الدكتور جمال زحالقة
على ضرورة اعتماد الصهيونية كبوصلة لعمل الحكومة، وفرض ذلك على مؤسسات الدولة وأذرعها المختلفة. وفي ظل تعثّر مشروع الانقلاب على الجهاز القضائي، تجد الحكومة الإسرائيلية أن من الأسهل عليها تنفيذ سياسات ترسيخ وتوسيع نظام الأبرتهايد على طرفي الخط الأخضر، مع التشديد على الضفة الغربية تارة، وعلى مناطق الـ48 تارة أخرى.
ليست حكومة اليمين المتطرّف الفاشي هي التي اخترعت أو أنشأت نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، ولكن ما تقوم به هو زيادة الفصل فصلا، ورفع منسوب العنصرية بشكل خطير. لقد كان هذا الانحدار نحو المزيد من التطرّف متوقّعا، إذ أعربت الحكومة الإسرائيلية من اليوم الأول عن نواياها، وجاهرت بمآربها وبمخططاتها الرامية الى ترسيخ وتعميق وتوسيع وقوننة ومأسسة نظام الفوقية اليهودية، وإلى اعتماد الفصل العنصري بوصلة لعملها ولممارساتها. وكان مركز «عدالة» القانوني قد أكّد في مطلع هذا العام، أن الاتفاقيات الائتلافية والخطوط العريضة لحكومة نتنياهو الجديدة من شأنها «إثبات نية جنائية بشكل يفتح المجال أمام تقديم لوائح اتهام شخصية في المحكمة الجنائية الدولية»، باعتبار أن الفصل العنصري هو جريمة بموجب القانون الدولي. وقد تراكمت في الأسابيع الأخيرة مجموعة من القرارات والقوانين والممارسات، توجه المزيد من سهام الأبرتهايد الإسرائيلي نحو فلسطينيي الـ48.
ما يميّز الحكومة الإسرائيلية الحالية أنّها أكثر عنصرية وفاشية من سابقاتها، وعليه فهي أخطر، وفي جعبتها المئات من القوانين والإجراءات العنصرية المعادية للعرب
تفاقم الجريمة
منذ مطلع العام الحالي وصل عدد القتلى، على خلفية جنائية، من العرب الفلسطينيين في مناطق 48 إلى 90 قتيلا، وقدمت 9 لوائح اتهام فقط وبقيت بقية الجرائم «غامضة»، على الرغم من أن الجميع يعرف في العادة هوية القتلة، والشرطة بالتأكيد تعرفهم جيّدا، إلّا أنها لا تقوم بما هو لازم لجمع الأدلة ضدهم وتقديمهم للمحاكمة. الشرطة نفسها استطاعت أن تقضى على منظمات الجريمة اليهودية الكبرى وان تخفّض معدلات الجريمة في المجتمع اليهودي. في المقابل «فشلت» في خفض مستويات الجريمة، في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل. وجاء هذا «الفشل» تبعا لسياسة التمييز العنصري في كل مجالات الحياة، بما في ذلك في مجال مكافحة الجريمة. لقد أصبح فشل الشرطة قاتلا بكل معنى الكلمة، ولا يتعلّق الأمر فقط بالسياسات، بل أساسا بالعقلية العنصرية، التي لا تقيم وزنا لحياة العربي. لقد عششت الجريمة في ظل نظام الأبرتهايد البائد في جنوب افريقيا، وهي «تزدهر» في دفيئة الأبرتهايد الإسرائيلي. فنظام الأبرتهايد يدفع ضحاياه الى مهاوي الجريمة، وهذه ليست بالضرورة سياسة مخطط لها، فهي أكثر تعبير عن عقلية سائدة. في جنوب افريقيا لم يُعتبر قتل الأسود جريمة، في حين جرى التعامل مع قتل الأبيض ليس كجريمة جنائية عادية، بل كمس بالأمن القومي. ولا تختلف الشرطة الإسرائيلية عن ذك، فهي تتقاعس حين يقتل العرب العرب، ولا تقبض على المجرمين، ولكن النشاط يدب فيها عندما يُقتل يهودي على خلفية جنائية وتقبض على المتهمين، بدقة في العمل وبسرعة في التنفيذ. الجديد في ظل حكومة اليمين الفاشي الجديدة أن عدد القتلى العرب منذ بداية العام هو ضِعف الفترة نفسها من السنة الماضية، وهذا أمر فظيع لأن القضية أكبر من عدد القتلى، بل قضية مجتمع بأكمله يعيش حالة من الذعر من إطلاق النار، ومن تفاقم جرائم القتل شبه اليومية. خلال الفترة الممتدة من عام 1980 إلى عام 2000، كان عدد القتلى في المجتمع العربي في الداخل نحو مئة قتيل، وخلال اقل من ستة أشهر وصل عدد القتلى إلى 90 قتيلا. من الناحية العملية سياسة الحكومة الحالية هي «دعهم يقتلون بعضهم بعضا»، وهي فعلا سياسة إجرامية، فالدولة التي لا تحارب الجريمة تقوم في الواقع بتشجيعها.
