logo

‘ امباذوقليس النصراوي ‘ - بقلم : ناجي ظاهر

بقلم : ناجي ظاهر
26-06-2023 16:09:28 اخر تحديث: 09-08-2023 04:38:24

تمتّع الصديق الر احل فيصل محمد علي عبد المعطي (1933- 29-4-2021)، بشخصية ذات رؤية ورأي اتصفا بالعمق والحدة، وقد عبّر عن نفسه بوضوح وجلاء، دون أية جلبة أو ضجيج،


صورة من الكاتب

وعندما كنت أقول له خلال حياته إنني سأكتب عنه، كان يرفض بالقطع، قائلًا إنه لا يحب أن يعرفه أحد، إلا بشخصه العائش الماثل أمامه، ويبدو أن رؤيته هذه لذاته جعلته يمارس الرسم وينتج فيه أعمالًا أعتقد أنها احتوت عُمقًا نادرًا قلّ ما شاهدناه فيما أنتجه المعروفون وغير المعروفين من فنانينا العرب في هذه البلاد. كان فيصل باختصار شخصيةً مُعتمةً تُشبه تلك التي وصفها الدارسون عندما تحدّثوا عن الفيلسوف الاغريقي القديم امباذوقليس (من 490 ق.م إلى 430 ق.م)، ذلك الفيلسوف الذي وضع حدًا لحياته بقذفه نفسَه في بركان فيزوف، ليتّحد بالتالي بالنار هاربًا من الظلام الذي أحاط به وبعقله من كلّ جانب على ما أرى.

فيصل محمد علي من مواليد قرية صفورية المهجرة حاليًا قبل ثمانية وثمانين عامًا، وهو الاخ الاصغر للشاعر الصديق المرحوم طه محمد علي ( من مواليد صفورية عام 1931 ، توفي في 2 تشرين الاول 2011 في مدينة الناصرة)، ولهما شقيق آخر توفي العام الماضي عن عمر ناهز الـ 87 عامًا، هو أمين محمد علي وهو الاصغر بينهم، وقد شغل منصب رئيس لجنة المهجرين القطرية في البلاد. وفدت عائلة عبد المعطي من قريتها صفورية عام النكبة 48، إلى الناصرة للإقامة فيها، وفي هذه المدينة المضياف أقاموا في البداية في بي بيت مستأجر قام في منطقة السوق، وعاد لوقف الفاهوم الذري، بعدها ابتدأوا بهمّة، نشاط وذكاء في التأسيس لحياة جديدة، فحالفهم الحظ، ليفتتح كلّ منهم حانوتًا لبيع التذكاريات النصراوية للسياح من زائري المدينة أو المتردّدين عليها. وقد ربطتني بالأشقاء الثلاثة من هذه العائلة علاقة تفاوتت في عمقها ومعناها، لا سيما بالأخوين الاكبرين طه وفيصل، أما فترة علاقتي بهم فقد قاربت العشرين عامًا، كان هذا قبل نحو العقدين من الزمن.

اتصفت علاقتي بكلّ من الشقيقين طه وفيصل بميزة خاصة، ففي حين كانت هذه العلاقة بطه علاقة المستمع المُحب بما يجود به من دُرر كلامية حافلة بالمودّة، كانت علاقتي بفيصل تتمثّل بالتواصل العقلي المُندهش، دائم الدهشة، فهو صاحب رأي مختلف، يتصف بالعُمق والامعان في التفكير، وربما كان يكفي هنا أن أشير إلى عددٍ من الوقائع التي تدل على ذكائه وسعة أفقه، بعض هذه المواقف كنت شاهدًا عليه وبعضها الآخر استمعت إليه منه.

