المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت وقناة هلا
تزامنا عفويّا وغير مقصود إلا أنّ هذا التزامن له دلالاته مع اختلافها وربّما تناقضها ، وعلى ضوء مجريات الأحداث مؤخّرًا في البلدين وخاصّة تلك المتعلّقة بتشريعات وخطوات حكوميّة رسميّة وتشريعات برلمانيّة، يقودها في تركيّا حزب العدالة والتنمية في محاولة لضمان بقاء رئيسه رجب طيب أردوغان على سدّة الحكم، وهو الذي استلم منصب رئيس الوزراء منذ آذار 2003 أي قبل عشرين عامًا ونيّف ورئاسة الجمهوريّة منذ آب 2014، ويقودها في إسرائيل ائتلاف بنيامين نتنياهو الذي يتربّع على مدار 20 عامًا متواصلة على سدّة الحكم ( كانت بدايته الأولى عام1996)، وذلك في محاولة لإبقائه على سدّة الحكم رئيسًا للوزراء وربّما رئيسًا للدولة بعدها كما يقول البعض، بعيدًا عن حكم القضاء في لوائح الاتهام المقدّمة ضدّه، عبر تغيير تامّ بل هدم لجهاز القضاء كما أكّدت مجريات مظاهرة المستوطنين واليمين الأسبوع الماضي والتي شملت في مجرياتها كلمات أكّد أصحابها وفي مقدّمتهم وزير القضاء ياريف ليفين، الهدف الحقيقيّ من خطّة الانقلاب القضائيّ وملخّصه تمكين الحكومة من اختيار القضاء على مقاسها ووفق أجنداتها والتحكّم نهائيًّا بجهاز القضاة والمستشارين القضائيّين في الوزارات المختلفة وغيرها، واختيار محافظ البنك المركزيّ، بنك إسرائيل وفق أهوائهم أي تجيير القطاع العامّ والحكوميّ لخدمة السلطة والسلطان، ودوس استقلال القضاء تمامًا كما داس المشاركون صور قضاة محكمة العدل العليا، حتى قال بعض المعلّقين أنّ البداية هي دوس صورهم ودوس قيم الديمقراطية والمعسكر الليبراليّ في إسرائيل، أمّا النهاية فهي تعليقهم على المشانق في الساحات العامّة، وهو هدف يريد ليفين وائتلافه منه خلق حالة تنتقل فيها إسرائيل من دولة ديمقراطيّة وإن كانت محدودة ومنقوصة خاصّة لأقليّاتها، إلى دولة دكتاتوريّة يحكمها رجل واحد وحزب واحد وفكر واحد وحكومة بدأت منذ اليوم بخطوات تذكّر بتلك التي تشهدها دول دكتاتوريّة ومنها كوريا الشماليّة، وخاصّة تمويل مظاهرات مؤيّدة لها وتوفير حافلات لنقل المتظاهرين المؤيّدين إلى ساحات التظاهر وضمان تصفيقهم وتأييدهم، ومن ثمّ توجيه الشكر لهم على موقفهم الداعم للحكومة، مقابل 18 أسبوعًا من الاحتجاجات الرافضة لخطّة الانقلاب القضائيّ الهادفة إلى إضعاف القضاء ، يؤكّد المشاركون فيها أنّ مظاهرة اليمين وما جاء فيها من هجوم على جهاز القضاء من وزير القضاء المسؤول عن الدفاع عن هذا الجهاز، يعني أنّ إسرائيل أصبحت قريبة من أن تتحوّل إلى دولة تقف على شفا هاوية الدكتاتوريّة، وسيطرة اليمين المتديّن والحركات والأحزاب الدينيّة التي تريد دولة شريعة، بعد سنوات كانت فيها ديمقراطيّة تتمتّع المحاكم ووسائل الإعلام فيها بالحرّيّة ويملك البنك المركزيّ فيها(بنك إسرائيل) استقلالًا في إعلان خطوات وسياسات اقتصاديّة، وبالمقابل تشهد تركيّا احتجاجات ونشاطات معارضة تحاول تغيير الحال وإعادة تركيّا إلى سكّة ومصافّ الدول الديمقراطيّة والعلمانيّة حتى لو كانت شكليّة، بعد عقدين من حكم أردوغان وحزبه كرئيس للوزراء ورئيس للدولة، نقلها فيهما إلى مصافّ الدول التي يحكمها نظام إسلاميّ متديّن ، يعتبر تركيّا دولة إسلامية كما تؤكد بعض خطواته ذلك منها قراره تحويل كنيسة أيا صوفيا الى مسجد بعد 85 عامًا كانت فيها متحفًا، دولة تقع تحت سلطة رجل واحد يعين الوزراء ومحافظ البنك المركزيّ ويحوّله إلى موظّف عاديّ لا يملك أيّة سلطة.
