logo

وقفات : عندما لم يكن أحد فوق تنظيم الكتّاب

بقلم : سعيد نفّاع
23-07-2023 09:08:07 اخر تحديث: 27-07-2023 05:35:58

الوقفة الأولى... مع هيرو أونودا الجنديّ اليابانيّ الضائع من نافل القول إنّ البشريّة ومنذ وجودها (آمِن بهذا الوجود كيفما شئت) وجدت في تنظيم نفسها بأطر أداة للحماية بدءًا، وللرقيّ كنتيجة حتميّة لاحقًا.


 سعيد نفّاع - تصوير موقع بانيت وصحيفة بانوراما

فلم يرق مجتمع وبالتالي شعبٌ أو أمّة إلّا من خلال أطرٍ انتظمت في صفوفها وانطلقت بها تجاري الأحداث في حركتها الارتقائيّة وكذا الانتكاسيّة استنهاضًا. لا أحد في الدنيا ليس فردًا في إطار يحمله، ولا حتّى الجنديّ اليابانيّ الضائع أونودا الذي لو لم يجد له في طيور وحيوانات ونباتات جزيرته النائيّة إطارًا لما ظلّ ليعود. والانتظام في الأطر عمل إراديّ أو لا إراديّ ولكن الإرادي منها أكثر من اللاإرادي. هكذا هي الدنيا بأحيائها في حركتها الدائمة كانت وما زالت وستبقى.

الوقفة الثانية... مع الأنا والأطر
ما أصل الأقوال: "أنا فوق الأطر" أو إن تواضع القائل يصير القول: "أنا لا أستطيع أن أكون في إطار" أو إن تفلسف، يصير: "الأطر تحجز الحريّة وأنا حرّ". ما هو الأصل في القول ومن هم أصحابه وعن أيّ أطرٍ هُم يتحدّثون؟!

بدءًا، وحيث أن كلّنا جزء من إطار أو آخر وعلى الغالب بطيب خاطر راضين (الزواج مثلًا) مرضيّين (مكان العمل مثلًا) صاغرين متصاغرين (الاثنين). إذًا ما هو ذاك الإطار الذي يرى صاحب القول نفسه فوقه ولا يستطيع عليه صبرًا وأصغر من حريّته المدّعاة؟!

لا حاجة بنا لكثير تفكير في الإجابة، فهو ذاك الإطار، الجمعيّ بالأساس، الذي يتطلّب منّا أن نعطي أكثر ممّا نأخذ، هو ذاك الإطار الذي لا يلبّي طلبات الذاتيّة الفرديّة "اللّهّاطة" وبعد أن تغوّلت فينا على حساب الذات الجمعيّة المعطاءة.

وأيّ فوقيّة تلك التي ما هي إلّا ذاتيّة تحتيّة مرَضيّة؟! وأيّ عدم استطاعة تلك وهي الفاقدة لأولّ الأسس في الاستطاعة؛ الإرادة الذاتيّة؟! وأيّ حريّة تلك التي ما هي إلّا عبوديّة الذات للذات؟!

أبدًا الذات الجمعيّة فوق كلّ ذات فرديّة، ومهما تغوّلت، وهي الباقية وما عداها إلى زوال في مزابل التاريخ!

الوقفة الثالثة... مع الرعيل الأوّل
عود على ما كنت كتبت أكثر من مرّة، والعودُ أحمد... رعيلنا الأدبيّ الأوّل بعد النكبة وما أن التقط الأنفاس راح يعمل حثيثًا على تنظيم الحراك الأدبيّ في اتّحادات أو روابط، ويؤازره في ذلك الرعيل البعد والذي كان اشتدّ ساعده. بدأ المسيرة وأنجزها بعد عمليّة مخاض عسيرة معتبرًا ذلك عملًا وطنيّا على درجة عالية من الأهميّة لا بل وانتصارًا وطنيّا. عبّر محمود درويش عن معنى التنظيم في رسالة مفتوحة طويلة لسميح القاسم على خلفيّة تأسيس اتّحاد الكتّاب العرب عام 1987 بكلمات نقتبس قليلها القليل هنا في وقفتنا هذه، فكتب عن تنظيم الكتّاب في اتّحاد: "إعلانٌ عن انتصار ثقافة الضحيّة على ما تعرّضت له، من حروب الإلغاء والإبادة."

مرّ على هذا الكلام ستّ وثلاثون سنة، ورغم "الأيقونيّة" التي نعطيها لدرويش لا أعرف لماذا لا يتبنّى بعضٌ ليس قليلًا منّا اطروحاته إلّا انتقائيّا وعلى الغالب تجمّليًا على ما يبدو. فهل قوله الحاسم في معنى تنظيم الحراك الأدبيّ في اتّحاد هو ترفٌ انشائي غير حريّ بالتبنّي؟! أو أكل الدهر على محمود وقوله وشرب؟!

إن كان الأمر جهلًا بطرحه فهو خطأ، ولكن إن كان الانتقاء حسب الدوافع الذاتيّة والانكفاء والنكوص نحو المصلحة الشخصيّة فهذه خطيئة!

الوقفة الرابعة... ومع الرعيل الأوّل مرّة أخرى وبعض من والاه!
الرعيل الأدبيّ الأوّل وما أن لملم أنفاسه الثقافيّة بعد النكبة حتّى بدأ يرى في تنظيم الحركة الثقافيّة هدفًا في معركة البقاء. ونجح قبل العام 1987 جزئيّا وبعد العام 1987 أكمل النجاح من خلال عمليّة مخاض صعبة امتدّت على مساحة أربعين عامًا على النكبة ونتائجها، وليس قبل أن تخطّى الكثيرَ من العقباتِ الداخليّة الذاتيّة والخارجيّة الغيريّة، نجح في إطلاق تنظيم الحركة الثقافيّة، وإن بتنظيمين، على قاعدة الأطر التنظيميّة التي كانت في العقود الثلاثة الأولى وتعثّرت مسيرتها.

