المحامي زكي كمال
والابتزاز والتخريب، يمتدّ السجّل الطويل لفشل وقصور وضعف، وحتى انتهازيّة وديماغوغيّة القيادات الإسرائيليّة القطريّة والمحليّة، العربيّة واليهوديّة على حدّ سواء، والتي اكتفت بالزعامة دون القيادة والفذلكات الإعلاميّة بدلًا من العمل الجادّ، والتهرّب من المسؤوليّة وإلقائها جزافًا على الغير، ومواصلة اتّخاذ نفس القرارات ونفس الخطوات أملًا في نتيجة مغايرة، بعكس القول الشائع أن قمّة الغباء هي تكرار نفس العمل وتوقّع نتيجة مغايرة، إلا إذا كان في تكرار العمل، ومع سبق الإصرار والترصّد، نهج استغباء للعامّة وضحك على الذقون. وهو الحال خاّصة في العقود الثلاثة الأخيرة في حياة الدولة بمواطنيها العرب واليهود وبقضاياها الخارجيّة، إقليميًّا وعالميًّا، والداخليّة، في تأكيد على "انقلاب سياسيّ وقياديّ" عاشته دولة إسرائيل- قبل الانقلاب القضائيّ الحاليّ- فأصبحت بخلاف العقود الأربعة الأولى من حياتها، التي اتّسمت بقافلة من القياديين والزعماء، الذين ورغم رفضي التامّ لمعظم سياساتهم خاصّة تلك المتعلّقة بالصراع الإسرائيليّ – الفلسطينيّ، والتي تراوحت بين اعتبار الضفة الغربيّة وقطاع غزة جزءًا من أرض إسرائيل، أو اعتبارها وديعة مؤقّتة يجب التنازل عنها كلّها، أو بعضها وسياساتهم تجاه الشعب الفلسطينيّ التي تفاوتت بين اعتباره شريكًا في عمليّة تفاوضيّة اختلفت أشكالها ، وبين اعتباره مجموعة لا ترقى إلى وصفها كشعب له تاريخ وحضارة، والمواطنين العرب داخل إسرائيل، لم تكن السياسة الإسرائيليّة خاصّة تلك القطريّة والعامّة ومن ثمّ السياسة المحليّة، تلك التي تحكمها الأيديولوجيّات، وليس بمعناها الضيّق الذي ينحصر في المواقف السياسيّة والبرامج الحزبيّة المتعلّقة بالمواضيع سابقة الذكر، بل بمعناها الواسع الذي يعتبر العمل السياسيّ والجماهيريّ، والذي يشمل العمل لمصلحة الجمهور والمصلحة العامّة، وتحكمها القيم الإنسانيّة. وملخصها الصدق والأمانة والإخلاص ونقاء اليدين (إسحق رابين استقال من منصبه رئيسًا للوزراء بسبب حساب مصرفيّ لزوجته في الولايات المتحدة الأمريكية حين كان سفيرًا لإسرائيل لدى واشنطن)، واعتبار التصريحات والوعود الانتخابيّة أمرًا ملزمًا وليس ضريبة كلاميّة، واعتبار السياسات أمرًا ضروريّ التنفيذ، بل أمرًا يستوجب الفشل فيه، استخلاص العبر وربما تقديم الاستقالة -كما كان الحال مع مناحيم بيغن الذي اعتزل الحياة السياسية بعد حرب لبنان عام 1982، بل إنها وخاصّة منذ أواسط التسعينيات من القرن الماضي أصبحت غير ذلك تمامًا . وهناك من يقرن ذلك ببداية عهد بنيامين نتنياهو رئيسًا للوزراء عام 1996، ولم تعد تلك الوسيلة ولا الوصفة السحريّة، ولا حتى الطريقة التي تحقّق مصالح الجمهور، أو التي تلبّي كلّ مطالب الشعب وتعبّر عن تطلّعاته ووحدته، بل أصبحت في ممارساتها تشكّل مفهومًا معوَّجًا للقول إن السياسة هي فنّ الممكن، بمعناها الانتهازيّ والسطحيّ والسلبيّ الذي يعتبرها وسيلة لضمان البقاء في المنصب وتضليل الرأي العام واستعداء المنافسين، وجعل التعهّدات والوعودات والبرامج الانتخابيّة وحتى الاتفاقيّات الائتلافيّة، وعودًا عرقوبيّة ينطبق عليها بالكاد القول "إنها صحيحة فقط للحظة النطق بها"، أو أنها" حقيقة مؤقّتة وزائلة سرعان ما تتلاشى". ويعتبر الصدق مقابل المواطنين والذي