هذا التزامن يستوجب التوقّف عنده، خاصّة إزاء التشابه الغريب وغير المسبوق بين الطروحات الانتخابيّة التي رفعها "حزب العدالة والتنمية" في حملته الانتخابيّة التي انتهت إلى تنصيب أردوغان رئيسًا عام 1994، وتلك التي رفعتها مجتمعة كتل اليمين والليكود في مقدّمتها خلال الانتخابات الأخيرة والتي انتهت إلى حصولها على 64 مقعدًا في البرلمان ، وهي في إسرائيل ضمان الأمن ودحر إيران واستعادة الاستقرار السياسيّ وتحسين الأوضاع الاقتصاديّة، وفي تركيا ضمان الاستقرار السياسيّ والأمنيّ وتحسين الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهي قضايا سرعان ما اتّضح أنّها غطاء للوصول إلى السلطة والتمسّك بها، كما اتّضح للمواطن التركيّ أنّ أردوغان والذي استطاع أن يرفع معدّل دخل الفرد في تركيّا من 4250 دولارًا للفرد عام 2004 إلى 9690 دولارًا عام 2014، لكن هذا سرعان ما انخفض اليوم الى 7340 دولارًا، ولينخفض سعر الليرة التركيّة حتّى كاد يصل حدّ الانهيار، ولتضطرّ البلاد إلى الاقتراض من دول أخرى، بينما يواصل أردوغان سياساته التي تتمحور حول تعزيز التوجّهات الدينيّة المحافظة على حساب تلك العلمانيّة التي كانت في صلب فكر مصطفى كمال أتاتورك، والسيطرة على مؤسّسات الدولة وعمليًّا بسط سلطة الرجل الواحد والحاكم الأوحد ومحاولة استعادة فرض هيبة تركيّا التاريخيّة خاصّة مع اقتراب انتهاء مفعول اتفاقيّات المصالحة التي وقّعتها الإمبراطورية العثمانيّة مع هزيمتها في ختام الحرب العالميّة الأولى وتحديدًا عام 1923، واستعادة نفوذها الإقليميّ كدولة إسلاميّة من جهة والانضمام إلى حلف الأطلسيّ من جهة أخرى رغم ما شاب ذلك من مشاكل وعقبات، ليجد المواطن التركيّ نفسه اليوم مضطرًا لمواجهة أوضاع اقتصاديّة صعبة للغاية بل خطيرة أحد أسبابها ملايين اللاجئين السورييّن في بلاده، وصدامات وعقوبات ولو بسيطة على تركيّا، مقابل استقرار أمنيّ بعد اتفاقيّات تعاون بين تركيّا وطهران وروسيا ودول عربيّة منها السعوديّة مؤخّرًا، أي أنّ المواطن التركيّ وجد نفسه مضطرًّا للتنازل عن حقّه في حياة اقتصاديّة جيّدة ودخل سنويّ يضمن العيش الكريم علمًا أنّ نسبة التضخّم الماليّ بلغت مستويات غير مسبوقة وصلت 85% العام الماضي وما زال المصرف المركزيّ يرفض رفع الفائدة المصرفيّة " لأسباب دينيّة" كما يدّعي، بينما تهرب رؤوس الأموال وتتوقّف الاستثمارات والتنازل عن حقوق تتعلّق بحرّيّة التعبير والصحافة وحتّى الحرّيّة السياسيّة مقابل هذا الاستقرار الأمنيّ وأحد تجليّاته تنوع وازدهار الصناعات العسكريّة، وكلّ ذلك بثمن قبول هيمنة فكر محافظ وحتى متزمّت دينيًّا، وهو ما حدث في إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة حيث دخلت الشعارات الانتخابية حول إيران والأمن والفلسطينيّين والاقتصاد والأمن الشخصيّ، مكانها لمحاولات تشريعيّة برلمانيّة وحكوميّة خلاصتها بسط حكم الرجل الواحد وإخضاع الجهاز القضائيّ والسيطرة على المحاكم ووسائل الاعلام وتقييد حقّ التظاهر والاحتجاج وبسط الشريعة اليهوديّة وإعفاء اليهود المتزمتّين الحريديم من الخدمة العسكريّة، والمسّ بالقطاعات الاقتصاديّة والصدام إقليميًّا مع الدول العربيّة وعالميًّا مع أوروبا والولايات المتّحدة وفوق كلّ ذلك ارتفاع كبير ومتواصل في تكاليف