logo

الأرشمندريت إغناطيوس ديك: رسالةٌ وفِكرٌ في مؤلَّفات

د. جوزيف إلياس كحَّالة - باريس يكتب:
19-04-2023 08:20:42 اخر تحديث: 20-04-2023 07:45:12

قُدِّر لمدينة حلب أن تكون شاهدة التاريخ على عَظَمة الفكر والأدب. في وصفها تبارى الشعراء من أيّام الحمدانيّين إلى أيّامنا هذه. وعنها كتب المؤرِّخون


الأرشمندريت إغناطيوس ديك - الصورة من الكاتب

 آلاف الصفحات. وبها تغنّى المنشدون بأجمل الأغاني والقدود.
ليست مدينة حلب كغيرها من المدن. إنّها واحدة من أقدم مدن العالَم. لا تزال الحياة تنبض في كلّ ركن من أركانها. لقد عرفت الخراب والزلازل، والحروب والدمار في تاريخها الطويل. لكنّها كلّ مرّة كانت تنهض من حافة الموت، لتستأنف دورة الحياة على ترابها، ولتبقى عروساً لأبنائها، بقلعتها الشامخة وحجارتها البيضاء وصروحها البديعة الخالدة.
فلا عجبَ إذاً، إذا ما قصد حلب كبار شعراء الغرب ومفكِّروه، إمّا للعيش فيها، أو لاكتساب العلوم. لأنّها ميدان فسيح للتيّارات الفكريَّة والفنّيَّة والروحيَّة، ومركز إشعاع واسع الطيف، ودائرة أدبيَّة وعِلميَّة متكاملة. إنّ كلّ زاوية من زواياها شهدت - ولا تزال تشهد - كلّ يوم ولادة إنسان عظيم. كيف لا وهي مدينة عظيمة، لا تلد إلاّ العظماء.
في هذه المدينة وُلد واحد من أئمّة مؤرِّخي الكنيسة المَلَكيَّة. إنّه الأرشمندريت إغناطيوس ديك. وما من أحد في عالَم الفكر والتأريخ الدينيّ يجهل إغناطيوس ديك. فقد ملأت شهرته المجامع والمحافل العِلميَّة شرقاً وغرباً.

التعريف به
هو باسيل ديك، المولود في 15 كانون الثاني من العام 1926. والده يوسُف رزق الله ديك، المعروف بتقواه وخدماته الكنسيَّة. أمّا والدته فهي أنجو باسيل قهواتي. وكان باسيل سابع ولد لوالديه وآخِرهم. عمّده، بعد شهر من ولادته، الخوري يوحنّا فتّال(2)، وذلك في 14 شباط 1926.
أُدخل باسيل ديك إلى مدرسة الآباء الفرنسيسكان في حيّ الرام، التي كانت تقع بالقرب من المنزل الوالديّ. فتعلّم فيها مبادئ القراءة والكتابة. ثمّ انتقل بعد ذلك إلى مدرسة القدِّيس إغناطيوس للسريان الكاثوليك، ومنها انتقل إلى مدرسة القدِّيس نيقولاوس للروم الكاثوليك، التي مكث فيها حتّى العام 1937، إلى أن انتقل في شهر أيلول إلى إكليريكيَّة القدِّيسة حنّة في مدينة القُدْس(3)، فدرس فيها علوم الفلسفة واللاهوت على الآباء البيض. وفي العام 1946، رُقّي إلى درجة الشمّاس القارئ. ثمّ في 20 تمّوز 1947، رُقّي إلى درجة الشمّاس الرسائليّ.
اندلعت الحرب العربيَّة الإسرائيليَّة (ما سيعرَف بالنَّكبة) في شهر أيّار من العام 1948، فاضطرّ رؤساء الدير إلى التعجيل في تقديم الامتحانات والرسامات بسبب إصابة الدير بعدد من القذائف التي خرقت جدرانه. وفي هذه الأثناء رُقّي باسيل ديك إلى رتبة الشمّاس الإنجيليّ في حزيران 1948، عن يد المطران بولس سلمان(4). وبعد الرسامة الشمّاسيَّة غادر باسيل ديك مدينة القُدْس برفقة صديقه الشمّاس جوزيف فحمة(5)، عائدَين إلى مدينة حلب. ومن مدينة حلب انطلق مجدّداً إلى بلدة رياق بلبنان، حيث تابع السنة الدراسيَّة الأخيرة في الإكليريكيَّة الصُّغرى. وفي 29 حزيران 1949، رُقّي إلى درجة الكهنوت، عن يد البطريرك مكسيمُس الرابع صائغ (6)، وأصبح اسمه الأب إغناطيوس.