كان القيمة الأعلى نحو ضمان أمنهم وأمانهم وحياتهم، والاهتمام بمصالحهم، عبئًا يجب التملّص منه أو توصية غير ملزمة، كما يعتبر الفذلكات الإعلاميّة والمماطلة السياسيّة وكنس الأمور تحت البساط - باعتبار السياسة بأنها فنّ الممكن- وسيلة لتبرير العجز والفشل استنادًا إلى إيمان السياسيين بأن جماهير المصوّتين، أو مصوّتيهم مجموعة من التابعين لا حول لهم ولا قوة ، ومعارضيهم فئة غير محسوبة على الإطلاق، ومن يختلف عنهم عرقًا حتى لو كان مواطنًا معدوم الأمن والأمان تُسْلَبُ حياته، انطلاقًا من انحراف السياسة الإسرائيليّة عن مسارها الصحيح، وتحوّلها إلى سياسة تخدم أفرادًا بدلًا من أفراد يخدمون سياسة عامة، وإلى ساحة تحكمها نخب حاكمة تعمل على تسيير الأمور بما يتوافق مع مصالحها فقط، وبالتالي انتهى ذلك العهد الذي كان تعريف السياسة بأنها فنّ الممكن، يعني إنها مجال لمن يريد أن يحكم، وأن يقود وأن يشكل قدوة، ومجال هدفه توفير مقوّمات الحياة الكريمة، وتحقيق الإنجازات وتطبيق القانون، ومقاومة الظلم والتمييز.
هذا ما كان في العقود الثلاثة الأخيرة من حياة هذه الدولة التي شهدت اختفاء كلّ مظهر من مظاهر كون السياسة ومن ينفذها، أي السلطة التنفيذية وسيلة لحماية المواطن الفرد والاهتمام به، عبر سياسات واضحة ومتوالية لا تتغيّر بعد كلّ انتخابات ومع كلّ وزير جديد. وهو ما كشفت عنه ومنذ سنوات موجة العنف التي يعيشها المجتمع العربيّ في السنوات العشرين الأخيرة والتي تصاعدت فيها أعداد الضحايا من مختلف المناطق والأعمار بشكل تصاعديّ، لتتقلّص قليلًا في ظلّ حكومة التغيير، حكومة بينيت – لبيد وبفعل خطّة حكوميّة واضحة لمكافحة العنف اجترحتها القائمة العربيّة الموحدة وعزّزها اعتبار الحكومة موجة العنف آفة عامّة، بل خطرًا داهمًا، وربما تحرّكت خوفًا من وصولها المجتمع اليهوديّ، ولا ضير في ذلك ما دامت النتيجة كبح جماح أعمال القتل والاعتداءات الجنائيّة عن المواطنين العرب، وتجلّت بشكل خاصّ منذ تشكيل الحكومة الحاليّة حكومة نتنياهو السادسة، والتي وإن تعهّد رئيسها أبو يائير بالعمل لمصلحة كافّة المواطنين إلا أنها جاءت أمام اليهود والعرب على حدّ سواء، صورة ناصعة لتخلّي السياسة في إسرائيل عن أبسط قيمها ومهامها، بل أولها وهي الاهتمام بالمصلحة العامّة حتى ولم يكن أوّلًا، بل ثانيًا أو حتى ثالثًا، فهي صورة واضحة وجليّة للسياسة الإسرائيليّة الحزبيّة والحكوميّة، التي تكرّس الفذلكات الإعلاميّة، وتعتبر نفسها قبل وخلال وبعد الانتخابات في حالة انتخابات دائمة، تجعل قادتها يفكّرون بأنفسهم وحزبهم أوّلًا، ويواصلون إطلاق الفقاعات الإعلاميّة التي تستر عيوبهم وتطمئن مؤيّديهم، أو المفتنين بهم. فها هو الحديث عن استعادة الأمن والأمان يتحوّل إلى انفلات قاتل للعنف خاصّة في المجتمع العربيّ الذي سيسجّل هذا العام أرقامًا قياسيّة، تثير الرعب والهلع، من أعداد القتلى وبمعدّل قتيل كلّ يومين، بل إلى تحويل الشوارع والحارات في كافّة المدن والمواقع دون استثناء إلى ساحة حرب وحقل ألغام ومتفجّرات، واستخدام الوسائل المتقدّمة كالطائرات المسيَّرة دون طيار لتنفيذ اعتداءات جنائيّة في تل أبيب وجلجوليّة وغيرها. وها هي الشرطة التي كانت عاجزة أصلًا وضعيفة تتحوّل إلى أضحوكة دون هيبة، بل دون حضور، وها هي الحكومة ووزير الأمن