الدكتور جمال زحالقة
واعتبر الكثيرون هذه الجلسة «تاريخية»، حيث شارك فيها، وللمرة الأولى، كل قضاة المحكمة العليا الـ15، وبشكل استثنائي، جرى نقلها بالبث الحي والمباشر عبر قنوات التلفزيون. وعبّر المتحدثون إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة، عن خشيتهم من نشوء أزمة دستورية تبعا للقرار الذي ستتخذه المحكمة، الذي قد يتحوّل إلى صدام بين السلطات: السلطة القضائية من جهة والسلطتين التنفيذية والتشريعية من جهة أخرى، خاصة أن ممثلي الحكومة والائتلاف رفضوا الالتزام سلفا بالانصياع لقرارات المحكمة. وجرت المداولات في المحكمة في أحد بنود الانقلاب على الجهاز القضائي، الذي تقوده حكومة نتنياهو ـ ليفين ـ سموتريتش ـ بن غفير، الذي يرمي إلى استيلاء اليمين المتطرّف على المحكمة العليا، وتكبيل رقابتها على الحكومة والكنيست، ما سيمكّن هذا اليمين من إتمام سيطرته على مفاصل الحكم في الدولة الصهيونية، ليحل مكان التيار الصهيوني المركزي، الذي تنتمي إليه الغالبية الساحقة من النخب الاقتصادية والبيروقراطية والأكاديمية والثقافية والعسكرية والقضائية والمهنية، الذي يهيمن عمليا على الدولة العميقة بأذرعها المتشعّبة. الصراع الحالي ليس على مواقف فقط، بل على مواقع، وهو صدام مزدوج حول من يملك القوّة والسيطرة وما الاتجاه السياسي والايديولوجي المهيمن والسائد.
ما بين الموقع والمشهد
قبل أي حديث عمّا دار في جلسة المحكمة العليا الإسرائيلية الثلاثاء الماضي، يجب التأكيد على أمرين:
الأول، إن مبنى المحكمة يقع فوق أراضي قرية «الشيخ بدر» الفلسطينية الممتدة في المناطق الواقعة جنوبي شارع يافا في مدخل القدس الغربي. والبناية نفسها هي كولونيالية الطراز (والموقع بالطبع)، وتحمل ملامح فاشية تقزّم الإنسان. ومن المهم أن نهتم بأن يعرف القاصي والداني أن «صرح العدالة» الإسرائيلي مقام فوق قرية فلسطينية مدمّرة ومهجّرة، وعلى المنوال نفسه، أقيم «متحف التسامح» فوق مقبرة مأمن الله التاريخية، مقابل فندق بالاس الفلسطيني، الذي تحوّل إلى فندق «ولدورف استوريا»، وتسكنه حاليا عائلة نتنياهو.
الثاني: إنّ النقاش حول الديمقراطية والقانون والدستور، يجري في الدولة الصهيونية، بعد تهجير أهل البلاد، وما يسمى بالديمقراطية الإسرائيلية لم يكن ممكنا لولا تغيير التركيبة السكانية، وضمان أغلبية يهودية مصطنعة، حتى تكون الدولة كما أرادوها «دولة يهودية وديمقراطية». هذا هو السر القذر للديمقراطية الإسرائيلية، التي قامت على أساس التطهير العرقي، فلولاه لكان اليهود أقلية في الرقعة التي أقيمت عليها الدولة الصهيونية وجرت في إطارها الانتخابات «الديمقراطية» المتكررة. لقد كانت المداولات في المحكمة العليا الإسرائيلية مشهدا «مهيبا» أثار إعجاب المراقبين والصحافيين الإسرائيليين والأجانب، وهو كان حقّا كذلك من الناحية الإجرائية والمشهدية. هذا هو الواقع المرئي، لكن الحقيقة مخالفة تماما: المكان مبني على التدمير ومحو الجغرافيا والتاريخ، والتداول «الديمقراطي» مؤسس على التطهير العرقي. ولا مبالغة في القول إنها «ديمقراطية تطهير عرقي» إضافة إلى كونها ديمقراطية مستوطنين.
جلسة المحكمة
جاءت جلسة المحكمة، الثلاثاء الماضي، تعبيرا عن الأزمة الدستورية، التي تعيشها إسرائيل، جرّاء الخلافات الشديدة حول مخطط إضعاف القضاء، الذي يسميه معارضوه «القضاء على القضاء»، وتحويله إلى تابع للسلطة التنفيذية. ويشمل هذا المخطط رزمة مكوّنة من عدّة قوانين مركزية وعشرات القوانين الفرعية، تصب جميعها باتجاه تقوية سلطة الحكومة وصلاحيات الكنيست وتكبيل الجهاز القضائي وتقليص قدرته على موازنة السلطتين التشريعية والتنفيذية. وقد تسببت موجة الاحتجاج القوية وتهديدات الضباط والجنود بعدم المثول لخدمة الاحتياط، والضغط الأمريكي والتراجع الاقتصادي القائم والمقبل، في إبطاء تمرير المخطط، ومع ذلك مرّ تعديل منع المحكمة من فرض رقابة على الحكومة من خلال «حجّة المعقولية». لقد ورثت إسرائيل دولة الانتداب البريطاني، بما في ذلك مبانيه وأرشيفه وقوانينه، وبضمنها «حجة المعقولية»، التي تعني أن المحكمة تستطيع التدخل لإلغاء قرار إداري أو حكومي، إذا كان هذا القرار ينافي المنطق السليم وغير معقول في طريقة اتخاذه، كأن لا تؤخذ كل جوانب القرار بعين الاعتبار بالوزن المناسب وبالشكل الصحيح. لا يوجد أي نص قانوني صريح بشأن حجّة المعقولية، لكنّها تطوّرت من خلال قرارات قضائية متراكمة خلال عشرات السنين، ما جعلها قاعدة مهمّة في الرقابة القضائية على السلطة التنفيذية في الدولة الصهيونية.
