادية. كما ولعبت الترجمة دوراً مفصلياً في ترجمة العديد من المعايير المالية التي يتطلَّبها قطّاع المال والأعمال لتنظيم أعمالهم، فلولاهم لكان من الصعوبة وجود أرضية مشتركة في قراءة وفهم وتحليل القوائم المالية لمختلف الشركات والمؤسسات المحلية والعالمية، فقد خلقت الترجمة تلك الأرضية الصلبة التي مكَّنت المهتمين بقراءة وتحليل القوائم المالية من خلال اعتماد لغة موحدة لتلك التقارير، وهو ما ساهم في اتخاذ العديد من القرارات الاقتصادية والمالية على مستوى العالم. باختصار مثَّلت الترجمة جزءاً أساسياً من استراتيجية الأعمال العالمية، وتمكَّنت الشركات من الاستفادة من الفرص العالمية والتفاعل بفعالية مع العملاء والشركاء في جميع أنحاء العالم.
" الترجمة والاقتصاد "
تؤثر الترجمة على الاقتصاد بشكلٍ كبير، فهي كما أسلفنا تساعد في مهام التواصل بين الشركات والأفراد من مختلف الثقافات واللغات، مما يعزز التجارة الدولية وزيادة التبادل التجاري.
كما تلعب دوراً هاماً في التسويق العالمي والإعلان، حيث يمكن أن تساعد في توصيل رسائل العلامة التجارية بفعالية للجماهير الدولية، بالإضافة إلى تعزيز تجارب السفر العالمية وتسوق الأفراد وارتياد الجامعات والمعاهد وإكمال مسيرة الدراسة. بالإضافة إلى تعزيز وتحسين تجربة السياحة العلاجية وارتياد المستشفيات ومراكز الأمراض المختلفة التي لولا وجود الترجمة ما انتشرت وجهات علاجية في منطقتنا العربية كمملكة تايلند والهند وتركيا وألمانيا وغيرها من الوجهات العلاجية التي صارت مقصد للكثير من سكَّان الوطن العربي وغيرهم، بالإضافة إلى قدرتها على تعزيز ونقل التجارب الطبية المتقدمة إلى مناطق متفرقة في أنحاء العالم. كما وتبسط الترجمة سيطرتها وسطوتها في عمليات التفاوض وتوقيع العقود واكمال الأعمال في بيئة متعددة اللغات، علاوةً على ذلك دورها الهام والكبير في نقل المعرفة والأبحاث العلمية عبر الحدود، وتسهم الترجمة أيضاً في التواصل الفعّال مع الشركاء التجاريين والعملاء الدوليين، مما يعزز التجارة والاستثمار، ومما يسهم أيضاً في التقدُّم التكنولوجي والاقتصادي، فالترجمة تسهم بشكلٍ كبير في تعزيز التفاعل والتعاون الدولي وتوسيع الفرص الاقتصادية في العالم.
" غزو العديد من الدول "
وبالعودة إلى التجربة التركية واستفادتها من وجود كبير من الأجانب على أراضيها، فقد ساعدت وساهمت ترجمة اللغة التركية إلى لغات مختلفة المنتجات والخدمات التركية في غزو العديد من دول العالم ابتداءً من منطقتنا العربية ومروراً بالدول الأوروبية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول. كما ساعدت في تعزيز فهم العملاء الأجانب للثقافة والقيم التركية، مما يزيد من فرص نجاح العمليات التجارية، كما ساهمت بشكلٍ كبير في إنجاح الدبلوماسية التجارية التركية، وصارت بفضلها تركيا من أهم الشركاء العالميين في أفريقيا مع الصين والهند. ولا ننسى دورها الفاعل في الترويج العالمي للسياحة في تركيا، حيث تعتمد الجمهورية التركية بشكلٍ كبير على صناعة السياحة، وترجمة المواد السياحية تساعد في جذب سياح من مختلف أنحاء العالم. وباستخدام الترجمة بالشكل الحالي، تمكَّنت تركيا من تعزيز تواجدها في الأسواق العالمية وزيادة صادراتها، مما ساهم في تعزيز النمو الاقتصادي وتعزيز التفاعل مع العالم الخارجي، وإن كانت بحاجة إلى مضاعفة جهودها في الإبقاء على التواجد الأجنبي وتوعية المجتمع التركي بما ساهمت به ترجمة لغتهم للعديد من اللغات المستخدمة في أنحاء العالم المختلفة، وما أضاف ذلك من قيمة مضافة للاقتصاد التركي وجعلها قوة إقليمية تجارية واقتصادية لا يستهان بها. مع إيماننا المطلق بأن الجمهورية التركية وشعبها قادرين على إحداث نقلة نوعية في الاقتصاد العالمي، وفي هذا الصدد لا أحد يستطيع نكران مقدرة الاقتصاد التركي على التكيُّف على التحديات والصعوبات الكبيرة التي واجهها في فتراتٍ مختلفة واستطاع تجاوزها، إنما يجب التذكير بأهمية الالتفات وعمل جوائز عالمية للمصنّفات والأعمال التي تترجم اللغة التركية إلى لغات عالمية أخرى بما يساهم في تعزيز وتطوير وتحسين جودة الأعمال الاقتصادية والتجارية والفنية التركية بما يمثل بُعداً اقتصادياً ذا نفع على المجتمع والاقتصاد التركي.