القوميّ، وعملًا بتجرّد السياسة الإسرائيليّة من المسؤوليّات والقيم، وبدلًا من الاعتراف بالفشل والتقصير وعرض الخطط العمليّة للعمل لمصلحة الجمهور ، ها هم يلجأون إلى إلقاء اللوم على الآخرين وإلقاء الكرة في ملعب الغير، وتحويل النقاش من سجال حول فشل الشرطة الذي يتراوح بين الكبير والمُطلق وتقاعسها المقصود بفعل سياسات وزيرها، وحول حكومة قرّرت أن لا تتحرّك إلا لمصلحة رئيسها وتخليصه من السجن، ووزراء لا يملكون أدنى قدر من القدرة على القيادة والتفكير ، بل حكومة قرّرت حرق الأخضر واليابس اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا ومعيشيًّا، تكريسًا لأفكار يمينية خلاصيّة متطرّفة وخطيرة تعتبر المواطنين العرب أوّلًا ومعارضيها من اليهود ثانيًا أعداءً، إلى نقاش إعلامي عقيم حول مدى استعداد المواطنين العرب " للتعاون مع الشرطة" في ابتكار إسرائيليّ جديد لشرطة تعمل على مكافحة العنف والإجرام فقط في المناطق التي يساعدها فيها الناس، أي يقوموا بعملها، وإلا فليذهبوا إلى الجحيم، ولتأكلهم نار القتل والعنف، أو إلى نقاش لا طائل منه حول استخدام جهاز الأمن العام لمكافحة العنف والجريمة خلافًا لقانون جهاز الأمن العام، والذي يحدّد مهامّه وصلاحيّاته في "مكافحة الإرهاب ومحاولة المسّ بالنظام والسيادة" ، أي إلى تحويل الضحيّة إلى متّهم وإلى عنوان للاتهامات حول كونه هو من يمنع عن نفسه الخلاص والأمن والأمان، ومن يريد أن يستمرّ العنف، وإلا لكان قام بعمل الشرطة، بخلاف الدول المتحضّرة التي تعرف الشرطة فيها أنها المسؤولة الأولى والأخيرة والوحيدة عن أمن وأمان مواطنيها، وإلى نقاش حول عدم مرور الوقت الكافي من عمر هذه الحكومة لوضع خطط حقيقيّة وواضحة المعالم للعمل، بدلًا من النقاش حول كونها بكافّة وزرائها ووزيراتها جاءت تركب بلدوزرات هدم كلّ الخطط التي وضعتها الحكومة السابقة، وبعض خطط حكومات نتنياهو الخامسة والرابعة حول مكافحة العنف، وتحسين الخدمات والمساواة والميزانيّات، ليس لشيء بل لأنها تستطيع ذلك من باب الانتقام من حكومة التغيير والانتقام من العرب لمشاركتهم فيها، ودعم بعضهم إياها وتحديدًا القائمة الموحّدة، حتى لو كانت الحقيقة أن العرب وتحديدًا القائمة العربيّة المشتركة بمركّباتها الثلاثة، الجبهة والتجمّع والعربيّة للتغيير صوتوا إلى جانب إسقاطها، في خطوة كانت عواقبها وخيمة تؤكّد ما سبق من حديث عن تغليب المصلحة الشخصيّة- الأنا السياسيّ- والمصلحة الحزبيّة- ضرب القائمة العربيّة الموحّدة المشاركة في الائتلاف، وليس في الحكومة- على المصلحة العامّة للمواطنين العرب في إسرائيل وللفلسطينيّين في الضفة الغربيّة، وهي منع عودة اليمين ونتنياهو إلى سدّة الحكم انطلاقًا من الصورة الواضحة لائتلافه المستقبليّ قبل الانتخابات الأخيرة، بل قبل إسقاط حكومة بينيت- لبيد، وتغليب الشعارات الرنّانة والكاذبة حول المساواة لكرامة والحقوق، ورفض مبادلتها بالمال والميزانيات على الحقيقة، بل على حياة الناس، حياتهم وموتهم، في تجلٍّ واضح ومخيف للعمى السياسيّ الذي يعرف الحقيقة، لكنّه يضلّل بقصد، ولغاية في نفس يعقوب ثمّ يعود ليضلّل مرّة أخرى مبررًا نتيجة عمله المأساوية، ولكن " بعد خراب مالطة" ليتّضح أنه يعمل وفق نزوات بعيدة عن العمل المدروس وخالية من المسؤوليّة والنظرة بعيدة المدى.