غلاء المعيشة وأسعار السلع الأساسيّة وارتفاع أسعار الشقق وزيادة التضخّم الماليّ، وكل ذلك مقابل ضمان "نجاة" نتنياهو القائد الواحد من حرّيّة الإجراءات القضائيّة والفوز في معركة إخضاع القضاء وبسط سيطرة التوجّهات الدينيّة والقوميّة المتطرّفة والتي تجعل إسرائيل بعيدة كلّ البعد عن مصافّ الدول الديمقراطيّة والعلمانيّة وتلك التي تحترم حقوق الإنسان وحقوق الأقلّيّات الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة وأصحاب الميول المختلفة جنسيًّا وفكريًّا وغيره، أي أنّ العامل المشترك في كلا الحالتين هو أنّ الناخبين انتخبوا قائدًا وحزبًا انطلاقًا من أجندات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة تصبّ في مصلحة المواطن وتعزيز أمنه الاقتصاديّ والتعليمّي والاجتماعّي، لتتحوّل هذه الأجندات بعد فوز الحزب أو القائد في الانتخابات إلى أجندات تخدم القائد وزمرة قريبة منه، والثمن غلاء متواصل وأعباء مادّيّة وارتفاع الدين الخارجيّ وتراجع الاستثمارات وهروب الأدمغة ورؤوس الأموال، هذا إضافة إلى بطاقة "العمل السليم" وعدم التبذير ونقاء اليدين والتي رفعتها حكومة نتنياهو الحاليّة بمركّباتها الخمسة ضدّ حكومة لبيد- بينيت والتي دعمتها قائمة عربيّة للمرّة الأولى منذ قيام دولة إسرائيل، بعد الانتخابات، أنّ ما تريده الحكومة وما تصبو إليه عكس ذلك تمامًا وهو إمكانيّة تعيين من تريد وفي أيّ منصب تريد دون حسيب أو رقيب، وهو ما فعله أردوغان الذي رفع قبل اختياره رئيسًا لبلديّة إسطنبول شعار مكافحة المحسوبيّات والفساد ليتحوّل الحال بعد ذلك إلى عكسه وليتمّ تعيين المسؤولين وفق القربى والمحسوبيّة والنسب والعلاقة العائليّة والأسريّة، دون أن يكون لديهم الحدّ الأدنى من القدرة والمؤهّلات للقيام بمهامّهم وهو ما اتّضح بعد الزلزال المدمّر الذي أصاب تركيّا في شهر شباط و تسبّب في مقتل قرابة 50 ألف مواطن وبعد أن دمّر 11 مدينة وتسبّب بخسائر ماليّة بلغت 80 مليار دولار، ربما لن تجد الحكومة التركيّة مصادر تمويل عالميّة لها خاصّة على شكل قروض من البنك الدوليّ والدول المختلفة، يضاف إلى ذلك عجز الحكومة عن الردّ السريع على الزلزال على صعيد أعمال الإغاثة وعمليّات الإنقاذ، وهو ما تنوي المعارضة استثماره في الحملة الانتخابيّة للدلالة على تقصير الحكومة من جهة ووضع الضوء على قضيّة الفساد التي تبيّنت في عدد من المشاريع السكنيّة التي انهارت كلّها بعد الهزّة الأرضيّة جرّاء الفساد والبناء خلافًا للمعايير القانونيّة وهو يشبه كثيرًا الحال في إسرائيل، فالأحزاب التي واصلت منذ اللحظة الأولى حتّى الأخيرة في عهد الحكومة السابقة واتّهامها بالتقصير، تحكم اليوم وسط مواصلة ارتفاع الأسعار ووقف مشاريع البنى التحتيّة وحديث عن انهيار محتمل لعشرات آلاف المنازل جراء هزة أرضيّة محتملة ومقتل عشرات الآلاف ، وانهيار للأوضاع الماليّة في ظلّ وزير ماليّة بوظيفة جزئيّة يعتمد الأوامر الألهيّة والمنطلقات الدينيّة حلًّا غيبيًّا للأزمات الماليّة وعلاجًا للتحذيرات الاقتصاديّة العالميّة من مؤسّسات وشركات التصنيف والائتمان حول تأثيرات الانقلاب القضائيّ، على الاستقرار المصرفيّ والاقتصاديّ والماليّ لدولة إسرائيل ومؤسّساتها المصرفيّة وبالتالي مواطنيها كأفراد وشركات وغيرهم.
