logo

ويلٌ لحكومة تعتبر القضاء عدوًّا تريد إخضاعه

المحامي زكي كمال يكتب:
08-09-2023 06:24:52 اخر تحديث: 08-09-2023 06:47:47

هي أيّام قليلة يسود حولها، ولأوّل مرّة ربّما منذ بدء محاولات الانقلاب الدستوريّ التي بادرت إليها حكومة نتنياهو السادسة، الاتّفاق بين معارضي الانقلاب ومؤيّديه، بأنها أيّام مصيريّة،


المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت

وإن كان الجميع يتّفقون على أمرين، أوّلهما إنّها لن تؤدي إلى حسم الصراع القضائيّ، أو محاولة الانقلاب القضائيّ والدستوريّ الذي تقوده حكومة نتنياهو، لكن قرارات المحكمة العليا خاصّةً حول حجّة المعقوليّة، أو الأرجحيّة ستؤثّر بشكل غير قابل للنقاش على الخطوات القادمة الحكوميّة، وستنفث في شراعها الرياح والقوّة الدافعة إذا ما كانت إيجابيّة، لكنها لن توقفها عند حدّها إذا ما كانت سلبيّة، بل ستزيد من إيمانها العميق، والذي وصل إلى حدٍّ مرضِيّ خطير، بأن القضاء الإسرائيليّ يساريّ الميول، وأن على الحكومة الحاليّة دون غيرها تعديل ميوله وتقويم اعوجاجه، إدراكًا من كونها حكومة لن تتكرّر في السياسة الإسرائيليّة، وبإمكانها دون غيرها وأكثر من غيرها، هدم النظام القضائيّ وتحويل إسرائيل إلى دولة لليهود في أهون الحالات، ودولة الحاكم الوحيد، أو دولة الشريعة التي لا رقابة فيها ولا حسيب في أسوئها، وبالتالي ستزيد الحكومة من تكالبها، واستخدام "جرافة دي 9" – كما قال النائب اليمينيّ المتطرّف موطي يوغف قبل سنوات، لإخضاع الجهاز القضائيّ نحو شرعنة ما لا يمكن شرعنته في أيّ نظام ديمقراطيّ، أو ليبراليّ، أو ما يشبههما، وثانيهما أن نتائج جلسات المحكمة العليا القريبة حول الأرجحيّة واجتماع لجنة تعيين واختيار القضاة، وحول قانون التغيّب، أو تعذُّر تأدية رئيس الوزراء مهامّه، وهو ما يتّفق عليه كثيرون أيضًا ، لن تخفّف من الاستقطاب المجتمعيّ بين الإسرائيليّين عامّة، والذي تحوَّل إلى عداء طائفيّ سياسيّ ودينيّ يقترب من حدّ الصدام الأهليّ، أو الحرب الأهليّة، بل إن هذا الاستقطاب سيرافق الدولة بكامل مؤسّساتها، وبشكل متزايد من التوتّر والخطورة، خلال المرحلة المقبلة، سواء تمّ تمرير التعديلات أو إلغاؤها، ما سيؤدّي إلى زيادة الشرخ في جهاز القضاء والجيش والمجتمع، بمعنى أن الأشهر القادمة ستشهد بقاء الصراع مفتوحًا بين الحكومة والمعارضة، ما يزيد من تضاؤل وانخفاض، بل تدهور وانهيار ثقة الإسرائيليّين ، على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم بمؤسّسات الدولة، بين أولئك الذين يؤكّدون معارضة الانقلاب القضائيّ من منطلق واضح، وهو أنه لا يحقّ للدولة أن تدّعي أنها تريد إحداث إصلاحات تعزّز من العدالة والمساواة والعدل بينما هي تهدف في