صورة للتوضيح فقط - تصوير:shutterstock_create jobs 51
خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة أُصيب شخصٌ برأسه من عيار ناريّ سنة 1938 ، وقد أُطلق على هذا الشخص لاحقًا اسم المريض M. اخترقت الرصاصة جمجمته وخرجت منها مُخَلِّفةً إصابةً بالغة في النسيج الدّماغيّ الرقيق. تعافى M من الإصابة، إلّا أنّ عالمه انقلب رأسًا على عقب: بدأ يرى بالمقلوب. انقلب اليسار، أحيانًا، يمينًا، وانقلب الأعلى أسفل، ورأى M العالم رأسًا على عقب. اتّخذت الاتّجاهات مفهومًا جديدًا لدى M إذ أصبح قادرًا على قراءة الكلمات والأعداد من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار بنفس السرعة، وقراءة عقارب الساعة من أيّة زاوية يريد. وظهرت الألوان هي الأخرى بشكل غريب إذ "انفصلت" أحيانًا عن الأجسام المُلوّنة. لقد تغيّرت، بشكل عامّ، الطريقة الّتي عاينَ بها M العالم من حوله وحلّله بعد الإصابة.
يمكن أن نتعلّم من حالة M هذه الكثير عن نشاط الدّماغ. أثّرت إصابته المعقّدة في القدرات المختلفة للدماغ إلّا أنّها لم تُعَطّلها بالكامل. قد نستنتج بأنّ المناطق المختلفة في الدّماغ تعملُ سويّةً، وأنّه لا توجد منطقة مسؤولة لوحدها حصريًّا عن مهارة معيّنة.
من الصعب فهم السلوك المعقّد والمتشابك للإنسان، والّذي أثار وما زال يثير اهتمام الباحثين في مجال الدماغ، وتتطلّب دراسة الآليّات الفيزيولوجيّة الّتي تقف خلف هذا السلوك تجارب اجتياحيّة على بني البشر، علمًا أنّ مثل هذه التجارب لا تُجرى كثيرًا وبشكل عرَضيّ. يصعب أحيانًا تفسير دور الدماغ في كيفيّة ردّ فعل الإنسان على ما يجري حوله. لقد وفّر الأشخاص الّذين تعرّضوا لإصابة دماغيّة وحصل لديهم تغيّر ملحوظ في أعقابها، مثل المريض M، فرصًا فريدة لاختبار طريقة نشاط دماغ الإنسان، واستخلاص الاستنتاجات الّتي من شأنها أن تُعزّز ما نعرفه عن الدماغ وطرق علاجه. دوّنَ الأطبّاء على مرّ الزمن المعلومات المختلفة عن مصابي الدماغ، ووثّقوا الأعراض ونوعيّة الإصابات، وحاولوا الربط بين مناطق معيّنة في الدماغ وبين السلوكيّات والمهارات الّتي تتأثّر بها. سنتعرّف في هذه المقالة على بعض تلك الحالات، ونرى كيف تطوّرت معرفتنا عن نشاط الدماغ بفضل حوادث عرضيّة وقعت وكان من الصعب تقدير نتائجها.
شخصيّة فينياس ڠيج الجديدة
شارك العامِل المدعو فينياس ڠيج (Gage) في إزالة الصخور من طريق شُقَّت فيها سكّة قطار حديديّة في القرن التاسع عشر. انفجرت المادّة المتفجّرة المستخدمة في إزالة الصخور قبل أوانها ما أدّى إلى حادثة عمل رهيبة إذ اخترق قضيب حديديّ كبير جمجمة ڠيج وخرج من الجانب الآخر. بقي ڠيج على قيد الحياة، بالرغم من الإصابة البالغة الّتي تركت ثغرًا في رأسه، وعاش بعدها اثنتي عشرة سنة. بقيت ذاكرة ڠيج وقدرته على الحركة والعمل كما هي. مع ذلك فقد بلّغ المقرّبون منه أنّ طِباعه قد تغيّرت تغيّرًا جوهريًّا في أعقاب الإصابة. لقد أصبح ڠيج غليظ القلب، قليل الراحة، ويشتم الآخرين كثيرًا، واستصعب أقلمة نفسه مع المجتمع من حوله. تمّ فحص جمجمة ڠيج بعد مرور بضع سنوات على وفاته، وذلك للتعرّف على المنطقة من دماغه الّتي مرّ منها القضيب الحديديّ الّذي أصابه وأدى إلى التغيير الّذي حصل في شخصيّته.
