بشكل ديموقراطي مدة تزيد على عشرين عاما، وربما يكون الأوحد الذي خاض أكثر من سبع استحقاقات انتخابية فاز فيها جميعا على التوالي، وهو زعيم يحمل رؤية وأهدافا بعيدة المدى على المستوى القومي ثم على مستوى الأمة ككل.
فهو على المستوى القومي قد حقق نهضة اقتصادية، وقوة إقليمية يحسب حسابها، بعد ان كانت تركيا في حالة من الوهن والتشرذم والضعف لا تكاد تخرج من انقلاب إلا ودخلت في آخر، يسيطر عليها العسكر ولا تستطيع أي حكومة منتخبة أن تخرج عن طوعه وعن سياسته المرسومة وفق تبعية كاملة للغرب وحلف النيتو.
وعلى مستوى الأمة فبعد ان يئس أردوغان من ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وبعد فشل العديد من المحاولات استطاع أن يربط تركيا بدول الشرق وخاصة الإسلامية منها وأن يعقد العديد من التحالفات الاقتصادية والسياسية، وكانت له رؤية اقتصادية تنموية، ومحاولات لاستصدار عملة إسلامية موحدة مع مهاتير محمد رئيس ماليزيا ومع دول إسلامية أخرى مثل باكستان واندونيسيا وقطر.
كل ذلك وغيرها من الأعمال دفع أبناء الشرق المنكوب لأن يروا فيه الزعيم الملهم والقائد المخلص والرئيس الموهوب، وأن يقفوا إلى جانبه في كل انتخابات خاضها أملا في أن يكمل مسيرته، وخاصة بعد العديد من المواقف السياسية اللامعة مثل صراخه في وجه شمعون بيرس في منتدى دافوس عام 2009م وقوله: نعرف كيف قتلتم الأطفال في غزة، وبعد ذلك قضية أسطول الحرية لفك الحصار عن غزة ومجزرة سفينة مرمرة عام 2010م حيث توقفت العلاقات مع إسرائيل على إثرها، - كان حينها رئيس حزب الشعب الخاسر كمال أوغلو معارض لما يفعله أردوغان معتبرا ذلك ليس في مصلحة تركيا- ويظن البعض أن إتمام المسيرة فيما تبقى له من خمس سنوات أخيرة في الحكم سوف يحل قضايا الأمة وسوف يعيد لها سالف مجدها أو يخلصها من اعدائها الذين احتلوا بلادها، ولربما يعيد الخلافة الراشدة التي ننتظرها جميعا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل هي الحقيقة كذلك؟ وهل ينتظر من الرئيس أردوغان أن يحقق ما لم يحققه أسلافه من الزعماء الكبار أو ما لم تستطع الأمة تحقيقه عبر أكثر من مائتي عام بعد أن استُعمرت بلادُها وتقسمت أوطانها وانتهكت مقدساتها، وما تعيشه من وهن وفقر وتخلف على العديد من المستويات إذا قيست مع بلاد الغرب المتقدمة، وهل نحمّل الرئيس أردوغان فوق ما يحتمل؟ فإذا لم تتحقق الطموحات والأحلام عدنا إلى نظرية المؤامرة لتحميل الغرب المسؤولية عن توقف المسيرة.
وللإجابة على ذلك أريد أن أعود إلى ما كتبه رائد مدرسة الإصلاح الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله تعالى – في مجلته المنار قبل ما يزيد على مائة عام زمن السلطان عبد الحميد والخديوي إسماعيل باشا والثورة العرابية والزعماء الوطنيين مصطفى كامل وسعد زغلول وغيرهم إبان الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، فقد كتب مقالا بعنوان ( طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة) وصف فيه الأمة بالطفل الذي يظن إذا رأى القمر انه في متناول يديه، فيصف الحال بقوله:" فإن هذا العدد العظيم الذي يبلغ ثلاثمائة ألف ألف أو يزيد، الذي نسميه الأمة الإسلامية قد أمسى بحالة من الضعف الصوري والمعنوي والفقر المادي والأدبي يستحي من ينتسب إليه من وصفها وشرحها ، وقصارى ما نقول فيه: إنه لا يسمى أمة إلا بضرب من التجوز كما تسمى صورة الأسد المرسومة في الجدار أسدًا.. أليس السواد الأعظم مِنَّا لا يهمهم إلا لذّاتهم وحظوظهم الشخصية كما هو شأن الأطفال؟! هل يفقهون معنى الأمة ويعلمون ما هي المقومات التي تقوم بها، والروابط التي تجمعها والأمر الذي تؤمه وتقصده؟.. وهم الآن على درجات: فمنهم مَن لا يفكر في معنى الأمة قط، ومنهم مَن يرى البعيد قريبًا كالطفل، ويرى الحاكم قادرًا على كل شيء كما هو شأن الطفل الذي يطلب القمر أو الطير في الهواء من أمه أو أبيه".
