الحكومة جلساتها ونشاطاتها بشكل اعتقد البعض أنه سيؤدي إلى طلاق أو فراق على الأقل، وعسكريًّا عبر تلميحات وتصريحات استُشِف منها أن إسرائيل على عتبة هدوء أمنيّ سيدوم طويلًا، وسياسيًا عبر حديث عن زيارات متتالية لدول أوروبيّة وغيرها تنتهي إلى تحسين صورة إسرائيل في العالم، وقضائيّ تتخلّله أحاديث عن مفاوضات ومحاولات للوصول إلى تفاهمات، وما يقابلها ويوازيها عسكريًّا من توتّر سيتواصل، وقد بلغ أوجه هذا الأسبوع بقصف إسرائيليّ لمواقع في قطاع غزة أسفر عن مقتل ثلاثة من قادة حركة" الجهاد الإسلاميّ" هم طارق عزّ الدين وجهاد الغنام وخليل البهتيني ،وعشرة من أبناء عائلاتهم من الأطفال والنساء، ما ينذر بمواجهة واسعة آجلًا أم عاجلًا، وربما لا يتم الردّ فلسطينيًّا على هذه العمليّة، لأن الردّ سيمنح حكومة اليمين ربما شرعيّة اجتياح غزة، وربما الضفة وسيعيد لُحمتها ووحدتها بعد أزمات ومناوشات الأسبوع الماضي، فالهدوء كفيل بإعادة الخلافات بين مركّباتها، وربما تفكيكها وأسقاطها، وائتلافيا حول عودة الأمور إلى مجاريها بين الشركاء في الائتلاف الحكوميّ وخاصة بين الليكود وحزب إيتمار بن غفير ( القوة اليهوديّة)، وعودة أعضاء الأخير في البرلمان إلى التصويت مع الائتلاف وتباهيهم بأن ذلك تم بسبب اغتيال القادة الثلاثة للجهاد الإسلاميّ، وما يعنيه ذلك من تغيير حسب ادّعائهم في السياسة الإسرائيليّة، وسياسيًّا عبر إعلان الاتحاد الأوروبيّ إلغاء الاحتفال السنويّ بتأسيسه والذي تنظّمه سفارته في إسرائيل بسبب مشاركة الوزير اليمينيّ المتطرّف إيتمار بن غفير فيه ممثّلًا للحكومة وهي مشاركة اعتبرتها الدول الأوروبيّة، باستثناء هنغاريا وبولندا (وهما دولتان تحوّلتا من ديمقراطيّة إلى حكم الرجل الواحد، وتربطهما بإسرائيل بنيامين نتنياهو علاقات وطيدة وخاصّة ومميّزة، ويبدو أنه عبر انقلابه الدستوريّ يريد أن تصبح إسرائيل صورة طبق الأصل عنهما)، وقضائيًّا عبر تحضيرات حثيثة في الحكومة والائتلاف وخاصّة الأحزاب المتديّنة واليمينيّة لمواصلة التشريعات المتعلّقة بالانقلاب الدستوريّ، واختيار الوقت المناسب لذلك. وهو دون شك سيأتي بعد انتهاء الحكومة من إقرار ميزانيّة الدولة للعامين القادمين حتى نهاية شهر أيار الحاليّ، وإلا سيتم الإعلان عن سقوط الحكومة والتوجّه إلى انتخابات مبكرة، لنكتشف مرة أخرى لن تكون الأخيرة الفارق الشاسع والهوّة الكبيرة بين التضليل السياسيّ والواقع السياسيّ، أو بين الحقيقة والتضليل الذي تعيشه إسرائيل وتحديدًا في الحكومات التي يرأسها بنيامين نتنياهو في السنوات الأخيرة، أو التضليل الذي تعيشه إسرائيل منذ انتخابات الأول من نوفمبر سنة 2022 خاصّة والذي يعتمد وفق أبسط تعريفاته على تشويه مقصود للواقع، بهدف الترويج لأفكار مغايرة للواقع والحقائق، عبر غرس الأوهام والاعتقاد الخاطئ، كما أن التضليل السياسي يعتبر أحد الأدوات التي يُمكن للسياسيين استخدامها لتحقيق أهداف محدّدة، وبين الحقيقة التي تختلف عنه اختلافًا كبيرًا.
