logo

الديمغرافيّة السبب في إقامة دولتين لشعبين يهوديّين : يهودا أو إسرائيل؟

المحامي زكي كمال يكتب:
28-07-2023 07:11:46 اخر تحديث: 28-07-2023 07:16:33

لم تكن مظاهرتا مساء الأحد، الثالث والعشرين من تموز 2023، تلك المناهضة للانقلاب القضائيّ وفق تسمية المشاركين فيها، والتي شهدتها مدينة القدس ومحيط البرلمان الإسرائيليّ، وتلك المؤيّدة للإصلاحات


المحامي زكي كمال - تصوير : موقع بانيت وصحيفة بانوراما

القضائيّة وفق تسمية المشاركين فيها، والتي أجريت في شارع "كابلان" معقل الاحتجاجات المعارضة منذ 28 أسبوعًا، حدثًا يستحقّ الاهتمام الخاصّ والمميّز من الناحية السياسيّة والحزبيّة والبرلمانيّة، فهما تندرجان ضمن مظاهرات التأييد والرفض للخطوات ألتشريعية ومحاولة كلّ طرف من طرفي هذه المعادلة استعراض عضلاته ومحاولة التأكيد على أنه يستطيع تجنيد عدد أكبر من المشاركين ، والادّعاء خاصّة من الجهة اليمينيّة للخريطة السياسيّة أن المشاركة الكبيرة هي الدليل على أن الشعب الذي منح حكومة نتنياهو السادسة 64 مقعدًا في البرلمان، ومكّنها من تشكيل ائتلاف واسع، منحها الدعم للإصلاحات القضائيّة، رغم أن ذلك يجافي الحقيقة ويناقضها، فنتنياهو والليكود والأحزاب المتديّنة لم تذكر لا من قريب ولا من بعيد في حملتها الانتخابيّة قضية الانقلاب الدستوريّ القضائيّ، والتي ورد ذكرها فقط في برنامج الأحزاب اليمينية الاستيطانيّة على لسان وزير المالية والوزير المشارك في وزارة الأمن بتسلئيل سموتريتش، بينما أراد معارضو الانقلاب الدستوريّ التأكيد على أن مؤيّديهم يفوقون عددًا ما حصلت عليه المعارضة من مقاعد برلمانيّة، وأن نسبة لا بأس بها من مصوّتي اليمين والليكود يعارضون الانقلاب القضائيّ الذي يهدّد اللحمة الداخليّة في إسرائيل، ووحدة الجيش الإسرائيليّ والاقتصاد والصناعة وغلاء المعيشة، وبالتالي على الحكومة التوقّف فورًا عن تشريعاتها المتسرّعة والشخصيّة التي تريد هدم الجهاز القضائيّ، ومنع كلّ إمكانيّة للرقابة القضائيّة بمعنى شرعنة الفساد والتعيينات غير الملائمة، بل المحسوبيّات، وهو ما فشل نهائيًّا بعد أن أقرّت الكنيست بأغلبيّة 64 مؤيّدًا تعديل قانون "حجّة المعقوليّة" أو "ألأرجحية" كخطوة أولى في الانقلاب الدستوري، لكنّ المظاهرتين بتزامنهما والاهتمام الإعلاميّ المتزامن بهما، وإصرار محطّات التلفزة على إبراز المقارنة، أو المقاربة العدديّة للمشاركين في كلّ منهما والتي اتّسمت بالتعادل بنحو 62000 مشارك في كلّ منهما رغم أن اليمين أصرّ على نعت مظاهرته بالمليونيّة، ربّما تيّمنًا أو محاولة للضغط وإبراز العضلات، ومن حيث هويّة الخطباء والمتحدّثين في كلّ منهما، وهويّة المشاركين وانتماءاتهم الطائفيّة والسياسيّة والدينيّة والجغرافيّة، تؤكّد في نظري أن هاتين المظاهرتين وهما ربما مسك الختام، على الأقلّ بالنسبة لمؤيّدي التشريعات، هما التعبير الأصحّ والأدقّ والأوضح على طبيعة الخلاف، بل الصراع الذي تشهده إسرائيل منذ انتهاء الانتخابات في الأوّل من تشرين الثاني عام 2022، وبشكل أكبر وأخطر منذ إعلان وزير القضاء ياريف ليفين، خطوات الانقلاب الدستوريّ، والتي تهدف إلى تقزيم الجهاز القضائيّ، ومنعه من تأدية مهامه ومنح الحكومة وحدها السيطرة على السلطتين القضائيّة والتشريعيّة، فالمنطلقات واضحة والدوافع واضحة : ائتلاف يملك أغلبيّة واضحة يدرك الشركاء فيه أنهم أمام فرصة لن تتكرّر لحرف الديمقراطيّة عن مسارها، وتحويل إسرائيل إلى دولة شريعة يهوديّة، كما قال نائب الوزير آفي معوز ، ردًّا على سؤال حول كون إسرائيل يهوديّة وديمقراطيّة، إذ قال أن بالإمكان التنازل عن الكلمة الثانية في الوصف المذكور، أي الاكتفاء بإسرائيل دولة يهوديّة، ومعارضة تدرك أن عدم تمرير التشريعات القضائيّة، أو الانقلاب الدستوريّ هذه المرّة، يعني أنها لن تصل حيز التنفيذ إطلاقًا، فالاستطلاعات تؤكّد أن الليكود يخسر صدارته، وأن نتنياهو لن يعود إلى منصب رئيس الحكومة إذا ما جرت الانتخابات، وأن الائتلاف الحالي يتراجع إلى نحو خمسين مقعدًا، وبالتالي جاءت المظاهرتان للتأكيد على أن الأمر ليس خلافًا أو صراعًا حول تغييرات قضائيّة، أو تشريعات أو غيرها، بل إنها حرب قبائل وطوائف وانتماءات عرقيّة ودينيّة واجتماعيّة، أو حرب ديمغرافيّة.