هذا ما كان في القضايا الاقتصاديّة والحياتيّة، والتي كان من الواضح منذ منتصف التسعينيات في القرن الماضي أنها وإن تحسّنت لفترة قصيرة بفعل صناعات الهايتك والتقنيات العاليّة، وشركات رائدة وفَّرت عشرات آلاف أماكن العمل وعشرات مليارات الدولارات، وسمعة دوليّة رياديّة، إلا أنها لن تبقى كذلك بفعل حالة كرَّستها السياسة الداخليّة والائتلافيّة، والتي جعلت الأحزاب المتديّنة – الحريديم- بيضة القبان في تشكيل حكومات نتنياهو المتعاقبة، وخضوعها دون أيّ حواجز أو تردّد للمطالب الماليّة والتشريعيّة والتعليميّة لهذه الأحزاب، والتي تؤدّي في خلاصة الأمر إلى خلق جماعة تقارب نصف عدد مواطني الدولة اليهود، تتزايد باستمرار دون أيّ مشاركة في سوق العمل والإنتاج، ودون تأدية الخدمة العسكريّة، ودون تعليم عصريّ يشمل المواضيع الدراسيّة العلميّة والتقنيات واللغات، بل الاكتفاء بدراسة التوراة والشريعة، وفوق كلّ ذلك الحصول على مخصّصات لكلّ طالب يدرس في المعاهد الدينيّة العليا ، وهو ما اتّضحت آثاره فور بداية الانقلاب القضائيّ، وانسحاب شركات التقنيات العالية والمستثمرين الدوليّين من إسرائيل خوفًا من تحوّلها إلى دكتاتوريّة لا ضمان فيها للحقوق الفكريّة والقضائيّة والاقتصاديّة وحقوق الملكيّة، ولا ضمان لاستقلاليّة الجهاز القضائيّ والأكاديميّ ما يعني وضع الاستثمارات والمبالغ الماليّة الطائلة على كفّ عفريت، وهو ما كان واضحًا للعيان، ولكلّ من في رأسه عينان، لكنّ نتنياهو، عرَّاب السياسة الإسرائيليّة الحديثة التي تقول:" أنا الدولة والدولة أنا"، أو تعتبر القائد في المكان الأوّل، وعلى الشعب الاهتمام ببقائه، أو إبقائه في منصبه حتى لو كان الثمن الفقر والجوع والبطالة والعزلة الدوليّة والتمزّق الداخليّ وخطر الحرب متعدّد الجبهات والحديث عن انهيار داخليّ ممكن للدولة، وهذا ما كان في قضايا غلاء المعيشة في إسرائيل، فالصورة واضحة وارتفاع الأسعار اليوميّ أصبح حقيقة واقعة والدين الخارجيّ للدولة يتزايد بشكل مضطرد، وكذلك نسب التضخّم الماليّ، ومعها يضطرّ مواطنون إلى التنازل عن أنواع من الغذاء، وحتى عن الدواء لصالح أمور حياتيّة أخرى، وما يرافق ذلك من عدم استقرار اجتماعيّ داخليّ وهرب الأدمغة إلى الدول الأوروبيّة، ناهيك عن عدم استثمار المبالغ الكافية حكوميًّا في أطر الشبيبة والتعليم اللامنهجيّ، وعدم قدرة الأهل على تمويل مشاركة أبنائهم في هذه النشاطات إن وجدت، وهي معدومة في المجتمع العربيّ، وفوق ذلك الفشل المتواصل لجهاز التعليم في توفير تعليم لائق بمستوى يضمن اندماج الخريّجين العرب في مواضيع دراسيّة تقنية متقدّمة تكفل لهم الاندماج في أسواق العمل، وإلى ذلك يضاف ازدياد سيطرة "العناصر الإجراميّة والجنائيّة" التي عادة ما تنشط في الأزمات الاقتصاديّة وكأنّها توفر للمواطنين المحتاجين ما تمتنع عن توفيره الجهات الرسميّة والقانونيّة والشرعيّة كالمصارف والشركات من دعم ماليّ، أو قروض ماليّة، ناهيك عن دورها في استقطاب أعداد متزايدة من الشباب العاطلين عن العمل إلى صفوفها باعتبارها فرصة للربح الماليّ السريع مقابل خدمات جنائيّة. وهذا واحد من أسباب استفحال العنف في المجتمع العربيّ، يغذّيه ضعف الشرطة وافتقارها خاصّة في