لم يتوانَ حينها أحد منهم عن الانتظام في أحد التنظيمين اللذين أقيما عام 1987؛ "اتّحادُ الكتّاب العرب في إسرائيل"، و "رابطةُ الكتّاب والأدباء الفلسطينيّين في إسرائيل".

لم يتوانَ أحد لأنّ الكلَّ وبغض النظر عن الانتماءات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، رأى أن دور الكاتبِ يتعدّى الإنتاجَ وفقط، يتعدّى الوعظَ وفقط، يتعدّاهما إلى العمل الميدانيّ بتنظيم الحراك والحركة الثقافيّين في مواجهة التحدّيات الكبرى التي واجهنا حينها ونواجه اليومَ وأصعب؛ فكريّا وسياسيّا واجتماعيّا.

لم يتوان حنّا أبو حنّا ولم يتوان إميل حبيبي ولا توفيق زيّاد ولا سميح القاسم ولا محمّد علي طه ولا فوزي عبد الله ولا طه محمّد علي ولا مصطفى مرّار ولا... ولا... عن الانتظام. فهل جيل اليوم، الكبير على الأطر (!)، أكبر من هؤلاء؟! أو مضى الدهر على ما فعلوا متخمًا أمام جيلنا "جيل الريجيم"؟!

وفي كلمته عن الإطار قال زيّاد: " واسمحوا لي أن أتكلّم بصراحة في الأمر التالي ...يمكننا المحافظة على الحريّة في اتّخاذ الموقف الشخصي وعلى الابداع الفردي، وفي الوقت نفسه أن نصون ونوطّد هذا الإطار الجماعيّ في القضايا المتّفق عليها... وأقول هذا لأنّه سيوجد دائمًا المتآمرون والاستفزازيّون أعداء شعبنا، الذين سيواصلون التآمر والاستفزاز ضد هذا الإطار الوحدويّ الجديد وسيواصلون البحث عن اللحظة المناسبة."

وعلى المقلب الآخر، إذا صحّ التعبير، الرابطة، نجد البرقيّة التالية من كاتب شاب هو إبراهيم طه (البروفيسور اليوم) والذي "والى" مع كثر غيره من الكتّاب الشباب ذاك الرعيل، يكتب فيها: "لا شكّ في أنّ إقامة إطار، يجمع الأدباء الفلسطينيّين العرب في هذه الديار، ضرورة من ضرورات الساعة. ونعني بذلك إطارًا يضع الكلمة المكتوبة في مقدّمة اهتماماته. ويرفض أن يكون داعية لهذا الحزب أو ذاك التنظيم."

فهل كان كلّ هؤلاء "يخرّفون" قولًا وفعلًا؟!

الوقفة الرابعة... مع النكوص والذات
ومرّة أخرى عود والعود أحمد...اليومَ نحن نعيش نكوصًا نحو ال"أنا" وعلى حساب ال"نحن". حوّلت الغالبيّةُ فينا الشهاداتِ إلى مجرّد رخص عملٍ واستغلالِ فرص تمكينٍ ذاتيّة. وفي حقلنا الإبداعيّ موضوعِ كلماتنا هذه والزخمِ التضخّمي من الكلمات، استفحلت الأنا لدرجة أن صار كمٌّ كبير من الكتّاب وفي كلّ المجالات الكتابيّة يعتقد ويؤمن أن دورَه هو يقتصر على الكتابة وحقولها الديجيتاليّة وحدّث فيها ولا حرج، والمحاضرة ومنصّاتها الأكثر من أن تُعدّ، "وكفى المؤمنين شرّ القتال". وأمّا الناس، وحسب اجتهاده، فما عليهم إلّا أن يئمّوا وراءه في الأمسيات ووراء ما يَكتب على الديجيتاليّات بعد شقاء يومهم وراء لقمة العيش الذي لم يترك لهم متّسعًا لا للسهرات ولا للديجيتاليّات، فإن أمّوا واستفادوا منه هو الواعظُ منبعُ الإفادة فكان به، وإن لم يقرأوا أو قرأت قلّتُهم ولم تفهم وبالتالي لم تستفد ف"التوك" فيها وفي قدراتها الاستيعابيّة طبعًا.

وحال هؤلاء الكتّاب في ذلك تمامًا كما الشيوخُ الوُعّاظ ليس إلّا. وما الفارقُ إلّا أنّ الشيخ الواعظ يعظ على الغالب بلسانه ومرجعيّتُه سماويّة وذاك بقلمه ومرجعيّته وضعيّة حاسبًا أنّها سماويّة، هؤلاء وأولئك نكصوا نحو الأرائك الوثيرة والصوامع المغلقة والمنصّات المنمّقة تاركين العمل الإبداعيّ الميداني، التنظيميّ في سياقنا، ظنّا منهم أنّهم أعلى مرتبةً وفوق العمل الميدانيّ.

الوقفة الأخيرة... مع الكبير والصغير
مثلما أنّ أحدًا من كبارنا لم ير نفسه حينها كبيرًا على التنظيم الثقافيّ، وكم بالحري إذا كان ذاك زيّاد وحنّا وحبيبي وعبد الله وطه ودرويش والقاسم ومحمّد و ... و ...، فلا أحد اليوم أكبر من التنظيم الثقافي وكم بالحري إذا كان...!!!