فالحقيقة هنا أن كافة أطراف الائتلاف الحاليّ يدركون حقّ الإدراك والمعرفة أن لا بديل لهم عن هذه الحكومة، وأن خلافاتهم هي تصريحيّة وشكليّة وليست جوهريّة، والحقيقة أن العمليّة العسكريّة في غزة جاءت لإطفاء حريق داخل الائتلاف رغم إنكار الليكود ذلك، كما أنها تكشف مرّة أخرى أن ليس لإسرائيل أيّ خطة واضحة للتعامل مع الوضع في قطاع غزة منذ العام 2007 أي منذ استيلاء حركة "حماس" عليها، وأن رؤساء الحكومات المتعاقبة منذ ذلك اليوم منشغلون بالتركيبة الائتلافيّة وضمان بقائهم السياسيّ والحزبيّ دون الهم الجماعيّ، والحقيقة أنهم كلهّم يدركون حجم الضرر الذي ألحقوه بمكانة إسرائيل الدوليّة وعلاقتها مع دول العالم الأوروبيّة منها والعربيّة، وخاصة وفي المقدمة الولايات المتحدة، لكنهم قرّروا مع سابق الإصرار والترصّد عدم أخذ ذلك بعين الاعتبار لأسباب داخليّة تعتمد في أساسها أسلوب التضليل، وتحديدًا تضليل المؤيّدين والمقرّبين، ومحاولة تضليل المعارضين وإقناعهم أن لا ضرر ولا ضرار جرّاء الانقلاب الدستوريّ، وربما كان اختيار إيتمار بن غفير ممثّلًا للحكومة في احتفال الاتحاد الأوروبيّ يندرج ضمن محاولات التضليل وبمثابة محاولة أرادت الحكومة لها أن تمرّ بهدوء، أو ربما توقّعت ذلك، كي تستخدمها وسيلة أخرى للتضليل، وتأكيد موقفها أن الدول الأوروبيّة ليست قلقة من الانقلاب الدستوريّ، ولا من وجود إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش في الحكومة، وليس ذلك فقط، بل إنها تستقبلهما وتمنح بن غفير شرف الكلام ويستمع سفراؤها في إسرائيل اليه مانحين إياه صكّ الغفران ومانحين الانقلاب القضائيّ الدستوريّ الشرعيّة. وهو الحال في كلّ ما تفعله هذه الحكومة من خطوات في المجالات الاقتصاديّة وغيرها، والتي تعاني الإهمال الشديد والتدهور الخطير، وسط ستار من التضليل الحكوميّ الذي يجعل المؤيّدين والمنتقدين ووسائل الإعلام على حدّ سواء تنسى القضايا الرئيسيّة ومنها قضية العنف في البلاد عامّة والمجتمع العربيّ خاصّة، والذي طالت أسلحة العنف 73 من أبنائه وبناته وأطفاله، لكنّ السياسيين والحكومة والوزير المعني بالموضوع إيتمار بن غفير، يمارسون التضليل هنا بإشغال الرأي العام والإعلام بقضايا وتصريحات تهدف إلى تحقيق غاية واحدة فقط، وهي وقف سهام الانتقاد حول أداء الحكومة وتقصيرها في قضية الأمن الشخصيّ وتفشي ظاهرة العنف، وهي ظاهرة عامّة تستوجب العلاج الفوريّ، وتوفير الميزانيّات والخطط والبرامج، لأنها تطول المجتمع الإسرائيليّ برمّته، أي بشقيه اليهوديّ والعربيّ، وتهدّد أمن كلّ مواطن ومواطنة، حتى لو لم يكن على صلة مباشرة، أو صلة ما بعالم الإجرام والجنايات.