الحقيقة إلى شرعنة القمع والظلم عبر قوانينها وسياساتها وخطاباتها التي تبرّره، وتجعله أمرًا ضروريًّا ومعقولًا، أي أنّها تكشف النقاب عن حقيقة توجّهاتها ونواياها، وبين مؤيدي الانقلاب الذين يؤكّدون أن الإصلاحات تجيء لحماية إسرائيل من أخطار وأخطاء ما تسميه الحكومة-في حالة غير مسبوقة تاريخيًّا، في أيّ من دول العالم، تشكّل الإشارة الكافية لكشف النوايا الحقيقيّة - الاستخدام السلبيّ للقانون، أو سيطرة القضاء ومحاولته رسم الحدود الواضحة لصلاحيّات السياسيين والنواب في البرلمان، الذين يريدون في هذه الحكومة إطلاق حبالهم على غاربها والاستفراد باتّخاذ القرار دون حسيب أو رقيب، من حيث التعيينات والمواقف وتضييق الخناق على المعارضين والمخالفين والقضاة، وذلك تنفيذًا لأهداف تتفاوت وتختلف بين مركبات الائتلاف، وتتراوح بين السيطرة على الوظائف وتعيين يمينيّين ومتديّنين متزمّتين ويهود شرقيّين حتى لو انعدمت مؤهّلاتهم المهنيّة، وتوفّرت تلك السياسيّة والحزبيّة، خاصّة في الجهاز الحكوميّ والقطاع العامّ والشركات الحكوميّة والإعلام والصحافة ، وبين السيطرة على الضفّة الغربيّة، وشرعنة الاستيطان ووأد أيّ إمكانيّة لحلّ سياسيّ ينهي الاحتلال، وهو ما تريده أحزاب اليمين الاستيطانيّ، وبين السيطرة على الحياة اليوميّة للمواطنين اليهود عبر بسط الشريعة اليهوديّة، وبسط السيطرة على الأقليّة العربيّة في إسرائيل عبر استعادة بعض سمات الحكم العسكريّ ومنها الاعتقالات الإداريّة، والإبعاد والحرمان من الحقوق خاصّة لطلاب الجامعات، والحرمان من الميزانيّات حتى للسلطات المحليّة.

ولكن رغم ما سبق، ورغم الاهتمام الكبير وربما المصيريّ في ما ستكون عليه قرارات المحكمة العليا التي ستجتمع في الثاني عشر من الشهر الحاليّ ، لبحث إمكانيّة إلغاء التعديل المشؤوم على قانون الأرجحيّة أو المعقوليّة، وهو تعديل إذا ما تم إقراره سيُطلق أيدي السياسيّين حرّة طليقة دون قيود في التعيينات والخطوات والقرارات، أو الامتناع عن اتّخاذ القرارات أيًّا كانت ، وبعدها قانون التعذّر ولجنة تعيين القضاة خاصّة بعد إعلان قاضي العليا المحافظ يوسف ألرون ترشيح نفسه لرئاسة المحكمة خلفًا للرئيسة الحاليّة القاضية إستير حيوت، التي تنهي ولايتها مطلع الشهر القادم، أكتوبر 2023، في خطوة غير مسبوقة تنقض منظومة الاختيار وفق الأقدميّة_ السنيوريتي- أجزم هنا ، وأكرّر ما كنت قد حذّرت منه منذ أشهر طويلة، بل منذ العام 2018 خاصّة منذ سَنّ قانون القوميّة، أنه من الخطأ بمكان، بل من الخطر بمكان اختزال ما يحدث منذ تأسيس الحكومة الحاليّة، بأنه محاولة للسيطرة على القضاء تتوقّف بانتهاء هذه السيطرة، وهو الخطأ بعينه، فالحكومة تعتبر السيطرة على القضاء بكلّ جوانبه من