المحامي يحيى دهامشة - رئيس المكتب السياسي للحركة الإسلامية والأمين العام للقائمة العربية الموحدة
واحتجاجات، على جميع المستويات، بل وخطونا في القائمة العربية الموحدة خطوات أكثر من أجل ذلك، ودخلنا ائتلافًا حكوميًّا تحمّلنا فيه دعاوى التخوين والخروج عن الثوابت الوطنية أساسًا من أجل هذا الأمر، وأقمنا لجانًا، وساهمنا في إقرار خطط وقرارات حكومية معروفة من أجل مكافحة العنف والجريمة، خرجت إلى حيز التنفيذ في العام الماضي وبدأت تؤتي أكلها، إلى أن جاءت هذه الحكومة ووضعتها جانبًا.
وفي مقالة سابقة تحدّثت عن أسباب تحولنا إلى ما نحن عليه من تصاعد العنف والجريمة، وكيف وصل الأمر إلى ما وصل إليه، وقمت بتوصيف الحالة وأسبابها وذكرت مسؤولية الدولة وما يتوجب فعله.
في هذه المقالة سأتحدّث عنّا كمجتمع، عن دورنا ومسؤوليّاتنا. عن الواجب واللّازم والأفعال بين الخيارات المختلفة.
ولكي أخوض في هذا، أنا مضطرّ لأعود لأهمّ مراجعنا الأخلاقيّة التي لا نختلف فيها، وهو ديننا الحنيف، قرآننا وسنّة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، سيد الخلق أجمعين، الذي جاء ليتمّم مكارم الأخلاق (وليعذرني إخواني من غير المسلمين، ولكنني توجهت للأغلبية الساحقة من المجتمع، ولأنني لا أعتقد أن ما أذكره تعارضه الطوائف المنتمية لأديان أخرى).
لقد أجمع علماء الأصول عندنا على أنّ الإنسان مُخيّر، وأنّ قراره بفعل ما، نابع من إرادته (سواءً أتت بالكسب، كما أقرّها أهل السنّة والجماعة، أو بخلق أفعاله كما أقرها غيرهم). وكون الإنسان مُخيّرًا، فهو مسؤول عن أفعاله أمام الله عزّ وجلّ.
امتحان الأخلاق
إن امتحان الأخلاق عند الأمم والشعوب، يقع عندما يُتاح لأفرادها حريّة اختيار أفعالهم من بين خيارات عدّة، بعضها خير وبعضها شرّ. فحريّة الاختيار عند الإنسان هي امتحان أخلاقه، ولا معنى لأخلاق في نظام تُفرض فيه طرق التصرّف واتّخاذ القرارات، ولا قيمة لفضيلة تأتي من حاسوبٍ مُسَيّر. فبانعدام الخيارات، لا حاجة لأخلاق أصلًا.
في المجمل، فالقيم الأخلاقية تُعَبّر بتحقيقٍ لأفعال وسلوكيات ومواقف مفادُها كبْتٌ لأهواء وغرائز ونزعات حيوانيةٍ داخل الفرد، يعمل على تهذيبها كونه يعيش في مجتمع معيّن، يحدّد فيها هذا المجتمع السلوك في إطار قيَمِه الأخلاقية.
ولكي نكون صريحين مع أنفسنا وواضحين، نحن مجتمع اتّخذ العديد من أفراده قرارات لا أخلاقية، بغضّ النظر عن مسؤولية الدولة وما تقوم به. فعندما تهمل الدولة دورها في فرض القانون والسلطة وتترك الحبل على غاربه للمجرمين ولتجّار السّلاح في أن يعملوا دون رادع، هي في الواقع تتيح لك حرية امتلاك السلاح واستعماله، وإن كنت قد قررت امتلاكه، فأنت من اختار شراء السلاح، وأنت من اختار استعماله في حلّ النّزاع، أو حاولت استعماله كأداة لذلك.
الخيارات
وعندما تمتلك عدّة خيارات، منها القدرة على حلّ نزاع معيّن بقتل خصمك، فتتّخذ هذا الخيار، فلقد اتخذت خيارًا غير أخلاقي، يناقض دينك وتعاليم رسولك. وعندما تخرج لتقود سيارتك، وبجانب كرسيك هراوة تتّخذها كأداة لحلّ نزاع محتمل قد ينشب، فقد اتخذت خيارًا غير أخلاقي. وعندما تقرّر حمل سكّين في حقيبتك المدرسيّة فقد اتّخذت قرارًا غير أخلاقي.
ولست هنا بصدد الحديث عن الأفراد من عامة النّاس فقط، ولن أغفل عن ذكر القيادات. فعندما يحرّض القياديّ على قياديّ آخر، دون أن تنبز قيادات أخرى ببنت شفة، فقد اتّخذ هذا القياديّ فعلًا لا أخلاقيًّا، وصمتُ القيادات الأخرى كان قرارًا لا أخلاقيًّا. بل ورأينا أكثر من ذلك، رأينا قيادات شجّعت وباركت أعمال اعتداء وعنف ضد قيادات أخرى، وهذا أيضًا فعلٌ لا أخلاقي.
مجتمع يصبح فيه العنف أداة مشروعة لحلّ النزاعات والنيل من الخصوم، بحجج مختلفة، حتى عند قياداته، فماذا تنتظرون من أفراده في المواقع الأدنى؟! مخطئٌ من يراهن على جهل العوام وقلة استيعابهم، بل هم ينظرون إلى القيادات ويدركون. وهم بقدْرٍ من النّباهة كي يفهموا أن هناك تناقض بين الأقوال في كل مقام ومقام، وهذا التناقض هو ما يعطيهم التبرير لإخراج الوحوش من داخلهم.