"هويّة الزعيمين في الدولتين"
ولا تتوقّف أوجه الشبه بين الحالتين هنا، بل إنّها كثيرة وتطال هويّة الزعيمين في الدولتين بنيامين نتنياهو ورجب طيب أردوغان، فالانتخابات الحاليّة في تركيّا أو ما يمكن اعتباره استفتاءً حول سياسة الرئيس الحاليّ، هي استفتاء حول سياسة رئيس اعتبره كثيرون واحدًا من أهمّ القادة الأتراك في القرن العشرين، وأوّل من حوّلها من دولة فقيرة وعاديّة إلى جنّة على الأرض، وقبلة للسيّاح والمستثمرين من كافّة دول العالم، ودولة صناعيّة ومنتجة للموادّ الغذائيّة، إلى جانب نهضة عمرانيّة وعلميّة وأكاديميّة ورياضيّة، وقد ينهي أردوغان حياته السياسيّة مهزومًا، بعد أن هدم بسبب توجّهاته الدينيّة ودوافعه الشخصيّة وتعزيزه المحسوبيّات وتعيينات غير مبرّرة وصدامات غير مبرّرة مع الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها، في حالة مشابهة لحالة بنيامين نتنياهو والذي يعتبره كثيرون ، وبعضهم يعارضون مواقفه وسياساته، واحدًا من كبار رؤساء الوزراء، وأطولهم فترة رئاسة للحكومة، لسنوات ازدهرت فيها التقنيات العالية والمتقدّمة في إسرائيل والصناعات العسكريّة وغيرها ، لكنّه قد ينهي حياته السياسيّة سجينًا بعد إدانته بتهم جنائيّة خطيرة، وبعد أن انقلب على القضاء وحوَّل إسرائيل إلى دولة الرجل الواحد، بل إلى دولة شريعة تتألّف من قبائل وطوائف، وألحق عبر انقلاب قضائيّ أضرارًا غير مسبوقة باقتصاد البلاد وصناعاتها المتقدّمة وسمعة شركاتها المصرفيّة والماليّة والأكاديميّة وغيرها. ومع ذلك، فهناك تشابه بسيط بين الحالتين فخسارة أردوغان حملته الانتخابيّة الحاليّة، وبالتالي خسارته رئاسة الجمهوريّة التركيّة هي في نظر معارضيه (الذين رصّوا صفوفهم بتجمّع يشمل 6 أحزاب تحت ما سمي "الطاولة السداسيّة"، ومن ثم تسمية "تحالف الأمّة" بقيادة كليجدار أوغلو) ضوء في نهاية النفق ونتيجة معناها إنقاذ تركيا العلمانيّة والديمقراطيّة ومنعها من التحوّل إلى دولة شريعة إسلاميّة سنيّة، أو بكلمات أخرى فإن خسارة أردوغان تعني تغيير اتجاه تركيا وإعادتها إلى مصاف الدول المتقدّمة والعلمانيّة والديمقراطيّة، وهو الحال مع رغبة نتنياهو في تنفيذ الانقلاب القضائيّ، ففشله في ذلك وخسارته المعركة لأسباب متعدّدة، هي بالنسبة لمعارضيه ولمعارضته البرلمانيّة(خمسة أحزاب) ضوء في آخر النفق يعني إبقاء إسرائيل دولة ديمقراطيّة، ومنعها من التحوّل إلى دولة دكتاتوريّة ودينيّة أو دولة شريعة.