المجتمع العربيّ إلى الطواقم المهنيّة المحترفة والكافية، وسياسات وزير يعتبر نفسه مفتّشًا عامًّا أعلى للشرطة يريدها أن تطبق أجندته التي تتجلّى في تغيير اسم الوزارة من وزارة الأمن الداخليّ إلى الأمن القوميّ بمعنى الأمن لليهود فقط في دولتهم القوميّة وإصراره على إقامة ميليشيا خاصّة يسمّيها" الحرس القوميّ" في استمرار لما سبق من توجّه قوميّ عنصريّ تمييزيّ، يعتبر المواطنين العرب عدوًا وخطرًا وليس مواطنين لهم الحقوق أولًا وفي مقدّمتها الأمن والأمان، ويريد السيطرة على الشرطة، وتعيين مقربيه في قيادة الويتها، بخلاف مؤهّلاتهم وقدراتهم، بل وفق انتماءاتهم ومواقفهم السياسيّة القوميّة المتطرّفة، بينما يستفحل العنف وتتحوّل الشوارع إلى ساحات حرب، وتصبح جرائم القتل يوميّة وعنوانًا دارجًا في الصحف اليوميّة ونشرات الأخبار المتلفزة والمُذاعة.
"الممارسة الحديثة للسياسة "
والفشل هنا هو من نصيب القيادات السياسيّة القطريّة والمحليّة العربيّة، وذلك بفعل اعتناقها مبادئ " الممارسة الحديثة للسياسة " بمميزاتها من الابتعاد عن القيم والمبادئ، والاهتمام بالمصلحة العامّة وتحمّل المسؤوليّة، والنظر إلى المدى البعيد، وتغليب المصلحة الخاصّة والآنيّة والفئويّة الحزبيّة، أو حتى الشخصيّة على تلك العامّة والمستقبليّة واعتبار المناكفات السياسيّة الأمر الأهمّ والأوّل فهو يستدر عطف المؤيّدين واهتمام الإعلاميّين، بدلًا أمرًا منبوذًا يجب التنازل عنه إذا رافقه في الكفّة الأخرى، حياة الناس وأمنهم وأمانهم واقتصادهم، وتكرار العمل والتصرّف حتى لو أثبت فشله باعتباره الأسهل دون تكليف النفس عناء التفكير الخلَّاق، والبحث عن حلول واقتراحات مبتكرة، فهو فشل كافّة القيادات العربيّة القطريّة والمحليّة، باستثناء القائمة الموحّدة خلال حقبة حكومة التغيير وهي حكومة رغم شركائها الائتلافيّين بشَّرت بالخير، حتى وأن لم يكن ذلك من باب الرغبة، بل "مجبر أخاك لا بطل" بفعل اعتمادها على أصوات النوّاب العرب من الموحدة، لكنّ المناكفات الحزبيّة العربيّة أسقطتها، وكان بإمكانها منع ذلك حتى مع انسحاب النائبين عيديت سيلمان وعميحاي شيكلي وحتى نير أورباخ، لكنّ تغليب المصلحة الضيّقة والحزبيّة والشخصيّة على المصلحة العامّة، في لحظة من العمى السياسيّ المطبق، أسقطتها دون النظر إلى " أبعد من ارنبة الأنف "، ودون توقع ما كان متوقّعًا، بل مكتوبًا على الحائط، ليعود العنف رافعًا رأسه بعد انخفاض بنسبة تقارب 15% في أعداد القتلى خلال عام واحد في المجتمع العربيّ وخطة حكوميّة شاملة لمكافحة العنف وميزانيات وخطّة عمل تشارك فيها الشرطة والمحاكم وسلطات الضريبة والوزارات كافّة، ونائب وزير مكلَّف خاص بذلك، إضافة إلى ميزانيات تضمن تنفيذ خطط واضحة ودائمة ومستدامة تكفل تحسين الأوضاع الاقتصاديّة والتشغيليّة في المجتمع العربيّ، وحلّ مشاكل الأرض والمسكن، وإنقاذ قرى عربيّة في النقب من الهدم والاعتراف بأخرى- ولست هنا في معرض الخوض في دوافع الحكومة لفعل ذلك فالمهمّ هو النتيجة ما دامت لا تشترط التنازل عن الثوابت والمبادئ والقيم- وتحسين حال جهاز التعليم عامّة وتعزيز توجهات التعليم العالي، واندماج الأكاديميّين العرب في الوظائف، وعدم اشتراط الصهيونية قيمة