" دور هام في النهضة الاقتصادية "
وإضافةً إلى ذلك وعلى غرار التجربة التركية وغيرها من التجارب العالمية الأخرى التي استخدمت الترجمة أيما استخدام في تشكيل وتحقيق نهضة اقتصادية، فإن الترجمة تلعب دوراً هاماً في تحقيق النهضة الاقتصادية في العديد من المجالات من خلال تعزيز التواصل، وتوسيع الأسواق، وتعزيز التعليم والتدريب، وكونها جسر لتعزيز العلاقات الدولية، فالترجمة تسهم في تخفيف حواجز اللغة وتعزيز التفاهم الثقافي والاقتصادي، مما يساعد في تعزيز النهضة الاقتصادية كما ينبغي، حيث أن أهمية الترجمة وتأثيرها المباشر وغير المباشر على الميزان التجاري للدول هي أداة قوية لزيادة الصادرات والواردات، وبالتالي تؤثر على الميزان التجاري إذا تمَّ استخدامها بشكلٍ فعال. يمكن للدول تحقيق توازن أكبر في هذا المجال من خلال زيادة صادرات الدول إلى دول العالم المختلفة بالتعريف على مزايا صادرات الدول، بالإضافة إلى كونها وسيلة لتحسين القدرة على التفاوض والتعاون مع شركاء دوليين بما يساهم في وصول الواردات الفعَّالة. كما أن ترجمة المعلومات التقنية والتعليمات يمكن أن تزيد من قدرة الشركات المحلية على تطوير وتصنيع منتجات متطوِّرة ومطلوبة عالمياً، بما يؤدي إلى زيادة الصادرات وتحسين مواصفات المنتج المحلي وقدرته على المنافسة بالأسواق العالمية والدولية، يمكن للدول تعزيز قطاع السياحة وجذب المزيد من الزوَّار الدوليين، فزيادة الإيرادات من السياحة تؤثر بشكلٍ كبير، كما وتعزز الترجمة التفاهم بين الدول والثقافات، وتسهم في بناء علاقات دبلوماسية وتجارية قوية تؤثر بشكلٍ إيجابي على الميزان التجاري.