لقد علّمَنا رسولُنا الأكرم صلوات ربّي وسلامه عليه، معلّم الناس الخير، أن "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد مَن يملك نفسه عند الغضب"، وعلّمنا عن الصبر: "إنّما الصبر عند الصدمة الأولى"، لا بعد ساعة، ولا يوم، ولا بعد شهرين.
يطلق المؤرخون على حقبة ما قبل الإسلام بحقبة "الجاهلية"، والمقصود بالجهل هنا عكس الحِلم، لا عكس العِلم كما قد يُخيّل لمعظم الناس. ويكفي هذا لندرك أنّ أهمّ ما جاء به ديننا الحنيف، هو نقل مجتمع من حقبة كانت إثارة الحميّة فيها والغضب مَكرمة لا منقصة، إلى مرحلة أصبح فيها الحِلم قيمةً أخلاقية عليا، والحِلم عند العرب هو "ضبط النفس والأناة". بالله عليكم، اسألوا أنفسكم أي مجتمع نحن اليوم؟، وأوجّه هذا السؤال لا إلى العوام فحسب، بل إلى المشايخ قبلهم.
إن أكبر تحدٍّ في المرحلة القادمة للمشايخ في مجتمعنا، وأخصّ بالذكر، أكبر مجموعة دعوية اجتماعية في المجتمع والتي أنتمي إليها، وهي الحركة الاسلاميّة، هو تحويل أخلاق الإسلام إلى ثقافة (ما لم يحدث إلى اليوم). لقد نجحنا في أمور كثيرة منذ أن نشأت الحركة الإسلاميّة في سبعينيات القرن العشرين، سواءً على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ (لا سيما على مستوى مظاهر الحياة الدينية والمساجد والمؤسّسات)، ومشاريع الحركة بارزة في كل مكان تثير الفخر في نفوس أبناء مجتمعنا العربيّ جميعًا.
لكن، يبدو أن أكبر تحدٍّ أمام المشايخ اليوم، هو كيف تتحوّل أخلاق الإسلام إلى ثقافة بين الناس، وكيف يتحوّل الخُلُقُ إلى سلوك، وكيف يغدو القولُ فعلًا. ذكرتُ في مقالتي السابقة عن العنف أنّ التحوّل من نظام عشائريّ وقبليّ إلى نظام المدنيّة، كان أهمّ تحوّل مرّ به مجتمعنا في الدّاخل، وهذا التحوّل وحده كفيل بخلق البلبلة في القيم والمفاهيم (يمكن الإسهاب في ذلك، ولكن ليس في هذا المقام).
"نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت"
إن الشّيخ الذي يقف ويخطب في النّاس بعد مقتل خمسة أشخاصٍ من مجتمعنا في مجزرة ارتكبها مجرمٌ من حثالات هذا المجتمع، ليتحدث عن عمر المختار والبطولات وعن الاحتلال وحرب الأعداء ويكرّر مقولة عمر: "نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت"، في إطار توصيف الحالة كحرب بيننا وبين الدولة، هو شيخٌ لم يفقد إدراك الواقع فحسب، بل يُعرب عن جهل في مقاصد دينه للأسف. لقد قال عمر المختار ما قال وهو في أسر إيطاليا الفاشية بعد أن حاربها عشرين عامًا فألقتْ عليه القبض وقيّدت حريته وحكمت عليه بالإعدام شنقًا. أما الشيخ، فيقول ذلك وهو في حالة يتيح "عدوّه" لابن مجتمعه أن يشتري السلاح وأن يستعمله أو أن لا يشتريه ولا يستعمله، فيختار أن يشتريه، وأن يستعمله، لقتل أخيه. بل ويقول الشيخ ذلك وهو لم يطلق رصاصة واحدة ضدّ "عدوه"، وكل ذلك في خضمّ مرحلة وصلت بها قوّة ومنعة "عدوه"، بأن يتيح له أن يقول ما يقول، دون الحاجة إلى دعوته حتى لحديث مع جهاز مخابراته. هذا لا يشبه عمر المختار، ولا علاقة له لا بنضال عمر ولا بجهاد عمر، هذه بطولات دونكيشوتيّة وهميّة في حالة إثارة حمية وغضب وجهل، عكسُ الحِلم تماما!.
لا أستبعد أن يكون هذا الأمر جزءًا من أزمتنا الأخلاقية التي نمر بها. فقدنا إدراك الواقع وأدلجناه في قوالب تفكير ضيّعت علينا ديننا ودنيانا.
إن تبرير كل ما يحدث في مجتمعنا اليوم بإحالته إلى مسؤولية الدولة فقط، هو أكبر جريمة نرتكبها بحقّ مجتمعنا، وهو هروب من المسؤولية أيضًا. نحن لسنا في حالة جهاد ضد عدو، ولا في حالة حرب تحرير، بل نحن في حالة لدينا فيها الخيار بين أن نشتري السلاح لفضّ الخصومات وحلّ النزاعات، وبين أن لا نشتريه، فنختار أن نشتريه وأن نستعمله، وأن نقتل ونسفك الدماء. وهذه ليست مسؤولية الدولة فقط في فرض سلطانها ومحاسبة الجناة وغير ذلك، بل هي مسؤولية مجتمع كاملٍ ما عادت للأخلاق قيمة فيه، مجتمع يكابر ويعاند، ويوظّف مصطلحات كـ "الاحتلال" و"الكيان الصهيوني"، من أجل أن يهرب من مسؤوليته في الالتزام بأخلاقه، ليحيلها إلى كونه في حالة غير طبيعية، ربما مؤقتة، يشعر من خلالها بأنه غير ملزمٍ بأن يكون على خُلُق، طالما هو في دولة ليست دولته، وفي كيان لا يشعر بالانتماء إليه.