المحاكم والمستشارين القضائيّين ورؤساء الأقسام في الشركات، وحتى رؤساء المؤسّسات المختلفة الذين يتمّ انتخابهم واختيارهم وفق اعتبارات المؤهّلات، وبحكم تعليمات قضائيّة وشروط مناقصات واضحة، كما يريد وزير التربية اليوم فعله مع رئيس مؤسّسة تخليد ذكرى الكارثة "ياد فشيم" اليمينيّ داني ديان، عبر إقالته من منصبه لمجرّد أنه سمح لمطربة تتماهى مع معارضي الانقلاب القضائيّ، بالغناء في حفل رسميّ للمؤسّسة، أو ما يحدث مع مديرة سلطة الشركات الحكوميّة ميخال روزنباوم التي يريد الوزير الليكوديّ من أصل شرقيّ، دافيد أمسالم، إقالتها لأنها لا تسمح له بتعيين من يريد في أيّ منصب يريد، وهو الذي كان قد قال إنه" يمكنه تعيين ربّة منزل في منصب عضو إدارة شركة حكوميّة كبيرة، بمعنى أن المؤهّلات المهنيّة لا تهمّه، بل الانتماء العرقيّ والحزبيّ. سيطرة على القضاء تشكّل مقدمة للسيطرة على الفضاء السياسيّ والقضائيّ والحيّز العامّ الشعبيّ والحزبيّ، أي إزاحة كافّة الحواجز والعقبات وسلطات الرقابة على التوظيفات والقرارات والميزانيّات ، فطموح الائتلاف الحاليّ والحكومة الحاليّة بمركّباتها التي تعتبرها رغم العداءات الداخليّة الشديدة، مطية لتحقيق الأهداف الحقيقيّة لليمين الإسرائيليّ والحركات الدينيّة التي لا تقتصر على السيطرة على القضاء، بل يتعدّى ذلك إلى الهيمنة على الحيّز العام السياسيّ والحزبيّ والسياسيّ وامتلاك زمام الفضاء العامّ في المؤسّسات الاقتصاديّة والشركات الحكوميّة والمناصب المرموقة والجيش والشرطة والمخابرات، وزيادة النفوذ على وسائل الإعلام كما يريد الوزير شلومو كارعي وزير الاتصالات الوصول إليه عبر استنساخ خطّة فيكتور أوربان الهنغاري، وحلّ كافّة أجهزة الرقابة المهنيّة على الإعلام وجعلها في أيدي السياسيّين وفرض الغرامات والعقوبات على كل وسيلة إعلام لا تتماشى والخط الدعائيّ والإعلاميّ الرسميّ للحكومة الحاليّة، والسيطرة على كافّة مؤسّسات المجتمع المدنيّ، وتضييق آفاق عملها وفق تصنيفها بأنها يساريّة، أو يمينيّة، كما حدث في قرار وزير الأمن القوميّ إيتمار بن غفير، إلغاء مشروع لمكافحة العنف والجريمة في مدينة اللد بحجّة كون المؤسّسة التي تنفذه وتموّله جزءًا من ميزانيته، وهي مؤسسة " الجوينت" اليهوديّة، منظّمة يساريّة معادية لليمين ومناصرة للفلسطينيّين، وحرمان المنتجين الإعلاميّين والسينمائيّين والتلفزيونيّين من أيّ دعم حكوميّ إذا كانت أعمالهم التلفزيونيّة، أو السينمائيّة، أو الأدبيّة تنتقد الاحتلال الإسرائيليّ، وتدعو إلى انسحاب إسرائيل من الضفة الغربيّة، أو تنتقد ولو تلميحًا تصرّفات الجيش الإسرائيليّ في المناطق المحتلة، وإغلاق المسارح التي تنتج أعمالًا مسرحيّة لا تتّفق واعتبار إسرائيل دولة