وهي لم تعد تتحمّل التجاهل والتغاضي عنها، كما فعلت الشرطة باعتراف ضباطها طيلة سنوات حيث اعتبروها ظاهرة تنحصر في المجتمع العربيّ بمعنى " عربٌ يقتلون عربًا"، وبالتالي لتدعهم الدولة يفعلون ذلك ما دام بينهم وداخلهم، وهو ليس الحال اليوم فاحتمالات أن يمسّ العنف كلَّا منا هنا كبيرة وقائمة، فهو يأكل الأخضر واليابس ولا يستثني أحدًا، كما أنه ولمزيد الأسف، لم يعد يثير قلق المسؤولين، أو يحركهم للقيام بعمل أو بفعل، فمقتل الوالدة براءة مصاروة وطفليها الرضيعين أمير وآدم من مدينة الطيبة في منطقة المثلث، كان من المفروض في دولة طبيعيّة وعاديّة وسليمة ومعافاة سياسيًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا ، كان من المفروض أن تهز أركانها، وأن تقضّ مضاجع المسؤولين فيها، لكنّ هذه الجريمة رغم بشاعتها لم تكد تشغل الإعلام لمدّة يوم واحد، ولم تشغل بال وزير الأمن القوميّ المشغول بمحاولة جرّ الحكومة إلى حرب مع قطاع غزة وغيرها، كما هو مشغول بالتضييق على الأسرى الأمنيّين الفلسطينيّين ومنعهم من الحصول على الماء الساخن والخبز الطازج، أو استخدام الهواتف ، كما لم تشغل بال رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي لم ينبس ببنت شفة، ولم يتألم لقتل والدة ورضيعيها. وهو نفسه الذي وعد سيّدة عربيّة من مدينة أم الفحم ( سهام أبو هيكل) منذ العام 2011 وخلال جلسة في البرلمان بإلقاء القبض سريعًا على قاتلي زوجها توفيق وابنيها أحمد ومحمود، دون أن يتم ذلك حتى اليوم. وهو الذي كان قبل أيام من قتل براءة ورضيعيها قد كبَّد نفسه عناء السفر إلى مدينة طبريا لتعزية عائلة يهودية هناك فقدت ابنها الشاب غرقًا جراء فيضان في منطقة النقب، وأنكى من ذلك فجريمة القتل هذه طواها النسيان سريعًا، لتحلّ محلّها جريمة قتل أخرى. وهكذا دواليك، وبالتالي لم تكن جرائم القتل والعنف سببًا كافيًا في إسرائيل كي يهدّد أحدهم بإغلاق مطار بن غوريون الدوليّ، أو إغلاق الشوارع أو تشويش الحياة في إسرائيل، ولم تكن حتى كافية لتكون عنوانًا على يافطة احتجاجيّة يرفعها المتظاهرون ضد الانقلاب القضائيّ، في تل أبيب أو غيرها ما يؤكّد أن سياسة التضليل هي من نصيب المسؤولين عن الاحتجاجات ضد الانقلاب القضائيّ والمبادرين إليه، بمعنى أنهم يمارسون التضليل الإعلاميّ والجماهيريّ أيضًا مدّعين أن هدفهم هو ضمان الديمقراطيّة وحريّة المواطنين والعدالة والحقوق المدنيّة والأمن الشخصيّ وحريّة التعبير وحريّة التأطر السياسيّ وصيانة استقلال القضاء. وذلك كلّه لجذب اهتمام وتأييد ومشاركة أنصارهم، لكنّ الحقيقة هي غير ذلك، فالأمن الشخصيّ الذي يريدونه هو لليهود فقط، أما الحقوق المدنيّة فللنساء والمثليّين دون العرب، بينما استقلال القضاء ونزاهته وإصلاحه كلّها أمور تتوقّف عند تحديد هوية وانتماء القضاة في محكمة العدل العليا وتحديدًا تتعلّق بمدى انتمائهم إلى واحد من أسباط وطوائف وانتماءات اليهود.