اتّضح أنّ إصابة ڠيج كانت في مقدّمة الرأس، المنطقة المُسمَّاة "قشرة الفصّ الجبهيّ" (prefrontal cortex). تنقسم القشرة الدماغيّة الى أربعة أقسام تُسمَّى فُصوصًا؛ قشرة الفصّ الجبهيّ موجودة، كما يظهر في اسمها، في الفصّ الجبهيّ (frontal lobe). تؤثّر هذه المنطقة، كما هو معروف لنا اليوم، في مهارات كثيرة، من ضمنها القدرة على التحكّم في الغرائز وضبط السلوك- تلك هي المهارات الّتي تضرّرت لدى ڠيج. بالإضافة، يوجد لهذا الجزء من الدماغ دور مركزيّ في النشاط الذهنيّ "الرفيع"- أي المهارات الذهنيّة المعقّدة كالذاكرة والإصغاء والتعلّم والتفكير التجريديّ- وكذلك في شخصيّة الإنسان وكيفيّة التعبير عنها.
يمكن أن تُفسّر لنا المعلومات المتوفّرة لدينا اليوم عن قشرة الفصّ الجبهيّ تأثير العمليّة الجراحيّة الدماغيّة المُسمّاة بالجراحة الفصّيّة (أو بَضْع الفصّ الجبهيّ)، والّتي كثر إجراؤها منذ ثلاثينيّات القرن العشرين. تُعدُّ هذه العمليّة اليوم، من الناحية الطبيّة ومن الناحية الأخلاقيّة أيضًا، موضوعًا للجدل،. كان الهدف من هذه العمليّة فكّ الارتباط القائم ما بين الفصّ الجبهيّ وبين باقي أجزاء الدماغ، من منطلق أنّ ذلك يؤدّي إلى حلّ المشاكل الناجمة عن النشاط المعطوب للدماغ. أُعدّت هذه العمليّة لعلاج الأشخاص المصابين نفسيًّا كانفصام الشخصيّة بشكل خاصّ، إلّا أنّها أجريت أيضًا للمثليّين جنسيًّا، وللأشخاص المتخلّفين عقليًّا، وحتّى للنساء اللاتي أبدين "عدم اكتراث بالأولاد" أو "سلوكًا شاذًّا". استخدام هذه العمليّة نادر جدًّا في أيامنا. يرى غالبيّة الأطبّاء والباحثين فيها عمليّةً قديمةً تفتقر للدقّة، وقد تنجم عنها تعقيدات طبيّة كالنزيف الدّماغيّ، والتشنّجات والتلوّث وحتّى الموت.
ذاكرة هنري موليسون الفريدة
شقّت قصّة هنري موليسون (Molaison)، المعروف بالأحرف الأولى من اسمه،.H. M، طريقًا حقيقيًّا في فهمنا للذاكرة البشريّة. انتابت موليسون تشنّجات صعبة أعاقت مجرى حياته وذلك بعد أن تعرّض لحادث على دراجة هوائيّة. أجريت له عمليّة غير اعتياديّة سنة 1953، عندما بلغ السابعة والعشرين من عمره: تمّت إزالة جزء كبير نسبيًّا من دماغه، لِتقليل وتيرة النوبات الّتي كانت تصيبه. أدّت هذه العمليّة إلى تقليل نوبات الصرع لدى موليسون فعلًا، إلّا أنّ عارضًا جانبيًّا غير متوقع رافقها: لم تتكوّن لدى موليسون ذكريات جديدة بعد العمليّة. بقيت لديه ذكريات حياته ما قبل العمليّة، إلّا أنّه لم يتذكّر شيئًا ممّا جرى بعدها. أحد آثار ذلك أنّ الباحثة في الذاكرة، الّتي رافقت موليسون عشرات السنين، كانت مضطرّة للتعريف بنفسها أمامه يوميًّا.
يكمن تفسير الحالة الخاصّة لموليسون والّتي تُسمَّى فقدان الذاكرة التقدميّ (Anterograde amnesia)، في الجزء المهمّ من دماغه والّذي تمّت إزالته أثناء العمليّة. إنّه عضو ملتفّ يُسمَّى الحصين، فرس البحر باليونانيّة (Hippocampus)، وذلك بسبب شكله. لم يكن الجرّاحون في الفترة الّتي أجريت فيها العمليّة، بخلاف باحثي الدماغ اليوم، على علم بأنّ للحصين دورًا مركزيًّا في عمليّة تكوين الذكريات الجديدة. تنتقل الذكريات بعد تكوّنها إلى مناطق أخرى في الدماغ حيث تُخزن لاحقًا دون أن تعتمد كليًّا على الحصين. تمكّن موليسون، بفضل ذلك، من استعادة ذكرياته من الماضي، حتّى بعد بالعمليّة الجراحيّة.