صهيونيّة أولًا ويهوديّة ثانيًا، ومنع نشر برامج دراسيّة وحتى دورات تأهيليّة للطلاب والطواقم التدريسيّة، إذا كانت لا تتّفق والتعليمات الدينيّة اليهوديّة حول تركيبة العائلة والميول المثليّة وغيرها، ناهيك عن تكريس مبادئ الفصل بين النساء والرجال في المواصلات العامّة والأماكن العامة ومنع حركة المواصلات العامّة أيّام السبت، والسيطرة على مسيرة ومواقف وتحرّكات المؤسّسات الأكاديميّة، وهذا ما بدأت ملامحه منذ اليوم، فالحكومة الحاليّة بدأت بالفعل التضييق على المؤسّسات الإعلاميّة التي تُعَد هدفًا أساسيًّا لها، وتصفها بأنها قنوات ترهيب وتخويف وتضليل إعلاميّ، ومن المتوقّع أن تستمرّ في هذه السياسة خلال السنوات القادمة وبوتيرة أسرع إذا لم تضع محكمة العدل العليا الحدود لذلك، بمعنى أن سماح المحكمة بإلغاء حجّة المعقوليّة، أو الأرجحيّة، سيكون الخطوة الأولى، نحو سيل جارف من القرارات الانتقاميّة التي تجيء لإشباع غرائز الانتقام، وإسكات لهيب نار الشعور الكامن لدى اليمين واليهود الشرقيّين. إنهم يملكون أغلبية برلمانيّة وسياسيّة وحكوميّة، لكنهم رغم ذلك لا يسيطرون على السلطات في إسرائيل، ولا يملكون زمام السيطرة على الإعلام، أو الأكاديميا، أو الشركات التكنولوجيّة والاقتصاديّة والهاي تك، وفوق كلّ ذلك لا يسيطرون على جهاز القضاء والمحاكم كما يريدون، وهو ما قاله منذ العام 2017 الإعلامي إيرز تدمور اليمينيّ المقرّب حتى النخاع من بنيامين نتنياهو ، علمًا أن الاحتجاجات الأخيرة ضدّ الانقلاب القضائيّ، والتي شارك فيها حتى اليوم وعلى مدار نحو 35 أسبوعًا، ووفق تصريحات محتلنة للمفتش العامّ للشرطة يعقوب شبتاي، نحو 7 ملايين متظاهر، تؤكّد السابق خاصّة في المؤسّسات الأكاديميّة والحقوقيّة، ومؤسّسات المجتمع المدنيّ والمنظّمات غير الحكوميّة، حيث ينشط فيها بشكل كبير اليسار والليبراليّون المعادون للأحزاب الدينيّة واليمين والاحتلال، ودولة الشريعة اليهوديّة.

"السيف المسلّط على رقبته"
 قرار رئيسة المحكمة العليا إستر حايوت بأن الجلسة حول تعديل قانون أو بند الأرجحيّة، بمشاركة جميع قضاة المحكمة الـ 15 ، في جلسة الاستماع الحاسمة والحساسة ضدّ قانون "المعقوليّة"، يؤكّد عمليًّا الأهميّة التي توليها المحكمة لهذا النقاش، خاصّة وأن هذه الحجّة، والتي حاول نتنياهو وأعوانه تسويقها على إنها إصلاح شكليّ، وليس جوهريًّا تمنح الوزراء إمكانيّة اتّخاذ قرارات سريعة، في حين أدركت حركة الاحتجاج والمعارضة البرلمانيّة إنها أوّل الغيث قطر، وأن إقرارها يعني فعليًّا" إخراج الإصبع من الثقب الذي منع فيضان مياه السدّ"، وبالتالي ستبحث المحكمة العليا كافّة الالتماسات المقدّمة ضدّ التعديل وتأييدًا له، والذي تطالب المستشارة