عليا وأولى في الميزانيات والقرارات والتشغيل وغيرها كما هو الآن، والتخفيف من ضائقة السلطات المحلّيّة العربيّة، وضائقة البطالة للأجيال الشابة ودعم الرياضة والثقافة، فالمطالبة بالحقوق لا ترتقي إلى المستوى المدروس والمطلوب، وإشراك أصحاب الخبرات نقطة في بحر، والتعاون بين كافّة الاحزاب ليس قائمًا، فالمناكفات والمصلحة الحزبية أهمّ أمّا الإنجازات، أو العمل البرلمانيّ والجماهيريّ الجادّ ففي مرتبة أقل، وهكذا في قضايا العنف فردود "قيادات المجتمع العربيّ " من القطريّة والمتابعة، هزيلة ومتكررة وممجوجة بعيدة عن بعد النظر والشجاعة والتفكير الإبداعيّ، تكرر نهج المظاهرة الواحدة والوحيدة دون تجنيد صحيح وكافٍ، وتعتمد الردّ الآني لتنفيس الغضب وتخفيف الاحتجاج والادّعاء لاحقًا "لقد اتّخذنا خطوات" ، دون مراجعة للذات واستخلاص العبر من نجاحات، أو فشل نضالات سابقة ومن نجاح أو فشل وسائل نضاليّة تم استخدامها، وما زال رغم انه من الواضح أنها لا تفي بالغرض، كخيمة الاعتصام والمظاهرة الواحدة، ودون البحث عن طرق مبتكرة تؤكّد لمن يعتقد في الحكومة، أو البرلمان او الوزارات أن انعدام الأمن في المجتمع العربيّ يعني انعدام الأمن في كافّة أرجاء الدولة، وأن عدم انتظام الحياة والعمل في المجتمع العربيّ يعني كنوع من الاحتجاج عدم انتظام العمل في مرافق الدولة الحيويّة كالمستشفيات وغيرها والمصانع والمرافق الصناعيّة، بفعل إضراب عام طويل يتم إعلانه احتجاجًا وربما خطوات أخرى مدنيّة وقانونيّة يستوجب الإعلان عنها دراسة جادّة وتفكيرًا ودراسةً لكافّة أبعادها وبمشاركة الجميع، وليس قرارات سريعة بعد مشاورات تلفونيّة مدّتها ساعة واحدة بين نحو مئة شخصيّة لكلّ منها انتماؤها ومصالحها بعيدًا عن آراء الخبراء القانونيّين والأكاديميّين، بدلاً من البيانات الرنّانة، وتوجيه الاتّهامات واختصار القضايا، كما هو الحال في قضية العنف التي تتطرّق إليها هذه القيادات في معظم الأحيان ببعدها الضيّق الذي يرتبط بنوعية وتركيبة الحكومة وهويّة رئيسها، وبكونها عنصريّة أم لا، وبكونها تريد للجريمة أن تستفحل، وتعتبر إقالة وزير حلًّا سحريًّا لهذه الظاهرة، دون أن تدرك خطورة الاكتفاء بمطالَبة الشرطة بمكافحة الجريمة ، دون كون ذلك جزءًا من المطالب السياسيّة الأوسع نطاقًا، والتي ترتبط وتتعلّق بمكانة المواطنين العرب والمجتمع العربيّ في إسرائيل ، والمطالبة بتغيير كامل لتعامل الدولة مع المواطنين العرب ، والتأكيد على أن الجريمة هي نتيجة واضحة للسياسات والتمييز والإقصاء وانعدام مقوّمات العيش والمناطق الصناعيّة، وحلّ قضايا الأرض والمسكن، وإقناع صنّاع القرار بأن استفحال العنف في المجتمع العربيّ وازدياد شعوره بانعدام الأمن والأمان إنما يؤدّي إلى إبعاد المواطنين العرب عن دولتهم وزيادة شعورهم ، وله ما يبرّره، بأن الدولة معنيّة بسفك دمائهم، وأنّ أضراره الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتشغيليّة تشكّل وبالًا على الدولة عامّة، وليس المجتمع العربيّ خاصّة، وأن إعلانات رئيس الوزراء عن " التصدّي للعنف"، وضرورة إدخال الشاباك ليست الحلّ، بل هي ضرب من المماطلة والتسويف والديماغوغيّة والتهرب من المسؤوليّة، والطرفان هنا سيّان.