الصهيونية كقيمة عليا
ناقشت الحكومة الإسرائيلية قبل أسبوعين، اقتراحا باعتماد «قانون القومية العنصري» أساسا لعمل الحكومة، وطُرحت في الاجتماع اقتراحات مختلفة بالاتجاه نفسه، ومنها اتخاذ قرار رسمي بأن تكون الصهيونية هي مرجعية سياسات الحكومة وبوصلة أعما أذرع الدولة كافة في كل المجالات. ولتوضيح فكرة «الأولوية الصهيونية»، أي التمييز العنصري ضد العرب الفلسطينيين، قال وزير القضاء الإسرائيلي يريف ليفين: «العرب يشترون بيوتا في البلدات اليهودية في الجليل وهذا يؤدّي إلى هجرة اليهود لأنّهم ليسوا مستعدّين للعيش مع العرب. علينا أن نهتم بأن يكون قضاة في المحكمة العليا يفهمون هذا». وهكذا أوضح ليفين بأن جوهر التعديلات القضائية، التي يقترحها، هو ترسيخ نظام الأبرتهايد. رسميا، لم تقر الحكومة الإسرائيلية بعد اعتماد قانون القومية، مع أنّها عمليا تجاوزته في سياساتها العملية. والسبب هو معارضة المستشارة القضائية للحكومة بإعطاء أفضلية لهذا القانون على قوانين أخرى. كذلك عارضت الأحزاب الدينية التوراتية (الحريديم) إقرار الصهيونية كأساس لعمل الحكومة، خشية أن يرتد عليها وعلى جمهورها ويضر بهما في بعض المناحي. ولكن التوجّه العام واضح، وسيجري استرضاء الأحزاب الدينية التوراتية بصيغة قرار لا يمس مصالحها. ووفق هذا التوجّه ستكون هناك آلية «ناجعة» لاتخاذ سياسات تمييز عنصري مفضوحة ومكشوفة، دون الخشية من تدخل المحاكم، التي في الواقع نادرا ما تتدخّل.