القضائيّة للحكومة غالي بهراف ميارا، بإلغائه باعتباره غير معقول، بل يشكّل خطرًا على النزاهة ونقاء اليدين ويشرعن الفساد بشكل لا يمكن للمحاكم مراقبته، ويمكِّن الوزراء من إِعمال فأس التعيينات غير الصحيحة، بل المنطلقة من أسباب ومنطلقات سياسيّة ضيّقة، حيث يؤكّد معارضو القانون إن معيار المعقوليّة هو واحد من الضمانات الحاسمة ضدّ الإجراءات الحكوميّة التعسفيّة أو المتقلّبة، أو القرارات المتّخذة لأسباب غير لائقة أو صحيحة، لا سيّما فيما يتعلّق بفصل كبار مسؤولي سلطات تنفيذ القانون والاستشارة القضائيّة، بينما يدَّعي أعضاء الائتلاف بأن المحكمة العليا أساءت استخدام حجّة الأرجحيّة، وأنها سمحت لنفسها بالتدخّل، وبشكل كبير في سياسة الحكومة، وبالتالي فإن ما يرافق هذا النقاش وغيره من محاولات من قبل الائتلاف لفرض مواقفه على المستشارة القضائيّة للحكومة واعتبارها عدوًّا وشخصيّة تضع العراقيل أمام الحكومة من منطلقات ضيّقة، لمجرد أنها تؤكّد عدم صحة التعديل المزعوم لقانون أساس المحاكم والقضاء من جهة، وترفض الرقص وفق موسيقى وزير القضاء ياريف ليفين الذي يرفض عقد جلسة للجنة اختيار القضاة بانتظار أن تنهي رئيسة المحكمة العليا إستير حايوت مهام منصبها، وبالتالي ربما سيتمكّن من انتخاب رئيس للمحكمة بدلًا منها هو القاضي يوسف ألرون، أو التأثير على تركيبة اللجنة وضمان أغلبيّة سياسية للائتلاف وربما إخراج ممثِّلي نقابة المحامين من عضويّة اللجنة، ما سيقلب ميزان القوى فيها، ومن هنا تكون الطريق قصيرة نحو السيطرة على القضاء ومنع المستشارين القضائيّين من قول كلمتهم وإطلاق يدي الحكومة بأحزابها المتطرّفة، وتمكين هذه الحكومة ، والتي هي عمليًّا أول حكومة صافية لليمين الدينيّ والسياسيّ والمسيحانيّ المتطرّف في إسرائيل، والتي ما يميّزها، وما يجمعها أن لكلّ حزب وَجِهَة فيها مصلحته الخاصّة في تغيير الوضع القائم، فأحزاب الصهيونيّة الدينيّة المتطرّفة والاستيطانيّة تريد حسم الصراع على الضفّة الغربيّة قانونيًّا، وهو ما تعوقه قليلًا قرارات محكمة العدل العليا، ومنعها مصادرات عشوائيّة للأراضي الفلسطينيّة وغير ذلك انطلاقًا من كونها تريد "مسايرة" القانون الدوليّ، وعدم إطلاق يد المستوطنين في قمع الفلسطينيّين والاستيلاء على أراضيهم ومياههم وكرومهم، بعد أن حسمته بالاستيطان على الأرض، بينما يريدون في التيار اليهوديّ المتزمّت "الحريديم"، ومعهم بعض قادة الصهيونيّة المتديّنة وخاصّة الوزير بتسلئيل سموتريتش وزير الماليّة، دولة شريعة دينيّة وسيطرة على الحيّز العامّ، أما الوزير إيتمار بن غفير فيريد الاستفراد بالأسرى الأمنييّن والمواطنين العرب داخل إسرائيل ومنعهم من حقوق أساسيّة، دون أن يكترث للقوانين والتشريعات