"التصريحات الرنّانة والفذلكات"
وعود على بدء، فإيران والنوويّ والتخصيب، هما دليل قاطع دوليًّا وإقليميًّا على "السياسة الإسرائيليّة الحديثة" التي تعتمد الديماغوغيا والتصريحات الرنّانة والفذلكات السياسيّة بدلًا من العمل الجادّ، وتعتمد استدرار عطف المؤيّدين ولقاءات الإعلاميّين، فالتصريحات الرنّانة من نتنياهو وزمرته حول "إنجاز غير مسبوق" بانسحاب أمريكا من الاتّفاق النوويّ وفرض عقوبات سوف تؤدّي إلى شلل الاقتصاد الإيرانيّ وانهيار النظام ووقف المشروع النوويّ، وصعود القوى الليبراليّة المناوئة لولاية الفقيه، وانتهاء عهد آية الله، وتنازل إيران عن الطموحات النوويّة، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال، لكن النتيجة جاءت معاكسة، فإيران تجاوزت نسبة 83% في تخصيبها وتقترب من النسبة التي تمكّنها من صناعة القنابل النوويّة، وها هي الولايات المتّحدة تقترب من العودة إلى اتّفاق مع طهران يعتمد مبدأ "أقلّ مقابل أقلّ" أي نسبة تخصيب أقلّ من 90% مقابل وتيرة وثقل أقلّ من العقوبات الاقتصاديّة وأقلّ رؤوس أموال وأصول تمّ تجميدها في المصارف الأمريكيّة، وعودة أيران إلى حضن المجتمع الدوليّ، ورغم هذه المعطيات ما زالت حكومة نتنياهو السادسة تكرّر نفس النهج.. وعود لا تنفّذ وتصريحات تجافي الحقيقة وتهرّب من المسؤوليّة وإلقاء التهم على الغير، ومواصلة المواقف الديماغوغيّة التي لا توفّر أيّ حلّ للقضايا والمشاكل بل تماطل وتعيّن اللجنة تلو اللجنة حتى يتمّ كنس الأمور تحت السجّادة قبل دفنها نهائيًّا، وهو حال لا يمكن قبوله ويجب على القيادات والزعامات العربيّة البرلمانيّة والجماهيريّة وغيرها عدم قبوله والخروج بمطالب وردود مدروسة ومبتكرة، تؤكّد صدق المطالب وقوّة المطالبين وقدرتهم على وضع الإصبع على موضع الألم، ووضع الحكومات في "خانة اليك" عبر نموذج عمل يشمل الأهداف وطرق تحقيقها وكلّ ما يلزمه ذلك من كافّة الجوانب والأبعاد والخبرات والخبراء، وليس قيادات تتّبع نفس نهج الحكومة من تكرار للأخطاء وردود مبتذلة وغير مبتكرة، وتصريحات ديماغوغيّة ومناكفات وفذلكات إعلاميّة، بينما يتواصل في المجتمع العربيّ دفن الضحيّة تلو الضحيّة... أمّا الديماغوغيا واستمرارها مع انعدام استخلاص العبر والمساءلة فهي السبيل إلى صناعة الطغاة، ودفن الحقوق والأحلام ونختتم بما قاله الكاتب والأديب المصريّ أنيس منصور "العاقل يستفيد من أعدائه، والغبّي لا يستفيد من أصدقائه"!!.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]