انطلاقًا ممّا سبق شكَّلت المظاهرتان بتزامنهما واختلافهما، حالة أنتروبولوجيّة اجتماعيّة، خاصّة وفق التعريف العلميّ الذي يعتبر أن الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة هي دراسة لتصرّف الإنسان في المجتمع الذي ينتمي إليه، وفق مصطلحات عديدة منها الانتماء الطائفيّ والدينيّ، والسياسيّ، الثقافيّ، وطريقة الحياة التي يعيشها الإنسان في المجتمع، باعتبار الجماعة، أو المجتمع، مجموعة من الأشخاص تجمعهم صفات متشابهة، ويقومون بنفس العادات والتقاليد وتربطهم روابط اجتماعيّة، ويقومون بنشر الثقافات والمواقف والتوجّهات الخاصّة بهم، نحو خلق بنية أو وجود بنيويّ قوامه وجود نوع من العلاقة والترتيب بين الأجزاء التي تدخل في" تركيب الكلّ"، وذلك لأن ثمّة علاقات وروابط معيّنة بين الأجزاء التي تؤلّف" المجموعة "، وتجعل منها بنية متماسكة للمدى القريب، أو البعيد أو لتحقيق أهداف آنيّة، وهذا ما كان واضحًا خلال مظاهرتي التأييد والمعارضة، حيث برزت في الأولى القواسم المشتركة للقبيلة، أو المجموعة الديمغرافيّة ووضُحت صورة مكوّناتها، وهي تتألّف من المستوطنين "المسيحانيّين" الذين يريدون أرض إسرائيل التاريخيّة والمتديّنين الذين يريدون إسرائيل دولة يهوديّة، أو دولة شريعة تسود فيها تعاليم التوراة، والتي تنصّ على أن أرض إسرائيل يملكها شعب إسرائيل، وأنها تشمل الضفة الغربيّة كلّها وغور الأردن، أو دولة دكتاتورية يحكمها رجل واحد تلتف حوله الطوائف اليهوديّة الشرقيّة التي يسود أوساطها الغضب على "الغبن" المُتَخَيَّل الذي الحقته بهم المحاكم، وجهاز القضاء وعلى "استصغار" اليسار واليهود الغربيّين الأشكناز لهم وإقصائهم من مواقع التأثير واتّخاذ القرارات، وأنصار الليكود وكلّ هذه الجماعات الذين تميّزهم قواسم مشتركة وتوجّهات لا تختلف كثيرًا، أوّلها المواقف اليمينيّة المتطرّفة التي تحنّ إلى الملكيّة وحكم الرجل الواحد (شعارات بيبي ملك إسرائيل) ، وثانيها تطلّعاتها إلى بسط سيطرتها على مواقع اتّخاذ القرار بشتى الطرق والوسائل بعيدًا عن أيّ سلطة أو رقابة قانونيّة تمامًا كما السيطرة على الأراضي الفلسطينيّة، وثالثها التصرّف الجماعيّ الذي يمكن حتى وصفه بأنه يجسّد "نظريّة القطيع" باعتبار كثيرين ممّن شاركوا يمتثلون دون تفكير أو نقاش أو ملاحظة أو سؤال آيا كان، بأوامر الحاخامين الذين يؤكّدون أن العالم كلّه ضدّ إسرائيل، وأن على حكّام إسرائيل عدم الإصغاء للأغراب، سواء كان ذلك في أوساط المستوطنين أو الأحزاب الدينيّة المتزمّتة الحريديم، وهي الأحزاب التي ترفض الكثير من بوادر التقدّم العلميّ والتقنيّ ناهيك عن رفضها لمساواة النساء، وهو ما يتجلّى في منع النساء من الترشّح للبرلمان، أو حتى للسلطات المحليّة، وتقديس دراسة التوراة بدلًا من الخدمة العسكريّة، والإصرار على زيادة الميزانيات المخصّصة للمعاهد الدينيّة وسلبها من المواطنين العرب، ولعلّ خير انعكاس لما سبق هو أنهم وصلوا المظاهرة في تل أبيب بسفريات منظّمة موّلتها الحركات الاستيطانيّة اليمينيّة المتطرّفة التي موَّلت معهد كوهيليت القانونيّ الذي يحرّك عجلات الانقلاب الدستوريّ، بملايين الدولارات سنويًّا، ناهيك عن أن معظم أنصار الانقلاب القضائيّ يمتنعون عن تأدية الخدمة العسكريّة، ولا يساهمون في تحريك العجلة الاقتصاديّة والصناعيّة وصناعات الهايتك ، وإلى هذا يجب أن نضيف أسلوب التصرّف لهذه الجماعة والذي يتّسم بالعدوانيّة والعنف الكلاميّ والجسديّ وإقصاء كلّ من يفكّر بخلافهم وتخوينه، واعتباره عدوًا لدولة إسرائيل والشعب اليهوديّ والتوراة، والحديث بلغة نحن وهم، وسط رفض تامّ للمواطنين العرب باعتبارهم أعداء داخل إسرائيل، أو الطابور الخامس الذي يجب منعه من المشاركة في الائتلاف، أو الحكومة أو مواقع اتّخاذ القرار، وإلزامهم عبر قوانين عديدة بالولاء للدولة اليهوديّة، كشرط للترشّح والانتخاب، وهذا ما اتّضح من هويّة المتحدّثين في المظاهرة وهم من الشرقيّين( ميري ريغف ويهودا بوئارون من الليكود) ويمينيّون مستوطنون منهم بتسلئيل سموتريتش وعميحاي شيكلي الذي انسحب من حكومة نفتالي بينيت رفضًا لمشاركة القائمة العربيّة الموحّدة في الائتلاف، وغيرهم من ممثّلي الحركات الاستيطانيّة التي تطالب بتضييق الخناق على المواطنين العرب في النقب والجليل، ومنعهم من الالتحاق بالجامعات، أو الحصول على أماكن العمل، أما اللهجة التي سادت المظاهرة فهي لغة التخوين والتهديد والوعيد والمطالبة بسجن المعارضين.