والقرارات، أو للفارق بين المواطنين العرب كأقليّة مدنيّة وقوميّة تحمل الجنسيّة الإسرائيليّة وبين الفلسطينيّين في الأراضي المحتلة، فكلّهم بالنسبة له أغيار وطابور خامس، يريد قمعهم عبر اعتقالات إداريّة والسماح لجهاز الأمن العام – الشاباك- بالتدخل في شؤون المواطنين العرب ومكافحة العنف المدنيّ خلافًا لقانون الشاباك، ما سيمكّنه من قمع العرب سياسيًّا واجتماعيًّا دون رقابة قضائيّة، بل تحويلهم إلى خطر أمنيّ داهم ودائم، أما نتنياهو وهو الذي يعاني ثلاث لوائح اتهام تتعلّق بالشفافيّة والرشوة وخيانة الأمانة والثقة، أيّ الفساد، يريد التخلّص من هذا السيف المسلّط على رقبته، واليمين الذي يكيل للمحكمة العليا الاتهامات في كلّ قضيّة وقضيّة، ويتهمها بأنها تكبّل يديه كما حدث هذا الأسبوع في قضية اللاجئين الإريتريّين طالبي اللجوء السياسيّ، والذين تراجع نتنياهو عن اتفاقيّة مع الأمم المتحدة ودولة أفريقيّة ثالثة على استيعابهم وإخراجهم من تل أبيب عام 2018 ، لكنّ التهم كيلت بالجملة للمحكمة العليا وقضاتها، بدلًا من الاعتراف بعجز الحكومة عن وضع الخطط، وعجز نتنياهو عن اتّخاذ القرارات بفعل نزوات أفراد حزبه عامّة وأفراد عائلته خاصّة، وهي فرصة يريد اليمين الذي فاز في الانتخابات الأخيرة وهي الانتخابات الخامسة على التوالي خلال أعوام قليلة دون حسم واضح، أن يقول أنه حصل على ثقة الجمهور لحسم هذا الصراع كلّه ، داخليًّا عبر انقلاب دستوريّ - قضائيّ يسوِّغ اليمين له بأنه يهدف إلى التعبير عن موقف الناخبين فهم أصحاب القول الفصل، وخارجيًّا عبر ضمّ الضفة الغربيّة وشرقي القدس، وتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، وإداريًّا بكسر كافّة الحواجز والطابوهات وفرض السيطرة الحزبيّة على التعيينات، واعتبار الانتماء الحزبيّ عنصرًا ومقوِّمًا أساسيًّا للحقوق والميزانيّات، وهو ما أجادت رئيسة المحكمة العليا إستير حايوت وصفه بأنه تحطيم وحلحلة تامّة لكافّة قواعد اللعبة السياسيّة والقضائيّة، فحجة الأرجحيّة، أو المعقوليّة وإقرار فقرة التغلّب على قرارات المحاكم ، وسيطرة البرلمان والأغلبيّة الحكوميّة على لجنة تعيين القضاة، خاصّة في ظلّ ما هو معروف عن عدم وجود دستور لدولة إسرائيل، سيخلق حالة تكون السيطرة المطلقة فيها لمؤسّسة واحدة، أو لسلطة واحدة من السلطات الثلاث، وهي التنفيذيّة خاصّة وأن النظام الائتلافيّ المتّبع في إسرائيل يجعل من السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة سلطة واحدة تكون يد التنفيذيّة فيها الأعلى والأقوى، والوصول إلى نظام حكم جديد بسلطة واحدة لها رئيس واحد وهو رئيس الحكومة، يعتقد أنه الآمر الناهي وأن على الجميع الامتثال لأوامره بمن فيهم القضاة والجهاز القضائيّ.