تهويد الجليل
يقلق الهاجس الديمغرافي المؤسسة الإسرائيلية إلى درجة الهوس، ومن أكثر ما يشغل بالها هو التوازن الديموغرافي في منطقة الجليل شمال فلسطين. ويعيش في هذه المنطقة أكثر من نصف فلسطينيي الداخل، وهم يشكّلون أكثرية فيها، أي أن اليهود أقلية. وتقوم الحكومة الإسرائيلية وأذرع الاستيطان الصهيوني، منذ الخمسينيات بمساع حثيثة لقلب الميزان الديمغرافي في الجليل، وأقامت في سبيل ذلك مدنا مثل «نوف جليل» بملاصقة الناصرة، وكرميئيل وسط منطقة الشاغور بالقرب من الرامة ودير الأسد والبعنة مجد الكروم ونحف، ومعلوت بجوار ترشيحا ومعليا والجش وفسوطة والبقيعة. كما أنشأت مئات المستوطنات بأحجام مختلفة، ومنحت امتيازات كثيرة لكل يهودي يسكن في الجليل، ولكنّها لم تنجح مع ذلك في تغيير التوازن الديمغرافي. وقد أصيبت الحكومة الإسرائيلية بالهلع حين تبين أن رياض الأطفال تغلق بسبب تناقص الأعداد، وأن نسبة اليهود في انخفاض مستمر. وانطلاقا من الهواجس الديمغرافية ـ الجغرافية طلع الائتلاف الحكومة برزمة من المشاريع والقوانين لتشجيع هجرة اليهود إلى منطقة الجليل، ومنها خفض سعر الأرض وتكلفة بناء المساكن بادعاء أن ثمن الأرض عال ويُبعد المستوطنين، وكذلك إضافة ممثلين لوزارتي الاستيطان والزراعة إلى مؤسسات التخطيط القطرية واللوائية، لضمان تنفيذ سياسات الحكومة وفق المبادئ الصهيونية، ما يعني محاصرة الوجود العربي الفلسطيني واتخاذ تدابير لتشجيع الاستيطان اليهودي، كما جاء في قانون القومية حرفيا. ولم تكتف الحكومة الإسرائيلية بهذا، بل قررت دعم تعديل قانون الأبرتهايد المسمّى قانون لجان القبول، الذي يسري مفعوله في مستوطنات يصل عدد العائلات فيها إلى 400 عائلة، وينص على حق «لجنة القبول» في المستوطنة في رفض سكن شخص، أو عائلة على أساس «عدم الملائمة للنسيج الاجتماعي الثقافي»، أي رفض العرب بكلمات ملتوية. وينص التعديل الجديد على توسيع صلاحية القانون إلى بلدات يصل تعدادها إلى 1000 عائلة. والمعنى الفعلي لهذا القانون هو حرمان العرب الفلسطينيين في الداخل من السكن في أكثر من 80% من مجمل الأراضي في البلاد، التي تقع ضمن مناطق نفوذ المجالس الإقليمية للمستوطنات بهذا الحجم. هذا القانون هو نسخة طبق الأصل لما كان متّبعا في جنوب افريقيا، من منع للسود من السكن في المناطق البيضاء.
سهام أخرى
لا بدّ للحكومة العنصرية أن تعبّر عن عنصريّتها، فالإناء ينضح بما فيه بالضرورة. وما يميّز الحكومة الإسرائيلية الحالية أنّها أكثر عنصرية وشوفينية وتعصّبا وتطرفا وفاشية من سابقاتها، وعليه فهي أخطر، وفي جعبتها المئات من القوانين والإجراءات العنصرية والمعادية للعرب. وقد بدأت فعلا بسن قانون منع رفع العلم الفلسطيني، وشرعت في إجراءات جهاز قمعي جديد ضد فلسطينيي الداخل والقدس هو الحرس المدني، وتنوي زيادة دعم البؤر التوراتية في يافا واللد والرملة وعكا، لتضييق الخناق على أهلها العرب الفلسطينيين. كما أعلنت أنها سوف «تحل» مشكلة العرب في النقب عبر مصادرة الأرض والاقتلاع وتجميع السكان ومنع التمدد العمراني وممارسة المزيد القمع الأمني. يبدو أن الحكومة اليمينية الفاشية الحالية في إسرائيل تتجه نحو مرحلة جديدة من ممارسة الاضطهاد ضد فلسطينيي 48 في مجالات الأرض والمسكن والهوية القومية والقمع الأمني، وذلك بموازاة سياسات أكثر وحشية في القدس والضفة الغربية وغزّة. المجرم هنا، في البداية والنهاية، هو النظام الكولونيالي العنصري الصهيوني ذاته، الذي اصطلح على تسميته نظام الأبرتهايد الإسرائيلي، وقد آن الأوان أن تستلم جامعة الدول العربية هذا الملف على اعتبار أن القانون الدولي واضح وصريح وبموجبه يعتبر الأبرتهايد جريمة ضد الإنسانية. وعليه فإن الاعتبارات الإنسانية والقومية والوطنية تقتضي مواجهة ومقاضاة المجرمين بحق الإنسانية.