لقد نجح موليسون في تعلّم مهارات جديدة وتذويتها في ذاكرته، على الرغم من الضرر الّذي لحق بقدرته على تذكّر الأحداث والأشخاص الجدد. شارك موليسون لاحقًا في عدد من الدراسات والأبحاث العلميّة، وتعلّم من خلالها القيام بمهامّ حركيّة معقّدة، مثل رسم صورة معقّدة وهو ينظر نحو انعكاسها في المرآة. تحسّن أداء موليسون بعد أن كان يتعلّم المهمّة ويتمرّن عليها ويكرّرها، ذلك على الرغم من أنّه لم يتذكّر العمليّة التعليميّة الّتي مرّ بها بحدّ ذاتها.
هكذا اكتشف الباحثون أنّ ذاكرتنا ليست قالبًا واحدًا، وإنّما تتكوّن من قدرات فرعيّة مرتبطة بأجزاء مختلفة من الدماغ. تُسمَّى الذاكرة الّتي تَعَرّض تكوّنها لدى موليسون للإصابة، ذاكرة الخبرة والتجربة، بـِ "الذاكرة الصريحة" أو "الذّاكرة التوضيحيّة" (صريحة، بسبب قدرتنا على ذِكرها صراحةً) وهي تتعلّق بالحصين، بالمقابل، تُسمَّى ذاكرة المهارات بـِ "الذاكرة الإجرائيّة" أو "الذاكرة الضمنيّة" الّتي تشارك في تكوينها أجزاء أخرى من الدّماغ- هي الأجزاء الّتي لم تتمّ إزالتها من دماغ موليسون. يوجد لِلذاكرة الإجرائيّة، مثل مهارة ركوب الدراجة الهوائيّة أو العزف على البيانو، مفهوم لا يمكن التغاضي عنه أو إبطاله. قد لا نعيها مثل الذكريات التوضيحيّة إلّا أنّها تؤثّر في حياتنا بدرجة كبيرة وقد تشكّل جزءًا من تعريفنا لذاتنا.
مراكز اللغة: بْروكا وڤيرنيكا
تتيح لنا قدرتنا العجيبة والمثيرة على فهم اللغة واستخدامها صياغةَ الأفكار المعقّدة والتواصل مع الآخرين بنجاعة. قد تؤدّي الإصابة في دماغ الإنسان إلى فقدانه جزء من المهارات اللغويّة، بالإضافة لما يعانيه من الصعوبات الّتي تواجهه والناجمة عن الإصابة بحدّ ذاتها، علمًا بأنّه بفضل مثل ههذه الحالات، تطوّرت معرفتنا عن اللغة وعن المهارات الذهنيّة الّتي نحتاجها لاستخدام هذه اللغة.
لاحظ الطبيب الفرنسيّ بيير بول بروكا (Broca) الّذي عاش في القرن التاسع عشر، أنّ بعضًا ممّن عالجهم قد فقدوا القدرة على الكلام بعد تعرّضهم لإصابة في جهة اليسار من مقدّمة الرأس. كان لوي ڤيكتور لبورن (Leborgne)، في الخمسينيّات من عمره، هو أحد الّذين عالجهم بروكا، وقد تعرّض لتلفٍ دماغيّ في شبابه أدّى إلى اقتصار ما يمكن أن ينطقه على "طان" فقط. مع ذلك فقد حافظ على معدّل ذكائه ، وكان يفهم مَن حوله جيّدًا. قام بروكا بدراسة وبحث دماغ لِبورن بعد وفاته فوجد إصابةً في منطقة معيّنة في الفصّ الجبهيّ تُسمّى اليوم باسمه، منطقة بروكا.
تُسمَّى حالة لِبورن اليوم الحبسة التعبيريّة (Expressive aphasia)* من كلمة express ومعناها يُعبّر- أو حبسة بروكا. يصف المصطلح حبسة (aphasia، من اليونانيّة ἀ+φασία، ومعناها الحرفيّ فقدان النطق) فقدان القدرة اللغويّة الناجم عن ضرر جسديّ يلحق بالدماغ. يفهم المصابون بالحبسة التعبيريّة ما يُقال لهم إلّا أنّهم غير قادرين على التعبير عن أنفسهم بالكلمات.