"أسئلة حول كيفيّة بناء الدولة الحديثة"
حالة تركيا وإسرائيل الحاليّة تثير من جديد أسئلة حول كيفيّة بناء الدولة الحديثة، ومن ثم كيفيّة المحافظة عليها وضمان استقرارها وازدهارها، والإجابة على ذلك تنقسم إلى قسمين أولهما أن قيام دولة أو كيان سياسيّ يجب أن لا يعتمد أسلوب بناء نظام سياسيّ يستجيب لمتطلّبات المواطنين، ويحترم رغباتهم وقراراتهم ولا يجعلهم مطية وضحيّة لنزوات قائد كهذا أو ذاك، وأن لا ينتظر لإقامة المؤسّسات الاقتصاديّة والأكاديميّة حتى إقامة الدولة سياسيًّا، بل التحضير لذلك وإقامة مؤسسات قبل ذلك من جهة، وضمان استقلاليّة هذه المؤسّسات بعد قيام الكيان، وعدم تحويلها إلى خادمة للسلطة والسلطان، سواء كانت مصرفيّة أو اقتصاديّة أو أكاديميّة كما حدث في تركيا وبعض الدول العربيّة التي أقيمت ككيانات سياسيّة دون مقوّمات اقتصاديّة واجتماعيّة وصناعيّة ممّا يبقيها عرضة للهزّات والأزمات ورهينة لدول ثريّة تحاول استغلال المال وسيلة للسيطرة، بل أحيانًا وسيلة لتغيير السلطة وبسط السيطرة عبر محسوبيّات سياسيّة إقليميّة والأمثلة كثيرة، وأقول هذا وخاصّة ما يتعلّق بإقامة المؤسّسات الاقتصاديّة والأكاديميّة والزراعيّة والصناعيّة، على ضوء التحضيرات لإحياء الذكرى المئة لتأسيس المؤسّسة الأكاديميّة الأفضل في إسرائيل، معهد الهندسة التطبيقيّة في مدينة حيفا ( التخنيون) عام 1924، أي ربع قرن قبل إقامة دولة إسرائيل، وكذلك تأسيس الجامعة العبريّة في القدس قبل 98 عامًا (1.4.1925)، وبناء تعاونات بين القطاع الصناعيّ والجامعات والأكاديميا، وبناء شركات اقتصاديّة وشركات للمواصلات العامّة دون انتظار القرار السياسيّ المحليّ أو الإقليميّ، أو العالميّ بإقامة الكيان السياسيّ أو الدولة، وهنا لا بدّ من التطرّق إلى أن ما سبق، وما أشرت إليه حول بناء مؤسّستين أكاديميتين يهوديّتين في فلسطين قبل عقود من إقامة كيان يهوديّ، إنما أردت من خلاله الإشارة إلى أن بناء المجتمعات ومأسستها هي ثقافة قد تكون غريبة عن المواطنين العرب داخل إسرائيل، وليس هم فقط، بل ربما عن الشرق العربيّ إلا من رحم ربّي، وإلا كيف يمكن أن نفسّر حالة يشكّل فيها العرب أكثر من ربع الطلاب الجامعيّين الأكاديميّين في الجامعات الإسرائيليّة المختلفة ونسبة لا بأس بها من المحاضرين والباحثين فيها، ورغم ذلك فإنهم لا ينجحون في تذويت القيم الأساسيّة التي أقيمت وفقها المؤسّسات الأكاديميّة التي يدرسون فيها، أو يعملون وبالتالي فإنهم عاجزون، وربما لا يريدون ولا يهمّهم، إحداث تغيير بنيويّ فكريّ يقود إلى مأسسة مجتمعهم وبلدانه وتحسين وضعها وتنجيع مسيرة التطوير والصناعة والتعليم والاقتصاد، ويبدو أن هذا بحاجة إلى دراسة معمقة وطويلة ستكون نتائجها واستنتاجاتها مؤلمة دون شك.