وبالتالي يدور الاحتجاج حول الانتماء الطائفيّ والسياسيّ للقضاة ضمن المجتمع اليهوديّ، ويدور الحديث عن زيادة تمثيل اليهود الشرقييّن ضمن المحكمة العليا، دون أيّ تطرّق للمواطنين العرب الذين يشكلون نحو 25% من مواطني إسرائيل، ويمثّلهم قاضٍ واحدٍ في المحكمة العليا يتعرّض للتحريض العنصريّ والمطالبة بتنحيته يوميًّا، ودون انقطاع من اليمين والمستوطنين وغيرهم. أما حريّة التعبير وحريّة وسائل الإعلام فتتوقّف عند ضمان استمرار عمل وسائل إعلام يهوديّة، ومنع الحكومة واليمين من السيطرة عليها أو إغلاقها، دون أي التفات إلى ما يتعرض إليه الإعلاميّون من العرب في إسرائيل لتقييدات واعتقالات واعتداءات وصلت حدّ إطلاق النار عليهم، وعلى منازلهم، بل اغتيال أحدهم في مدينة أم الفحم. أما العدالة الإنسانيّة وحقوق الإنسان فتتوقف عند حدود دولة إسرائيل، ولا تتجاوز الخط الأخضر، وبالتالي تطالب المظاهرات بحقوق الإنسان دون أيّ تطرّق إلى واحدة من أخطر وأقسى مظاهر المسّ بالحقوق الإنسانيّة الجماعيّة للشعب الفلسطينيّ وهي الاحتلال، الذي يعتبر المسّ الأطول زمانًا بحقوق الإنسان، والذي يحاول منظّمو الاحتجاجات " إخفاءه تحت السجادة" خوفًا من وصمهم بأنهم يساريّون مؤيّدون للعرب والفلسطينيّين، بمعنى أن الاحتجاجات يخيّم عليها التضليل الإعلاميّ والجماهيريّ وتحرّكاتها الانتقائيّة في المواضيع التي يتم تداولها وطرحها، فهي احتجاجات تتمّ ضمن الإجماع اليهوديّ وتحاول الاحتماء بظلّه، باعتبارها رد ّعلى خلاف بين يهود( يمين ومستوطنين متدينين)، ويهود( مركز ويسار كما يقولون)، متناسين أن لا حريّة مع الاحتلال ولا حريّة دون عدل اجتماعيّ، وهو ما قاله مارتن لوثر كينغ من أن السياسات التي تكرّس فوقيّة البيض، وتحرّم الأقليات والفقراء من أبسط حقوقهم هي بمثابة خطوة تقلب ظهر المجن للقيم الديمقراطيّة والإنسانيّة، وتفرّغ كافّة التعهدات بصون حقوق الإنسان وحقوقه وحريّته من مضمونها الفعليّ، وتجعلها شعارات يراد بها باطل وتضليل يتم استخدامه بذكاء ضدّ الأقليات، وسعيًا إلى قمعها وإقصائها.
"الحقّ في الحياة يسبق حقّ التعبير"
ما أريد قوله هنا يندرج ضمن أسئلة كثيرة هامّة، لا تعني أبدًا عدم المشاركة في الاحتجاجات، لكنها يجب أن يتم طرحها اليوم لهدفين: أوّلهما محاولة تقويم الأوضاع ووقف عمليّة التضليل. وثانيهما، وضع الخطط والبرامج لمواجهة حالة ما بعد الاحتجاجات. وبالتالي يجب طرح السؤال حول ما إذا نجاح الاحتجاجات ووقف تشريعات الانقلاب القضائيّ يعني مباشرة أو بشكل غير مباشر، تغيير التوجّهات والسياسات في المجال القضائيّ الدستوريّ وبضمنه عمليّة أو سياسة مواجهة العنف ومكافحته، ووضع حدّ لعمليّات القتل وجرائم القتل في المجتمع العربي او على الأقل تقليل عددها ووتيرتها، ام ان ما كان هو ما سيكون ، ما يعني عمليًا أن إسرائيل في هذا المجال (الحقوق المدنيّة والأمن الشخصيّ والعدالة القضائيّة) ليست دولة واحدة، بل دولتين، الأولى يشغلها شكل نظام الحكم وكونه ديمقراطيًّا أو دكتاتوريًّا ، أو دينييًّا متزمتًا سيمسّ بحقوق المثليّين والنساء والعرب، والثانية دولة يستجدي مواطنوها الأمن الشخصيّ ويريدون قبل كلّ شيء وربما أكثر من كلّ شيء أن يتم ضمان الأمن الشخصيّ، فالحقّ في الحياة يسبق حقّ التعبير والحريّة الصحافيّة والحزبيّة وحريّة واستقلال القضاء، وهو وفق سلم الاحتياجات الذي وضعه "ماسلو" الهمّ الأول من جهة وانعدامه هو الخطر الأكبر الذي يواجه المواطنين العرب في إسرائيل، الذين يمكن القول، أو الجزم أنهم في نظر كافة الحكومات في إسرائيل مواطنون من الدرجة الثالثة فما دونها. وإذا كانت الحكومات لا تكترث لحياتهم فلماذا عليها أن تكترث لمماتهم أو لقتلهم ولو بالجملة، ولماذا تكترث أو تجتهد لحلّ لغز جرائم القتل بينهم، وهي نسبة تصل 5% فقط مقابل نحو 30% في المجتمع اليهوديّ، وبالتالي فإن حال الاحتجاجات وموقفها من حقوق المواطنين العرب من جهة وإزالة الاحتلال عن الفلسطينيّين من جهة أخرى، هو نتاج من نتاجات التضليل، وبالأحرى نتاج لمواقف مسبقة ومتجذّرة تحكم تصرفات وأفكار الناس، وتستند بشكل أساسيّ إلى المواقف والآراء المسبقة سواء كان للباحثين وسواء كانوا في الأكاديميا، أو المحلّلين والإعلاميّين والسياسيّين في مجالات العمل المختلفة، والتي عادة ما يكون فيها الباحث أو المحلّل رهينة محكومة لمواقف وافتراضات مسبقة ومقولبة ، ليحدث التضليل قمته حين يصبح الباحث، أو السياسيّ أو الإعلاميّ رهينة لمواقفه المسبقة، وبالتالي يتم تجيير كلّ مواقفه بشكل غير أخلاقيّ لخدمة تحيّزاته، وإثبات مواقفه المسبقة. وبالتالي فإنه من الصعب، بل من المستحيل أن تؤدي الاحتجاجات حتى لو نجحت إلى تغيير حال المواطنين العرب وضمان مساواتهم، انطلاقًا من كون قادتها يؤكّدون صباح مساء أنهم يهتمون بأن تبقى إسرائيل دولة يهوديّة وصهيونيّة، وأن تبقى البيت القوميّ لليهود، ويؤكّدون أنهم لم يخدموا في الجيش على اختلاف وحداته وخاصّة المختارة منها، لإقامة الدولة وحماية أمنها كي تتحوّل إلى دكتاتوريّة، فإذا كان منطلقهم أمنيًّا وعسكريًّا يعتبر العرب بمعظمهم غير مخلصين للدولة والفلسطينيّين أعداءً أو إرهابيّين، فكيف له أن يهتمّ برفع شعارات تهمّهم، أو المطالبة بتوفير الحريّة والميزانيات لهم. فهو يعتبر تعيين قضاة متدينين ويمينيين الخطر الأول على حياته وحريّاته واستقراره الاقتصاديّ والتشغيليّ وإمكانيّات الربح الماديّ، وحقوقه كمثليّ، أو كمواطن لا يريد سلطة المحاكم الدينيّة، وبالتالي لا يمكنه قبول آخرين لا يشغلهم ما يشغله، وبالتالي يتم اقصاؤهم بحكم موقفه السياسيّ المسبق الذي يعتبر اليهود وهمومهم الأفضليّة الأولى. ويرفض إدخال أيّ أفضليّات إضافيّة، لأنها لا تهمّه إطلاقًا.