لم يكن بروكا هو الوحيد الّذي ربط بين القدرات اللغويّة وبين منطقة معيّنة في الدماغ. فقد وصف الطبيب الألمانيّ كارل ڤيرنيكا (Wernicke)، بعد نشر النتائج الّتي توصّل إليها بوركا، منطقة أخرى في الدماغ- في الرابط ما بين الفصّ الجداريّ (parietal lobe) وبين الفصّ الصدغيّ (temporal lobe)- تؤدّي إصابتها إلى إحداث خلل في المهارات اللغويّة لدى المصابين الّذين عالجهم. وحظي هو الآخر بتسمية هذه المنطقة باسمه، "منطقة ڤيرنيكا".
احتفظ مُعالَجو ڤيرنيكا، بخلاف معالَجي بروكا، بالقدرة على الكلام، إلّا أنّه لم يُلاحَظ، من خلال الكلمات والجمل الّتي نطقوا بها، أنّهم يفهمون اللغة. لم يفهموا كلام الآخرين، ونطقوا جملًا طويلةً تنصاع لأصول الإنشاء اللغويّ، إلّا أنّهم بدّلوا بعض الكلمات بأخرى، بحيث فقدت الجُمل من مفهومها. يُسمَّى هذا النوع من الإصابة الدماغيّة الحبسة الاستقباليّة (Receptive aphasia، من كلمة recept الّتي تعني يستوعب أو يستقبل) أو حبسة ڤيرنيكا. يتكلّم الّذين يعانون من الحبسة الاستقباليّة بغزارة إلّا أنّهم لا يعون أحيانًا أنّ كلامهم يفتقر للمنطق، وهم غير قادرين على فهم (أو "استيعاب") اللغة.
سادت في الماضي نظريّة حاولت أن تُفسّر كيف نُبرمج الكلام ونخرجه لحيّز التنفيذ، وربطت بين منطقة بروكا ومنطقة ڤيرنيكا. يتمّ إنشاء الجمل وبرمجتها، وفقًا لهذه النظريّة، في منطقة ڤيرنيكا، ويتمّ إخراجها إلى حيّز التنفيذ، بالاستعانة بنشاط حركيّ، في منطقة بروكا. نعلم اليوم أنّ الوضع هو أكثر تعقيدًا من ذلك. يوجد لِكلتا المنطقتَين، بروكا وڤيرنيكا، أدوار مهمّة في مهاراتنا اللغويّة والنُّطقيّة، إلّا أنّهما ليسا المسؤولَين الوحيدَين عنها. تشارك مناطق أخرى من الدماغ في العمليّة المعقّدة لِفهم اللغة وإنتاجها.
دماغ مقسوم نصفين
الدماغ في الواقع هو عضو واحد، إلّا أنّه مقسوم نصفَين، تربط بينهما مجموعة من امتدادات لِخلايا عصبيّة تُسمَّى الجسم أو الصوار الثفنيّ (corpus callosum)، الّذي يتيح التواصل الوثيق بينهما. يشارك أحد نصفي الدماغ أكثر من النصف الآخر في جزء من نشاطه، كما رأينا في حالة اللغة، إلّا أنّ التواصل بين النصفين لا ينقطع إذا كان الدماغ سليمًا، الأمر الّذي يتيح تكامل المعلومات القادمة من كلا جانبي الدماغ. ما الّذي كان سيحصل في حالة انقطاع الاتّصال ما بين النصفين، بحيث يعمل كلّ منهما بشكل مستقلّ عن الآخر؟
تُسمَّى هذه الحالة "الدماغ المقسوم نصفين"، وهي تحدث عادةً نتيجة لعمليّة جراحيّة، إلّا أنّ بعض الأطفال يولدون وصوارهم الثفنيّ لا يؤدّي دوره بشكل سليم. يقترح بعض الأطبّاء قطع الصوار الثفنيّ للمُعالَج عن طريق عمليّة جراحيّة، لِمنع انتشار نوبات الصرع من أحد نصفي الدماغ إلى النصف الآخر، وذلك في حالات الصّرع بالغة الصعوبة، والّتي تنجم عن نشاط كهربائيّ غير مضبوط في الدّماغ. أتاح القلائل من المعالَجين، الّذين أجريت لهم مثل هذه العمليّة، للباحثين طرح الأسئلة المثيرة وزيادة المعلومات عن كيفيّة اختبارنا للعالَم من حولنا، والقيام بفعاليّات يشارك فيها نصفا الدّماغ بالوضع الاعتياديّ.