" خضوع طوعيّ"
هي أيّام قليلة ستتّضح فيها عدّة أمور، أوّلها ما إذا كان سيف الترهيب الذي رفعته الحكومة الحاليّة في وجه الجهاز القضائيّ ّ، قد بلغ أثره الذي أرادته الحكومة من إخضاع قسريّ، أو خضوع طوعيّ لهذا الجهاز، يمتنع معه من اتّخاذ قرارات قد يغضب معها السلطان نتنياهو والحاكم بأمره ياريف ليفين، والنائب سيمحا روطمان الذي بلغت به الصفاقة والنشوة الانتخابيّة أن يطالب رئيسة محكمة العدل العليا القاضية إستير حايوت بالتنحّي عن المشاركة في النقاش حول حجّة الأرجحيّة باعتبارها " تعيش تناقض مصالح" متناسيًا تناقض المصالح الخطير لرئيس الوزراء المتّهم بملفّات جنائيّة خطيرة، وتضارب المصالح القضائيّة له شخصيًّا كمن يعيش في مستوطنة أقيمت فوق أرض فلسطينيّة وفي منزل دون ترخيص، ومتجاهلًا رفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التعهّد بما هو مفهوم ضمنًا في أيّ نظام ديمقراطيّ، وهو الانصياع لقرارات المحكمة العليا والجهاز القضائيّ، إذا ما قرّرت المحكمة إلغاء أو تأجيل نفاذ "حجّة المعقوليّة"، حيث اكتفى نتنياهو بالقول إن إسرائيل ستجد نفسها في موقع غير معهود وغير مسبوق أيّ كما قال في أرض مجهولة، بينما قال حزب الليكود في بيان له إن الحكومات الإسرائيليّة كانت حريصة دائمًا على احترام القانون وحكم المحكمة، وأن المحكمة كانت حريصة دائمًا على احترام قوانين الأساس، في بيان يشكّل تهديدًا واضحًا وفق مبدأ" وقد أعذر من أنذر" أو " العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم" ، محذّرًا من مغبّة تدخل المحكمة في إلغاء تعديل قانون الأساس، رغم أنها كانت قبل سنتين أو أكثر بقليل قد ناقشت تعديل قانون رئيس الحكومة الذي جاء لتمكين قيام حكومة الوحدة الوطنيّة ومنح بيني غانتس وفق الاتفاقيّة الائتلافيّة حينها منصبًا لم يكن قائمًا حتى ذلك الموعد وهو " رئيس الوزراء البديل" وقرنت تنفيذه وبقاء الحكومة بتمرير الميزانيّة، وهو تعديل انتقدته المحكمة العليا حينها، وقالت إنه كان إساءة استخدام لسلطة الكنيست والمصادقة على قانون أساس، وأصدرت تحذيرًا بالإلغاء، دون أن تلغي التعديل نفسه.

القضية هذه المرّة تختلف فهي مسّ بأسس النظام الديمقراطيّ الدستوريّ، والفصل بين السلطات وإلغاء دور مؤسّسات الرقابة القضائيّة، وجعل أعضاء البرلمان القاضيّ والمشرّع والجلَّاد في آنٍ واحدٍ معًا، فها هو وزير القضاء يرفض عقد جلسة للجنة تعيين القضاة لمجرّد أن تركيبتها لا تروق له، ولأن مخرجات جلساتها لن تكون كما يريد سياسيًّا، بينما تطالب المستشارة القضائية بعقدها فورًا ، وها هو وزير الأمن الداخليّ يصرّ على تقليص حقوق الأسرى الفلسطينيّين، ويحاول إدخال الشاباك إلى حياة مواطني الدولة العرب بخلاف موقف المستشارة القضائيّة للحكومة ورؤساء الشاباك، ويحاول فرض الاعتقالات خلافًا للقانون وقرارات المحاكم، ورئيس الحكومة يصرّ على عدم التعهّد بقبول المفهوم ضمنًا وهو قرارات المحاكم، وكلّها إشارات تدلّ على أن إسرائيل متوجّهة إلى صدام دستوريّ وصدام بين السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة من جهة مع السلطة القضائيّة، سيضطرّ معه كثيرون منهم قادة الجيش والموساد والشاباك والشرطة وغيرهم من أصحاب المناصب الهامّة خاصّة في مجال الأمن، والقضاء والصحّة وغيره، إلى حسم أمرهم، فإمّا الامتثال إلى قرارات السياسيّين ومنطلقاتها الضيّقة والشعبويّة المعروفة وغير النزيهة، أو قرارات القضاء وتعليمات القانون وسلطة المحاكم ، أي الاختيار بين قرارات المحاكم وقرارات الحاكم، في حالة غير مسبوقة تعلن الحكومة أن قرارات القضاء غير سارية المفعول، وأن كلًّا يغني على ليلاه ، أو "بما ملكت إيمانهم" ، لتسود الفوضى بعد أن جعلت الحكومة وأعضاء الائتلاف، القضاء والقضاة والقانون العدوّ الرئيسيّ لها وأصبح الشغل الشاغل لها إضعافه وهزمه وإلغاءه وتطويعه دون قيد أو شرط، في سيطرة على القضاء، بل قضاء على جهاز القضاء تشكّل مقدّمة للسيطرة على الفضاء أي على كافّة مناحي الحياة، وفتح الباب على مصراعيه، أمام السياسيّين لتنفيذ أهوائهم تحت غطاء "القوانين والتشريعات"، وهي حالة ستلحق الضرر أولًا وقبل كلّ شيء بالفئات الضعيفة والمستضعفة، والعرب والفلسطينيّون في مقدّمتها، بل في بداية قائمة المتضرّرين ونهايتها، وباختصار فإن إسرائيل تقف على مفترق طرق خطير سيحدّد هويّة نظامها القضائيّ السياسيّ، فاليمين والمستوطنون والأحزاب والجهات المحافظة والمتديّنة تريد تغيير النظام السياسيّ الإسرائيليّ وترتيب جديد للعلاقات بين السلطات الثلاث تضمن قوّة التنفيذيّة والتشريعيّة وتقلّم أظافر القضائيّة، ما يخدم أطماع وطموحات وبرنامج اليمين ويعطيه القوّة فهو الأغلبيّة الجماهيريّة كما يدّعي أنصاره، ويسعى إلى حكم مطلق دون ضوابط دستوريّة. ما سيمكنه من تحقيق هدفه وهو البقاء في الحكم سنوات طويلة بسبب وجود أغلبيّة يمينيّة متماسكة، وتنفيذ كافّة برامجه المتعلّقة بالفلسطينيّين والعرب والحياة المدنيّة في إسرائيل وحقوق الأقلّيات وغيرها، فكلّها ستصبح خاضعة لحكم التوراة.

"دولة القوميّة الواحدة والشعب الواحد"
السيطرة على القضاء هي الخطوة الأولى وبعدها السيطرة على الفضاء والحيّز الأكاديميّ والإعلاميّ والجماهيريّ والإنسانيّ وبناء منظومة من الحقوق المتفاوتة تعكس الانتماء القوميّ والسياسيّ، تقدّس حقوق وحياة اليهود وأمنهم وسلامتهم، وتتجاهل الغير أو بكلمات أخرى، دولة القوميّة الواحدة والشعب الواحد، وباسمها السياسيّ المعاصر" الأبارتهايد" وفق القوانين، فمعظم موبقات القرن العشرين ارتكبت تحت غطاء القانون، وقد أعذر من أنذر، وهو ما حذَّر منه جان جاك روسو في كتابه" في العقد الاجتماعيّ أو مبادئ الحقّ السياسيّ" مؤكّدًا أن وجود سلطة القانون هو أمر يجعل جميع الناس متساوين، وبموجب هذا القانون يتنازل الناس عن بعض حريّاتهم مقابل أن يقوم القانون بحمايتهم كلّهم، دون استثناء وعلى قدم المساواة انطلاقًا من مواطنتهم التامّة، وبغض النظر عن باقي الاعتبارات الفئوية، وإذا لم توجد سلطة عليا تضمن وفاء المتعهدين أي السلطة بالتزاماتهم ، فإن الإنسان المتعاقد يبقى صاحب الحلّ والعقد، وهو ما يحدث اليوم في إسرائيل من وجود حكومة تفرط عقد اتّفاقها المدنيّ والديمقراطيّ، بل الإنسانيّ مع مواطنيها، أو اكثر من نصفهم على الأقلّ.