وهو ما يؤكّده كون الشأن السياسيّ وإنهاء الاحتلال قد ورد في برنامج انتخابيّ لحزب يهوديّ صهيونيّ واحد هو "ميرتس" لم يجتز نسبة الحسم في الانتخابات الأخيرة وبقي خارج البرلمان. ومن هنا نشاهد مئات الآلاف يتظاهرون في شوارع ومدن ومفترقات الطرق في إسرائيل ضد الانقلاب القضائيّ ( القاسم المشترك الأكبر هو اليهود) ويصرخون ضده، بينما لا نكاد نرى مظاهرة ضد العنف، أو مظاهرة تدعو إلى وضع حد للدماء المسفوكة في شوارع القرى والمدن العربيّة، وهو ما يؤكّد انعدام التضامن المدنيّ في أحسن الحالات وكون اسرائيل عمليًّا بمثابة كيانين، الأول لليهود يسوده القانون، ويتم فيه النضال من أجل العدالة وحقوق الإنسان، والثاني للعرب تسوده الفوضى والعنف والقتل والإجرام، وسط صمت حكوميّ خاصّة من الحكومة الحاليّة التي لا تكبد نفسها حتى محاولة مكافحة العنف، أو التظاهر بأنها تحاول ذلك، فهي حكومة تهتم بإيران وحزب الله في لبنان، وتوفّر لمكافحتهما ومواجهتهما أفضل الخبرات والعقول والميزانيّات، وتقيم لذلك أفضل العلاقات وأكبر التعاونات، كما اتّضح من المعلومات التي تم الكشف عنها مؤخرًا من أن إسرائيل كانت على تعاون استخباريّ متواصل مع المخابرات البريطانيّة، ووفّرت كلّ ما يلزم للحصول على كافّة المعلومات والمعطيات اللازمة لها في هذا الشأن عبر ميزانيّات غير محدودة، واستخدام قدرات ومؤهّلات تكنولوجيّة للحصول على كافّة المعلومات والوصول إلى ما تريد، معلوماتيًّا وجسديًّا، في المنشآت النوويّة الإيرانيّة، كما اتّضح من المعلومات حول إعدام إيران ، علي رضا أكبري، نائب وزير الدفاع الأسبق، بتهمة التجسّس لصالح بريطانيا التي يحمل جنسيّتها، وهو أول إعدام لمسؤول إيرانيّ رفيع المستوى يحمل جنسيّة دولة أجنبيّة، حيث اعتادت طهران مبادلته بسجناء إيرانيّين في دول أوروبيّة أو أمريكا، علمًا أن أكبري البالغ من العمر 61 عامًا كان قد اعتقل في إيران عام 2019، وتم الكشف عن حكم إعدامه الأسبوع الماضي، وهو قائد بارز سابق في “الحرس الثوريّ” ، وخدم في مناصب عليا في مجال الدفاع والأمن القوميّ والنوويّ، لما يقرب من 30 سنة، حيث اتّضح أن المخابرات البريطانيّة دفعت لأكبري مبالغ طائلة على مدى سنوات مقابل تلقيها معلومات قيّمة منه تتعلّق بمنشآت إيران النووية وخاصّة منشأة "فوردو" حيث يتم تخصيب اليورانيوم إلى درجة 90% اليوم، وأن إسرائيل بذلت كافّة الجهود وربما أيضًا الأموال، وخلقت أواصر التعاون المتواصل مع كلّ جهة ممكنة لمحاربة النوويّ الإيرانيّ، ومحاولة مواجهته وإقناع العالم كلّه بمحاربته، حتى بلغ الأمر كما جاء في الإعلام حدّ وصول مسؤول استخبارات بريطانيّ رفيع المستوى إسرائيل عام 2008 وأبلغ نظراءه في اسرائيل أن لدى بريطانيا جاسوسًا في إيران يمكنه الوصول إلى معلومات عالية المستوى تتعلّق بالأسرار النوويّة والدفاعيّة لإيران، حيث كانت المعلومات الاستخباراتيّة عن منشأة "فوردو" التي قدّمها أكبري واحدة من المعلومات التي كشف عنها مسؤول المخابرات البريطانيّ لنظرائه الإسرائيليّين، ما يعني أن إسرائيل لو أرادت فعلًا مكافحة العنف المستشري في البلاد عامّة والمجتمع العربيّ خاصّة لوفرّت لذلك ما يلزم من مال وعتاد وقوّات وخبرات وتعاونات وعلاقات، ولكانت قلبت الأرض رأسًا على عقب كما فعلت في ثمانينيّات القرن الماضي حين قرّرت مكافحة عصابات الإجرام في المجتمع اليهوديّ، واستطاعت ذلك بجهود مكثّفة شملت الشرطة وسلطات الضرائب والإنتربول والمخابرات وغيرها وغيرها، حتى انتهى الأمر إلى هرب هذه الجماعات من المدن والبلدات اليهوديّة إلى البلدات والمدن العربيّة التي تحوّلت إلى ساحة حرب وقتل يمكن للدولة وهي صاحبة السيادة والمسؤولة الأولى والأخيرة ، إعادة الهدوء والأمن إليها، لو أرادت وقررت فهي تستطيع. ولكن، يبدو أنها لا تريد، فهي، كما يبدو، لا تعتبره شرًّا أو أمرًا خطيرًا، لأنّه يحدث في ساحتها الخلفيّة، أي بين مواطنين لا تعتبرهم كاملي الحقوق خاصّة بعد قانون القوميّة الذي نزع شرعيّتهم، وفي ظلّ حكومة لا تعتبرهم أصحاب حقوق مدنيّة، وتحاول شرعنة إقصائهم من الحياة السياسيّة والبرلمانيّة والاقتصاديّة، إلا إذا أثبتوا أنهم" صهاينة أكثر من تيودور هرتسل"، قائد الحركة الصهيونيّة، رغم أنها تمارس التضليل مدّعيَة أنها تريد لهم الحياة الكريمة والأمن والصحة والتطوّر، وطبعًا الديمقراطيّة والحريّة. وهو تضليل ما بعده تضليل. لكنّه يخدم جيدًا الأهداف القوميّة، بل القومجيّة التي تريدها الحكومة اليمينيّة المتطرّفة.