من المهمّ أن نذكر أنّ الدماغ يعمل وفقًا لـِ "الجانب المقابل"- أي إنّ المعلومات الّتي يتمّ استيعابها بواسطة عضو حِسّيٍّ في أحد جانبَيْنا تصل إلى نصف الدماغ في الجانب المعاكس. هكذا يُعالِج الدّماغ، على سبيل المثال، المعلومات الّتي نستوعبها عن طريق عضو البصر: يتمّ استيعاب وتحليل الجزء الأيسر من حقل رؤيتنا في نصف الدماغ الأيمن، وبالعكس. عرضوا، في تجربة مشهورة أجريت على أشخاص ذوي دماغ مقسوم نصفين، أمام هؤلاء جسمًا وُضع في أحد جانبَي حقل رؤيتهم، وطلبوا منهم ذكر اسم الجسم. لقد عرفنا، من دراسات وأبحاث بروكا وڤيرنيكا، أنّ مناطق الدماغ الّتي تشارك بإنتاج الكلام موجودة في نصفه الأيسر. نجح الأشخاص الّذين أجري الفحص عليهم، لهذا السبب، في تشخيص الجسم إذا تواجد عن يمينهم فقط، فشاهدته العين اليمنى ووصلت المعلومات الخاصّة به إلى النصف الأيسر من الدّماغ. بالمقابل، عندما تواجد الجسم عن يسار الأشخاص ونظروا إليه بالعين اليسار، لم تصل المعلومات الخاصّة به إلى النصف الأيسر من الدماغ فصرّحوا بأنّهم لا يروْن شيئًا.
قد "يتغاضى" المعالَجون الّذين تضرّر أحد نصفي دماغهم، أحيانًا، عن الجزء من الحيّز الّذي يحلّله ويعالجه هذا النِّصف. تُسمَّى هذه الحالة متلازمة الإهمال (neglect syndrome) أو الإهمال الحَيّزيّ النصفيّ، الّذي يمكن أن يحدث مثلًا عند تعرّض الشخص لِجلطة دماغيّة. من المحتمل أن يتناول الشخص المصاب بهذه المتلازمة الطعام من جانب واحد من الصحن، وأن يرسم على أحد جانبي الصفحة دون أن يَعي وجود الجانب الآخر من الصحن أو الصفحة.
هؤلاء بشر، وليسوا مجرّد أشخاص أجريت عليهم الفحوصات
وثّق الباحثون في مجال الدماغ على مرّ العصور قصص أشخاص نفد حظّهم، إذ عانوا من إصابة دماغيّة وخاضوا حياتهم وهم يروْن العالم من حولهم رؤية مغايرة عن المعتاد. أدّى التحليل المتعمّق لمثل هذه الحالات إلى تغيير جذريّ في ما نعرفه عن دماغ الإنسان، وأتاح للباحثين التعرّف على كيفيّة تَجَسُّد السلوكيّات والمزايا المعقّدة في الهياكل الفيزيولوجيّة داخل الدماغ. علينا أن نتذكّر بأنّ هذه المعلومات قد تمّ جمعها بالاستعانة بِأولائك المعالجين الّذين تعذّر على البعض منهم العيش حياة سليمة، واعتبرهُم البعض مجرّد مواضيع للبحث لا أكثر! إنّ هؤلاء، في نهاية المطاف، أوّلًا وقبل كلّ شيء، هم بشر مثل كافّة الناس، ويتوجّب علينا احترامهم كما يليق بهم، والمحافظة على خصوصيّتهم والإحسان إليهم.
لقد تحسّن كثيرًا علاج المصابين بدماغهم، وذلك بفضل الأبحاث والدراسات الّتي وصفت أعلاه وأبحاث كثيرة أخرى. يمكننا أن نتعلّم المزيد عن قدرة التفكير لدى الإنسان، عن طريق مواصلة البحث في مجال نشاط الدماغ والتعمّق به، على أمل توفير العلاج المناسب للمصابين بدماغهم في المستقبل.
* ترجمة : خالد إبراهيم مصالحة – معهد دافيدسون