هذا التوصيف لا يبرح يواكب الأمة للأسف إلى اليوم، فأحلامها كبيرة جدا ولكنها نائمة على الحقيقة، فالتغيير لا يكون إلا برؤية بعيدة المدى تقوم على الإصلاح الداخلي والتغيير التربوي النابع من الداخل وينطلق من القاعدة إلى القمة وليس العكس، وإن مثل هؤلاء الزعماء الذين يظهرون كشعاع الأمل في الليل المظلم وكالبرق اللامع بين الغيوم المدلهمة، يشعروننا بان هذه الأمة لا زالت حية وقادرة على التغيير والانطلاق، لا أنهم هم المنقذون والمخلّصون الذين سينتشلوننا من حمأة التخلف والضعف دون أن نكون قد استعدنا عافيتنا الجمعية للخروج من هذه الأوحال بقوة وصحة وعافية.
وإنني أستدل على ما أقول من خلال النظر في التاريخ غير البعيد الذي ظهر فيه الكثير من القادة والزعماء الذين التفت حولهم الشعوب وحاولوا بصدق خدمة أمتهم وشعوبهم ولكن تبين فيما بعد أن الواقع والظروف أقوى منهم وأن التغيير لا يكون إذا لم تتغير الشعوب بالتربية والتعليم والإصلاح الداخلي. فمحمد علي باشا يعد باني مصر الحديثة بعد الاستعمار الفرنسي، ولكن مسيرته لم تستمر، ووقعت مصر في الاستعمار الإنكليزي، والسلطان عبد الحميد الذي منع اليهود من الاستيطان في فلسطين رغم حب الجماهير له لم يزد على ان أطال في عمر الرجل المريض مدة من الزمان، ومصطفى كمال أتاتورك – مع الفارق- الذي حرر تركيا من الاحتلال اليوناني والإنكليزي وهتف الأتراك باسمه حتى عدوه أبا لهم، بل وشعر العرب حينها بشيء من العزة والفخر وتمنوا لو ان لهم قائدا مثله فأنشد احمد شوقي: الله أكبر هل في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب، وعلى ذلك قس الراحل جمال عبد الناصر وغيره من الذين هتفت الشعوب باسمهم.
وأذكر هنا ما حصل معي شخصيا حين سطع نجم الرئيس الراحل صدام حسين – رحمه الله – فقد كنت إماما وخطيبا في مدينة سخنين في الشمال حين اجتاح سنة 1990م الكويت وضمها إلى العراق على انها جزء لا يتجزأ منه، وقد فرحت الشعوب العربية بهذا الضم وخاصة أهل فلسطين والشام وقد أطلق الرئيس حينها لإسرائيل تهديدات قوية لقيت صداها في أرجاء البلاد العربية، وقد بلغ الهوس بحب صدام ان وصفه البعض بصلاح الدين، وخالد بن الوليد، بل إن البعض شهد برؤية صورته على وجه البدر في وسط السماء. ولكنني لم يأخذني هوس الشباب حينها – وقد كنت شابا لم اتجاوز الرابعة والعشرين من العمر- وفي الجمعة الأولى بعد اجتياح الكويت ألقيت خطبة الجمعة وطالبت الناس فيها بالتريث وألا يأخذهم الحماس المبالغ فيه إلى الغفلة عن الواقع الذي نعيشه وأن صلاح الدين لم يأت طفرة وإنما ظهر بظهور الجيل الذي احتضنه وأنتجه ولذلك كتب الدكتور ماجد العرسان كتابه (هكذا ظهر جيل صلاح الدين) ولم يقل هكذا ظهر صلاح الدين.