" شرعنة عمل رغم سوئه"
ما قلته سابقًا يذكرني بما قاله الباحث والاقتصاديّ النمساويّ "لودفيج فون ميزس" حول أسباب شرعنة عمل رغم سوئه، وتحديدًا القبول به في موقع ما ومكان ما دون غيره، فهو يقول إن هذا التضليل يكتسب شرعيّته عبر التحرّر من الاعتبارات الأخلاقيّة، أي الكفّ عن وزن الأمور والقضايا بمنظار أخلاقيّ وقيَمِي، والانتقال إلى مرحلة وحالة يتم الحكم على عمل ما أو فعل ما وفق نتيجته، وبتعبير "لودفيج فون ميزس" فإن "تسمية عمل ما بأنه خير أو سوء (يمكن تحمله أو لا يمكن) يتعلّق بنتيجة وعواقب هذا العمل، فالحكم عليه يتم وفقًا لما يتمخّض عنه ، وما دام ما يفضي إليه سيئا لكنّه بعيد عني (عن الحكومة والأغلبيّة اليهوديّة)، فهو ليس بدرجة من السوء تلزمها بمكافحته، وربما لا ترى الحكومة الحاليّة عامّة ووزير أمنها الداخليّ خاصّة إيتمار بن غفير، أن التغاضي عن مكافحة العنف ووقف شلال الدم في المجتمع العربيّ هو عمل سلبيّ وسيء، بل ربما تعتبره يخدم مصالحها السياسيّة والحزبيّة وحتى القوميّة، قريبة المدى وبعيدة المدى منها على حدّ سواء. وخلاصة القول أن الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة خاصّة والحكومات التي سبقتها عامّة، على اختلاف انتماء رؤسائها سياسيًّا وعقائديًّا وأيديولوجيًّا، كانت أبعد ما يكون عن المنطق والحكمة في تعاملها مع قضايا المجتمع العربيّ عامّة وقضية العنف خاصّة، حتى لو اعتبرتهم خصومًا غير مرغوب فيهم، أو مواطنين من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة " بقوا هنا ليس لأنها أرضهم، بل لأن مؤسّسي دولة إسرائيل وخاصّة دافيد بن غوريون لم يكمل مهمّته وهي طردهم من بلادهم" كما قال وزير الماليّة اليميني بتسلئيل سموتريتش من على منصّة البرلمان، فالحكمة كان يجب أن تجعلها تترك للمواطنين العرب داخل إسرائيل، حتى لو اعتبرتهم خصمًا طريقًا يخرجون منها حافظين احترامهم وكرامتهم وحياتهم، بدل أن تقصيهم وتميِّز ضدّهم وتجرحهم فيعتبرونها شريكًا في المسّ بأمنهم واستقرارهم خلافًا لما يمليه عليها واجبها ودورها باعتبارها صاحبة السلطة، وكم بالحري في أوقات الشدّة حيث تتّضح الحقيقة، كما قال رجل الأعمال وورن بافيت:"عندما ينحسر المدّ تنكشف حقيقة من يسبح عاريًا".
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]