المظاهرة الثانية المعارضة للانقلاب الدستوريّ القضائيّ، شكّلت تجسيدًا للمجموعة الديمغرافيّة الثانية وقوامها أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى المنتجة والعاملة التي تدير الصناعات والشركات الكبرى، وتقف خلف أفضل الاختراعات في مجال التقنيات المتقدّمة الهايتك، وكبار ضباط الجيش والمتطوّعين في سلاح الجو والأطباء والمحاضرين الأكاديميّين في الجامعات والباحثين في مختلف المجالات، ومعظمهم من أبناء الرعيل الأول الذي عمل على إقامة دولة إسرائيل ويريدونها ديمقراطيّة متطوّرة ومتقدّمة تربطها بالعالم عامّة، والولايات المتحدة خاصة علاقات مميّزة، ويؤمنون بالحريّة الشخصيّة والفرديّة وحقوق النساء والمثليّين والأقليّات، ويعتبرون الخدمة العسكريّة جزءًا لا يتجزّأ من الحياة المدنية وشرطًا أساسيًّا من شروط المواطنة، وتقودهم الحريّة الفرديّة وهي التي دعتهم إلى الانضمام إلى المظاهرات الاحتجاجيّة بشكل طوعيّ، ومن منطلق إيمانهم بأن الديمقراطيّة تعتمد في أساسها على استقلال الجهاز القضائيّ وحريّته ومنع تحويله إلى بساط تدوسه الحكومة، وإلغاء دور البرلمان والرقابة على اختلاف أنواعها وسلطاتها، إضافة إلى إيمانهم بقيم عالمية ومشتركة تعتمد الشفافيّة والسعي الى السلام وعلاقات حسن الجوار، وحريّة التعبير عن الرأي والبحث الأكاديميّ وحريّة الصحافة والإعلام، وحقوق المرأة، يرفضون تقديس الزعماء والانصياع لحاخامين يريدون سيادة التوراة بتعاليمها الجافّة التي تخدم مصالح سياسيّة ضيّقة، والتي تتيح الاستيلاء على أرض الغير وغير ذلك.