*عندما كانا فتيين صغيرين يجوبان ربوع قريتهما صفورية، توقّف فيصل- كما قال لي- قُبالة طه وجهًا لوجه وقال له إنني قادرٌ على إقناعك بكلّ ما أريد، فردّ عليه طه سائلًا إياه هل يمكنك أن تقنعني أن نور النهار يمكن أن يكون ظلامًا؟ فهز فيصل رأسه قائلًا له نعم أستطيع أن اقنعك بهذا. عندها استفزه طه سائلًا إياه كيف. فما كان من فيصل إلا أن قال له أغمض عينيك.. ماذا تَرى.. غير الظلام؟.. في هذا السياق كان فيصل يقول: إن الابواب المفتوحة أخطر من تلك المغلقة، لأن المفتوحة تدُل على شجاعة مُشرعها.. في حين أن المغلقة تدُل على خوف متأصل لدى من يقف وراءها.

*كنّا، فيصل وانا نجلس معًا في حانوته لبيع التذكاريات، عندما اقترب منًا صديقٌ لي لم يكن فيصل يعرفه، وأخذ – الصديق- يمتدح إحدى الدول الاوروبية مشيرًا إلى أنه قضى عقدًا من الزمن فيها من أطيب سني عمره وأفضلها، وراح يكيل المديح لتلك الدولة، في حين رحت أراقب ماذا سيقول فيصل، رفع فيصل يده وسأل محدّثنا: هل أفهم منك أن تلك الدولة تختلف عن سواها؟ وأردف مفجرًا قنبلةً كلامية اعتدنا على شظاياها الحادّة خلال علاقتنا به، قال: أعني هل تنبت ثمار البطاطا على الاشجار هناك. ما إن سمع محدّثنا الفخور ما قاله فيصل، حتى بدا عليه الحنق وارتفاع الضغط. قطب ما بين حاجبيه. شدّ على يده. انطوى على نفسه. وفي أول لحظة سانحة انسحب فارًا من ورطة قتّالة أدخل نفسه فيها دون أن يدري.

*كان فيصل يصوغ الحكايات واحدةً تلو الاخرى، وكانت حكاياته حافلة بالأحاجي والالغاز وتفيض ذكاءً. منها حكاية عن رجل اخضر. ظل يبحث عن نفسه في الألوان المختلفة ولم يجدها إلا في اللون الاخضر. على ما اتذكر. المستمعون لفيصل كانوا قلة من الاصدقاء، وكان بينهم كاتبٌ نثري وآخر شاعري، استوقفني فيصل في إحدى الاماسي قريبًا من ضوء حانوته وهمس في اذني قائلًا: إنه كان كلما روى واحدة من حكاياته لصديقيه المبدعين هذين، كان كلّ منهما يبادر لتسجيل ملاحظاته كي يقوم بصياغتها فيما بعد على طريقته الخاصة. وأضاف إنه قبل قليل روى لصديقه هذين واحدة من قصصه وبنات أفكاره. فسارع كلّ منهما لتسجيل ملاحظاته عليها.. كي يكتباها كلٌ بطريقته. فاستمهلهما ساخرًا منهما حتى ينهي الحكاية.

لقد عاش فيصل رحمه الله، حياةً صاخبة متنقلًا بين عوالمه الداخلية والخارجية، راويًا حكاياته لمن يستحق الاستماع إليها، كما قال في أكثر من موقف ومناسبة، وقد مارس الفن التشكيلي ووضع لوحاتٍ لافتةً آثر ألا يشرك أحدًا غريبًا في مشاهدتها، لوحاتٍ مميزةً غلب عليها اللون الاسود، وبزغت من أعماقها اشراقاتُ أملٍ بيضاء. فهل سيُقيّض لهذه اللوحات أن ترى نور الحياة ويشاهدها الناس؟ أم انها ستبقى رهينة العتمة التي عاش فيها صاحبها طوال عمره؟ ثم هل سيأتي يومٌ يكتشف فيه باحثون ومنقبون فنانًا غير عادي يُدعى فيصل محمد علي. مثلما حدث عندما اكتشف آخرون من هؤلاء الشاعر اليوناني الذي عاش وقضى في الاسكندرية قسطنطين كافافيس.. المتخفّي الباحث عن مكان يرتاح فيه.. ذلك الشاعر الذي كتب قصيدةً لافتة عن البرابرة؟ أرجو هذا.. وإن كان حلمًا بعيدًا قصيًا في بلادنا قاسية القلب فظته.