ثم إنني نقدت الخطوة التي قام بها المرحوم صدام وحذرت من عواقبها على الأمة ووحدتها، وعلى العراق الذي يعد عمقا استراتيجيا للأمة يجب أن نحافظ عليه، وقد واجهت اعتراضا من العديد من الناس الذين لم يتوقعوا مني هذا الخطاب، كان ردي ان ننتظر وسوف نرى نتائج هذه الخطوة غير محسوبة العواقب، وقد تبين فيما بعد صدق ما قلت، وتشرذمت الأمة ودخلت بعض الجيوش العربية وهم يهتفون الله أكبر في الحرب على العراق مع التحالف الأمريكي حينها، بل وأفتى بعض العلماء الذين لا نشك في علمهم وصدقهم بشرعية تلك الحرب وكان ما كان.
وتعلمت من حينها أن الشعبوية لا تجدي وأن استدرار العواطف في غير محلها لا يجدي وأن الخطابات الرنانة والشعارات البراقة التي لا تستند إلى أرضية صلبة لا تجدي، ولا بد من فهم الواقع ودراسة التاريخ وعلم الاجتماع والحذق في سبل النجاح والتمرس في فنون السياسة، حتى تستطيع أن ترى الأحداث على حقيقتها وأن تحكم عليها بشكل صحيح، وأذكر هنا قول الشيخ محمد رشيد رضا:" ومن البلاء على المسلمين أن كل إنسان يدعي كمال الفهم في علم الاجتماع الإنساني، والمعرفة بأسباب ترقي الأمم وتدلِّيها، لا سيما إن كان لديه شيء من الوساوس السياسية التي يتلقفها من الجرائد.."
إن دراسة التاريخ ومراجعة الأشياء وفهم الأحداث قياسا على ما شابهها مما سبق، وتصور الأمور على شموليتها، يجعلنا نحكم عليها بتروٍّ واتزان. فمن اقوال صاحب المنار حكيم الأمة في حينه:" إن معرفة حقيقة تاريخ الأمة هو الوسيلة الأولى للنهوض بها، والصعود في مراقي الحياة بين الأمم، وضرر الجهل به، والكذب فيه كضرر الجهل والكذب في بيان أحوال المريض، وأعراض أمراضه للطبيب الذي يعالجه".
ويقول رحمه الله وما أصدق ما يقول:" وحرام على من يجهل تاريخ الغابر وحالة العصر الحاضر أن يقول: هذا شيء يضر الأمة، وهذا شيء ينفعها، وقد منينا - والصبر بالله - بقوم جهلاء في ثياب علماء يغشون الأمة، ويغررون بها، توهمًا أن كل من يقرأ تنازع العوامل في النحو يعلم تنازع الأمم، وكل من يعرف أحوال تقديم المسند والمسند إليه وتأخيرهما يعرف أسباب تقدم الأمة وتأخرها، وكل من تصدّر للفتوى في مسائل الرضاع والطلاق وصحة الإجارة والسلم له أن يفتي في صحة الشعوب من أمراضها، وإطلاقها من وثاقها، بل وقعنا في فوضوية الأفكار والعلم، فصار كل فرد منا مِعنًّا مِفنًّا ( يتحدث في كل ما يعنّ له ويخوض في كل فن يعرض له)، ولا برهان يتوكأ عليه ولا دليل يرجع إليه".
وأخيرا فإن رجائي في صلاح الأمة ونهضتها غير متعلق بزعيم ولا رئيس، ولكنه متعلق بالله رب العالمين أولا ثم بوعي الشعوب وصلاحها، وإن زعماء كالرئيس أردوغان هم بارقة أمل للأمة ونقطة ضوء في نفقها المظلم ولقد فرحت بنجاحه وتمنيت ذلك ولو كنت تركيا لصوّت له، ولكن لا يعني ذلك أنني عقدت عليه كل آمالي ولا أنتظر منه تحقيق أحلامي، ولكن أملي بالله الذي شاء لهذه الأمة ان تبقى تنبض بالحياة رغم كل المحن والفتن التي تعرضت لها.
وما أمثال الرئيس أردوغان ومهاتير محمد وعلي عزت بيجوفيتش وغيرهم إلا دليل على وجود ورقات خضر على شجرة الأمة اليابسة تدل على حياة الشجرة وعمق جذورها، وهذه الأوراق عرضة للسقوط بما يهب عليها من عواصف المحن وزعازع الفتن، ولا بد لها من التربية السليمة والرعاية الصحيحة، حتى تعود شجرة خضراء يانعة وارفة الظلال يستظل بظلها ويسعد بعدلها العرب والعجم مسلمون وغير مسلمين.
والله غالب على أمره ..