"مجموعتان ديمغرافيّتان"
الصراع هنا إذن ، بين سبطين أو مجموعتين ديمغرافيّتين تريد الأولى جعل إسرائيل دولة شريعة لا تعترف بغير اليهود، وتريدها قلبًا وقالبًا، جغرافيًّا وحضاريًّا ، جزءًا من الشرق الأوسط وبالتالي تعتبر أن دولة إسرائيل يجب أن تخضع كما تنصّ التوراة على حكم ملكيّ وفق معايير يهمّها أولًا أرض إسرائيل التوراتيّة، بعيدًا عن حقوق الإنسان، ويهمّهما الاستيطان بدلًا من الصناعة والتقدّم التكنولوجيّ، ويهمّها أن تكتظّ معاهد تعليم التوراة بالدارسين باعتبار إيمانهم بأنّ التوراة هي التي تحمي شعب إسرائيل، كنوع من الاعتماد على " قوة الرب الحامي لشعب إسرائيل" ، ومنع أيّ إمكانيّة للرأي المخالف أو الإعلام الحرّ، وكم بالحريّ إسدال الستار على أيّ احتمال للسلام مع الفلسطينيّين وإقامة كيان سياسيّ لهم، وتقليص حقوق الأغيار داخل دولة إسرائيل، وهي أهداف لن تتحقّق ما دام الجهاز القضائيّ مستقلًّا وما دامت القوانين المدنيّة هي التي تحكم، وما دامت الحريّات الشخصيّة ماثلة وقائمة، وما دامت حريّة الانتخاب والترشّح مضمونة لكافّة المواطنين دون فارق في العرق والدين والجنس، كما نصّت وثيقة الاستقلال ، وبالتالي تعمد إلى سنّ قوانين وتشريعات تصبّ في مصلحتها، وتوفّر لها السيطرة الماليّة والسياسيّة حتى لو أدّت إلى انهيار الاقتصاد والصناعات وسحب الاستثمارات الدوليّة والعالميّة وخفض التصنيف الائتمانيّ للدولة ورفع الأسعار وإثقال كاهل المواطنين كافّة دون استثناء بالضرائب وغلاء المعيشة، فالله موجود وهو الذي يساعد ويضمن العيش والرزق والعيش الكريم، بينما تريد المجموعة الديمغرافيّة الثانية، إبقاء إسرائيل دولة ديمقراطية حتى لو كانت يهوديّة ومنع تحويلها إلى دولة لليهود فقط، كما تريد إبقاء الدولة كما هي متقدّمة ومزدهرة اقتصاديًّا خدمة لمواطنيها كافّة، كما في النظام السليم لإقامة الدول ووجودها، وانطلاقًا من الإيمان بأن الدول وقادتها وقياداتها إنما وجدت لخدمة مواطنيها وضمان أمنهم واستقرارهم ورفاهيّتهم، وليس العكس، أي أن يصبح المواطن، بغضّ النظر عن مواقفه، ضحية لمطامح قياداته ورغبتها في البقاء على سدّة الحكم أو إنقاذ "عنقها من قرار قضائيّ"، وباختصار هو صراع ديمغرافيّ يعيد إلى الاذهان، وربما إلى الاقتراب من حيّز التنقيد، الحديث عن دولتين لليهود، الأولى دولة إسرائيل العلمانيّة المتطوّرة الديمقراطيّة، والتي يسودها فصل السلطات والحريّة الشخصيّة والأكاديميّة وحريّة الفكر والبحث العلميّ والمساواة بين الجنسين، والانفتاح على العالم ، ودولة يهودا والتي كانت جماعات متطرّفة يمينيّة قد أعلنت إقامتها قبل سنوات ومنهم عضو الكنيست من حركة "كاخ" ميخائيل بن يائير الذي أعلن رغبته في إقامة دولة يهودا التوراتيّة التي تصبح اليهوديّة فيها مزيجًا واحدًا من القوميّة والديانة ، وصولًا إلى دولة تعتبر نفسها دولة لليهود فقط لا تلتزم بقوانين وتشريعات مدنيّة، بل بنصوص توراتيّة تتيح قتل الأغراب، أو استعبادهم على الأقلّ، وتعتمد تعاليم التوراة من حيث التزايد الطبيعيّ بعيدًا عن العصرنة والتقدّم وتحديد الولادة، وسلب حقوق النساء واعتبار أرض إسرائيل كلّها بما فيها أرض إسرائيل التوراتيّة التي تشمل دولًا عربيّة ، وعدًا إلهيًا لليهود، وغير ذلك من الأوامر، التي تشرعن كافّة الخطوات لتحقيق الغاية الكبرى، وهي تنفيذ "وعد الله لشعب الله المختار"، أي عمليًّا اقتراح يمكن تسميته " دولتان لشعبين يهوديّين" شعب إسرائيل العلمانيّ، وشعب يهودا المتديّن اليمين الاستيطانيّ، وهو اقتراح لم يصل بعد حيّز التنفيذ، وبالتالي يحاول كلّ طرف من أطراف هذه المعادلة السياسيّة الوصول إلى حالة يشكّل فيها هو الأكثرية الديمغرافيّة، وهي حالة تزداد فيها احتمالات فوز أنصار دولة يهودا، فهم الأكثر إيمانًا بالتوراة وفريضة" تكاثروا وتكاثروا" .