الاقتصاد الإسلامي وما صار له من أهمية كبرى في كل العالم أيضاً تأثَّر بالترجمة، حيث أنها لعبت دوراً محورياً في تعزيز وفهم الاقتصاد الإسلامي وتطوّره من خلال نقل مفاهيم ومبادئ الاقتصاد الإسلامي إلى لغاتٍ عديدة، وهو ما ساهم في تعزيز وفهم هذه المبادئ وتطبيقها في الاقتصاد العالمي. كما أنها لعبت دوراً هاماً في نقل مفاهيم الأخلاقيات والعدالة الاقتصادية في الإسلام إلى العالم بأسره، مما يشجّع على ممارسات اقتصادية أكثر توجهاً نحو العدالة، ومن خلالها تمَّ توفير الترجمة للعقود والاتفاقيات الاقتصادية الإسلامية بما سهَّل للشركات والمستثمرين من مختلف الثقافات الاستفادة من فرص الأعمال والتعاون في الأسواق الإسلامية بشكلٍ عام. كما أنها ساعدت في نقل الأبحاث والمقالات الاقتصادية الإسلامية إلى لغاتٍ متعددة، مما عزز التبادل العلمي وعمق فهم هذا النوع من الاقتصاد. عند ترجمة الأعمال الأدبية والفنية والأفلام أيضاً يتسنَّى للدولة أو المؤسسة تصدير ثقافتها وقيمها إلى جمهور أوسع من العالم، مما يعزز فهمهم لهذه الثقافة ويعزز تأثيرها الناعم وإضافة قيمة مضافة لاقتصادها، وهنا يجدر الذكر أن مسلسل "قيامة أرطغرل" والد مؤسس الدولة العثمانية على سبيل المثال حقَّق أرقام قياسية في مبيعاته، حيث قدرت عدد مشاهداته حوالي 3 مليار، وتمَّ عرضه في 85 دولة، وتمَّت ترجمته إلى 25 لغة، وتخطَّت إيراداته المليار دولار أمريكي، وهو رقم جدير بالملاحظة والتحليل، وهو مسلسل ساهم في تحسين الصورة المغلوطة عن الدين الإسلامي، وتعتبر مثل هذه الأعمال من أحد قطاعات الاقتصاد الإسلامي، فالفنون وغيرها من القطاعات الأخرى تشكِّل في المُجمل كامل الصورة للاقتصاد الإسلامي، وعليه يمكن القول أن الترجمة تلعب دوراً مهماً في تعزيز التفاعل والتفاهم حول الاقتصاد الإسلامي وتعزيز دوره في الاقتصاد الإسلامي.
" دور محوري "
بالإضافة إلى ذلك، فإن الترجمة لعبت دوراً محورياً في تحقيق القوة الناعمة للعديد من الدول من خلال ترجمة الأعمال الفنية والثقافية كما أسلفنا، بالإضافة إلى أنها مكَّنت المسؤولين الحكوميين والدبلوماسيين من التواصل مع العالم بلغات متعددة، مما يعزز الدبلوماسية الثقافية والسياسية ويسهم في بناء التحالفات، كما ساهمت الترجمة في نقل المعرفة والتعليم عبر الثقافات، مما أسهم في تعزيز القوة الناعمة من خلال تطوير قوى العقل والتفكير، فالترجمة تلعب دوراً حاسماً في تعزيز القوة الناعمة عن طريق تسهيل التفاهم والتواصل عبر الحدود ونقل الفهم والثقافة والأفكار، حيث أنها تعتبر أداة مهمة في بناء العلاقات الدولية، وتعزيز التأثير والتأثر الثقافي والسياسي.
إلا أن هنالك وجهٌ آخر للترجمة لا يقلل من أهميتها، حيث أنه في بعض الحالات يمكن أن تكون الترجمة معوِّقة للاقتصاد والتجارة، حيث يترتب عليها تكاليف على الشركات والمؤسسات، وخاصةً إذا كانت هناك حاجة مستمرة إلى ترجمة المستندات أو المواد، وهذه التكاليف يمكن أن تكون عبئاً مالياً. كما أن عملية الترجمة قد تأخذ وقتاً، وهذا يمكن أن يؤثّر على السرعة في اتخاذ القرارات التجارية أو تسليم المشاريع. كما وأنه وفي حالات وجود أخطاء في عملية الترجمة فقد يترتب على ذلك سوء التفاهم، والذي بدوره أن يؤثر بشكلٍ كبير على الصفقات والعلاقات التجارية. وكذلك أيضاً في بعض الصناعات مثل التكنولوجيا والأدوية، يمكن أن يكون هناك تحديات بسبب قوانين البراءات والملكية الفكرية التي تختلف من دولة لأخرى في بعض الحالات، كما قد تكون الترجمة في بعض الأحيان ذات جودة منخفضة، مما يؤدي إلى فقدان معنى النص أو تشويهه.
على الرغم من هذه التحديات، الترجمة لا تعتبر عاملاً معوقاً كبيراً بشكلٍ عام، بل إنها أداة ضرورية للتفاعل الدولي وتوسيع الفرص التجارية حيث، يمكن التغلب على بعض هذه التحديات من خلال استخدام مترجمين محترفين والاستثمار في تكنولوجيا الترجمة الحديثة.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]