كان النقاش في المحكمة حادّا وجادّا، حيث طرح القضاة أسئلة صعبة على ممثلي الحكومة والكنيست ولجنة القضاء والقانون والدستور التابعة للكنيست، الذين أدعوا أن الأغلبية انتخبت الكنيست، ولها الحق المطلق في سن القوانين، اعتمادا على الشرعية الديمقراطية، وأن ليس للمحكمة غير المنتخبة من الجمهور صلاحية البت في قانون أساس له مكانة دستورية. وتساءلوا من أين تستمد المحكمة صلاحية إلغاء قانون له مرتبة عليا، مشدّدين بأن المحكمة ملزمة باحترامه والعمل وفقه، لا أن تضع نفسها فوقه وتناقش شطبه.
في المقابل طرحت المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية موقفا واضحا يعارض التعديل، ويدعم التماسات معارضيه، وخلق هذا الموقف المناقض لخط الحكومة توتّرا حادّا بينها وبين نتنياهو ووزرائه. في المقابل اعتبر مناصرو «حجة المعقولية» التعديل الذي أقرته الكنيست، تكبيلا للرقابة القضائية على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتقليصا لقدرة المحكمة على حماية حقوق الإنسان من طغيان السلطة، خاصة في ظل غياب دستور للدولة يضمن الحريات والحقوق الأساسية، وعدم وجود ما يوازن سلطة الحكومة والكنيست، سوى المحكمة العليا. واستند المعارضون في التماساتهم إلى ثلاثة اعتبارات مركزية أوّلها، أن هذا تعديل غير دستوري للدستور، فحتى لو كان التعديل يعد قانونا أساسا له مكانة دستورية، فهو يناقض لب المبادئ فوق الدستورية، التي يقوم عليها منطق النظام، مثل أن التعديل يخل بالتوازن بين السلطات الثلاث، التنفيذية والقضائية والتشريعية، وأنّه يضرب في الصميم مبدأ الإدارة السليمة للشأن العام وغيرها. وثانيها أن الكنيست أساءت استعمال صلاحيتها في سن قوانين أساس لها مكانة دستورية، وهي صلاحية مستمدة من «وثيقة استقلال إسرائيل»، التي قرأها بن غوريون، حين أعلن عن إقامة الدولة الصهيونية وشملت وعدا بسن دستور. وثالثها: أن الطريقة التي جرى فيها تمرير القانون في الكنيست كانت معطوبة ومخالفة للنظام الأساسي لسن القوانين.
التماس أمني
برز بين الالتماسات التي قدمت لشطب القانون، التماس قدّمه الجنرال روني نومة القائد العسكري السابق للمنطقة الوسطى والضفة الغربية، وطلب فيه من المحكمة إلغاء تعديل منع استعمال حجة المعقولية. وصرح الجنرال الإسرائيلي: «لقد قدمت الالتماس حرصا على سلامة جنودي وأصحابي وضبّاطي، من قوى الأمن: من الجيش والشاباك والموساد والشرطة. أنا واثق بأن أعضاء الائتلاف، الذين صوّتوا مع تعديل القانون، لم يأخذوا بعين الاعتبار الخطر النابع منه ويتهدد المحاربين وكل من له علاقة بالعمليات الأمنية والعسكرية في كل الجبهات. إن إضعاف مكانة واستقلالية الجهاز القضائي يزيد بشكل كبير من خطر تدخل المحاكم الدولية، ويعرّض الخادمين في الأجهزة الأمنية لإجراءات قانونية جنائية خارج إسرائيل». ومن المثير أن نومة نفسه حصل على حماية من المحكمة العليا الإسرائيلية، بعد تورّطه في أكتوبر 2001، بإصدار أوامر بإطلاق النار على المواطن الفلسطيني عبد الله جاروشي، الذي خرج من بيت أخته في طولكرم واقترب من سيارته، فأطلق عليه الجنود النار عن بعد 600 متر.
وبعد مداولات في المحاكم قررت المحكمة العليا الإسرائيلية إغلاق الملف، وفق سياستها المعهودة في توفير الحماية «القانونية» الداخلية لجرائم الجيش. ويبدو أن مجرمي الحرب الإسرائيليين لا يكتفون بهذه الحماية، ويصرّون على ان تبقى المحكمة العليا درعا واقيا لهم أمام المحاكم الدولية. قد تبدو النقاشات حول التعديلات القضائية شأنا إسرائيليا داخليا، أو صراعا محتدما داخل المعسكر الصهيوني، وهذا صحيح، لكن ما هو صحيح أيضا أن كل ما يحدث في الدولة الصهيونية له تأثير في الشعب الفلسطيني، مهما بدا الحدث داخليا. وعليه، يجب التحلّي باليقظة ومراقبة المشهد الإسرائيلي، لأنّ تداعياته قد تحمل مخاطر جديدة وجدّية، ولربما تأتي ببعض الفرص التي تتطلب بناء قدرات لاستغلالها وتجاوز عوائق تمنع هذا الاستغلال، وعدم الاكتفاء بسرد تسويغات لتبرير تفويت الفرص.