" صمت أهل القبور"
وبين هذا وذاك ، غاب عن المشهد التظاهريّ، العامل الثالث الذي يمكنه حسم المعركة لصالح واحد من الطرفين والمقصود هنا نحو مليون ونصف، بل أكثر من المواطنين العرب الذين صمتوا منذ بداية الاحتجاجات ضد الانقلاب الدستوريّ صمت أهل القبور، اللهم باستثناء بيانات إعلاميّة لبعض النواب، دون أن يساهم المجتمع العربيّ في وضع ثقله كمن يشكّل نحو ربع مواطني البلاد، سيكونون أول وأكثر من يتضرّر فالدكتاتوريّة تبدأ بسلب حقوق الأقلّيّات القوميّة ثمّ الأقلّيّات السياسيّة ثمّ الأقلّيّات الأخرى والمختلفة، وأصحاب الميول المختلفة سياسيًّا واقتصاديًّا وجنسيًّا، ورغم ذلك امتنع العرب عن المشاركة في المظاهرات والاحتجاجات بدواعٍ أقل ما يقال فيها، أنها أعذار واهية إزاء ما يحدث وإزاء أبعاد بعيدة المدى والخطيرة عليهم، فهم أكثر من يحتاج إلى المحاكم والجهاز القضائيّ الذي يشكّل السدّ الوحيد أمام دكتاتوريّة الأغلبيّة، وبالتالي فإن امتناعهم عن المشاركة الفعّالة في المظاهرات بحجج أنها تمنع رفع الأعلام الفلسطينيّة والشعارات ضدّ الاحتلال هو ربّما عذر أقبح من ذنب، فهم يدركون أن حصول حكومة اليمين الحاليّة على حريّة إخضاع الجهاز القضائيّ، ومنعه من قول كلمته ولو لم تكن دائمًا كلمة حقّ، يعني إسدال الستار على حريّاتهم وحقوقهم وميزانياتهم وأمنهم وإمكانيّات تعليمهم وتقدّمهم وازدهارهم وتوسيع بلداتهم وحقّهم في السكن في بلدات يهوديّة، ناهيك عن إسدال الستار على أيّ إمكانيّة للحلّ السياسيّ مع الفلسطينيّين، ومنع أيّ إمكانيّة لكيان فلسطينيّ أيًّا كان، وهو أخطر من منعهم من رفع العلم الفلسطينّي، كما يعني تكريس الاحتلال وضمّ الضفة الغربيّة إلى إسرائيل وهو أخطر من منعهم من رفع الشعارات المناوئة للاحتلال، وهم في هذا إنما يواصلون لعبة الشعارات والغوغائيّات بدلًا من ممارسة اللعبة السياسيّة على أصولها، كما أنهم يجعلون حكومة اليمين التي أوصلوها إلى الحكم بأصابعهم التي أسقطت حكومة التغيير، سوطًا مسلّطًا على الرقاب.