"العلامة الفارقة"
ما قلته سابقًا حول إسرائيل والاحتجاجات ضد الانقلاب القضائيّ وتأثيراته الهدّامة على الاقتصاد، أو ما اتفق على تسميته " احتجاج شركات الهايتك" وتحذير المقرّبين من نتنياهو من أن الاقتصاد أو العامل الاقتصادي هو ما يحرّك المواطنين في مختلف دول العالم اليوم، وما يحدّد في كثير من الأحيان خطوات الحكومات باعتبار الشركات الاقتصاديّة والمؤسّسات المصرفيّة صاحبة تأثير على جيب وغلاء معيشة كلّ فرد من أفراد المجتمع، وإمكانية أن تكون العلامة الفارقة التي تشير إلى نتنياهو بضرورة إبطاء وتيرة الانقلاب، أو التنازل عن بعض أجزائه، منعًا لغلاء وتضخّم ماليّ وانخفاض رواتب وبطالة ودين خارجيّ متراكم، وشعور لدى جيل الشباب أن آفاق المستقبل مسدودة أمامه، وبالتالي يكون خيار الهجرة إلى أمريكا وأوروبا ربما أحد الحلول خاصّة بحثًا عن حياة ديمقراطيّة في دولة علمانيّة، ينطبق على تركيا أيضًا فالجيل الشاب وبسبب الضائقة الاقتصاديّة والتضخّم الماليّ والبطالة وانعدام فرص العمل خاصّة مع وجود اللاجئين السورييّن، هو موضوع أساسيّ وعامل حاسم فيها تختلف، فمعظم مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي في تركيا تتفق على انحياز غالبيتهم إلى الأحزاب المعارضة عوضًا عن التحالف الحاكم، فئة الشباب ستدخل الانتخابات بخيبة أمل يرافقها استياء وغضبٌ شديد، فالشباب التركيّ يعتقد أن النظام الحاليّ لا يسمح له بالتعبير عن مطالب هو يأخذها على محمل الجدّ، ولهذا يحلم الشباب بشكلٍ كبير في قيام نظامٍ ديمقراطيّ في البلاد. وهو كما يبدو الحال أيضًا في الولايات المتحدة التي أعلن فيها جو بايدن عن خوضه انتخابات الرئاسة للعام 2024، استنادًا إلى معطيات تجعل الوضع الاقتصاديّ خاصّة ما يتعلّق بجيل الشباب يصبّ في مصلحته عبر نسبة بطالة منخفضة وأماكن عمل تم توفيرها في كافّة الولايات رغم تضخّم ماليّ ما زال مرتفعًا. وهي أمور تصبّ في مصلحة بايدن وتجعله ربما الأفضل من بين المرشّحين الديمقراطيّين لمواجهة دونالد ترامب والفوز عليه مرة أخرى، علمًا أن الإحصائيّات التاريخيّة تشير إلى أن 26 رئيسًا ديمقراطيًّا خاضوا الانتخابات لولاية ثانية، وأن 22 منهم فازوا، وهي استطلاعات تشكّل فأل خير للديمقراطيّين لكنّها تبقى مجرد استطلاعات ومعطيات تاريخيّة قد تتغيّر على أرض الواقع خاصّة في بلاد العم سام.
على كلّ حال، في تركيا ينتظرون نتائج الانتخابات سواء بفوز أردوغان، أو خسارته والسؤال هل سيراجع في كلتا الحالتين حساباته وربما يعترف بخطئه، أو أخطائه فيصحّحها أو يدركها على الأقل، أي هل سيصحو ضميره السياسيّ والإنسانيّ، أم سيواصل سياساته مدعيًا رضاه التام عن توجّهاته وأعماله ونتائجها. وفي إسرائيل ينتظر الجميع ما ستؤول إليه خطوات الانقلاب القضائيّ، فهل سيراجع نتنياهو مواقفه على ضوء التأثيرات الداخليّة والخارجيّة، أي هل سيصحو ضميره السياسيّ والشخصيّ أو سيواصل الانقلاب متذرّعًا بأنه المحقّ والصادق والراضي عن نفسه، رغم إدراكه الأخطار مضحّيًا بالمصالح العامّة من أجل المصلحة الخاصة، مدّعيًا أنه مرتاح الضمير.. أقول هذا ويحضرني قول الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، من روّاد نظريّة المعرفة وما وراء الطبيعة، أن الضمير هو حالة وهميّة وشيء تخيّليّ ينبع داخل الذات، وملمّ بكافّة معرفتنا الداخليّة ويراقب الوضع الخارجيّ ليستمدّ منه القوّة، وبالتالي فهو متفاوت، وهو كما قال كانط سجن صنعه الإنسان بحضارته، فالضمير النادم مرض خطير والضمير المرتاح دائمًا ( وهو ضمير السياسيّين دائمًا) هو تعبير عن معاناة من مشكلة أخلاقيّة كما قال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور القائل:" إن مرتاح الضمير دائمًا يعاني من مشكلة أخلاقيّة من حيث لا يدري، لأن الشعور بالرضى الدائم عن النفس وضع غير طبيعيّ".
كما ويظهر بأن من يتربّع في السلطة يتجاهل بأنّ أخطاءنا أحيانًا هي أعظم خسائرنا.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]