وعودة إلى الحديث عن " الدولتين" وفي خضم الصراع الإسرائيليّ الداخليّ حول القضاء والقانون والعدالة والديمقراطيّة والحياة الكريمة، وسلطة القضاء والأمن الشخصيّ، يتحوّل هذا الشعار إلى واقع حياتيّ، فإسرائيل تصبح دولتين الأولى ينعم فيها مواطنوها اليهود بالأمن والأمان، وتتواجد فيها الشرطة ويتمّ كشف وحلّ لغز جرائم القتل واعتقال المنفّذين ومعاقبتهم لضمان مواصلة المجتمع حياته الاعتياديّة والمنتجة، والثانية "دولة المجتمع العربيّ" التي تحوَّل أبسط الحقوق الديمقراطيّة لمواطنيها، والأوّل حتى في سلم احتياجات الأنسان، وهو الأمن الشخصيّ، إلى أقصى ما يمكن أن يتمنّاه الناس، بل إلى غاية لا تبتغى وحلمًا بعيد المنال، فأعداد القتلى تواصل الارتفاع لتزيد قبل أن ينقضي الشهر السابع من أصل 12 في عام 2023، عن 135 قتيلًا ومئات الجرحى والعائلات المهدّمة ، في حالة تعيد المواطنين العرب في هذه البلاد إلى خانة الصفر، وربما إلى أيام الحكم العسكريّ، التي أرادوا فيها فقط الحياة حقًّا واحدًا ووحيدًا، في حالة تعني تقليص دائرة طموحاتهم، وخفض سقف مطالبهم وتوقّعاتهم، وإصابتهم بالقنوط والإحباط، فهم يريدون الحياة .. مجرّد الحياة وليس جودة الحياة، وهذه هي بداية المنزلق الخطير نحو قنوط ينتهي إلى قبول الدكتاتورية، والّاكتفاء بمجرد الحياة، أدنى الحقوق، أو ما جاد به كرم السلطان...

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]