العمل في حقل الكهنوت
بعد ترقيته إلى درجة الكهنوت، عاد الأب إغناطيوس إلى مسقط رأسه. وفور عودته، عيّنه المطران إيسيدورُس فتّال(7) مدرِّساً في مدرسة القدِّيس نيقولاوس الأسقفيَّة. فعمل في منصبه هذا مدّة عام دراسيّ. كما عمل في الحقل الرعويّ، متنقّلاً بين رعيَّة جبل السيّدة، وإدارة الميتم، بالإضافة إلى مدرسة القدِّيس ديمتريوس للبنات. وفي العام 1951، تأسّست المحكمة الروحيَّة المشترَكة لدى الطوائف المسيحيَّة في مدينة حلب، فعُيّن فيها الأب إغناطيوس مسجِّلاً. لكنّه سرعان ما انتقل بعد عامين إلى بلدة رياق - لبنان، حيث عُيّن مدرِّساً في إكليريكيَّة القدِّيسة حنّة. فعمل بجانب الآباء البيض مدّة أربعة أعوام، انتقل بعدها العامَ 1957 إلى مدينة لوفان Louvain - ببِلجيكا حيث تابع فيها مدّة عامين دراساته في الفلسفة واللاهوت. عاد إلى مدينة حلب في العامَ 1959، وعُيّن خوري رعيَّة لمنطقة "التليفون الهوائيّ". فخدمها بهمّة ونشاط مدّة عام. وفي العامَ 1960، قصد مجدّداً بلجيكا، ليدافع عن أطروحة الدكتوراه التي أعدّها بعنوان "ثاوذورُس أبو قرّة أسقف حرّان المَلَكيّ، 750م-825م".

العودة إلى الشرق
عاد الأب إغناطيوس في العامَ 1960 ليستقرَّ بمدينة حلب ويخدم رعيَّتَها. لكنْ، شاءت الظروف أن طُلب منه أن يقوم بمهمّة التدريس في إكليريكيَّة القدِّيسة حنّة في مدينة القُدْس. فانتقل إليها في العام 1962. ثمّ غادرها في صيف العام 1963 ليعود نهائيّاً إلى أبرشيّته، التي شغل فيها المناصب العديدة، من خوري رعيَّة، إلى خوري مسؤول عن كنيسة ورعيَّة القدِّيس جاورجيوس في حيّ السليمانيَّة بمدينة حلب. وفي العام 1964، كان في عداد الوفد المرافق للبطريرك مكسيمُس الرابع صائغ، في الزيارة التاريخيَّة إلى بطريرك القسطنطينيَّة أثيناغوراس(8). وعُيِّن، في العامَ 1965، مرشِداً للجنة الخيريَّة.
وتوجّه الأب إغناطيوس ديك العامَ 1966 إلى فنزويلاّ، حيث مكث مدّة أربعة أشهر. وزار الجالية الحلبيَّة المقيمة في فنزويلاّ برفقة المطران أثناسيوس توتونجي(9)، فجمعا التبرّعات لمشروع بناء كنيسة القدِّيس جاورجيوس في مدينة حلب. وفي العام 1969، أوكل إليه المطران ناوفيطُس إدلبي(10) مهمّة الإشراف على "نشرة الأحد"، التي تصدر كلّ يوم أحد. كما تسلّم في العامَ 1981، إدارة النشرة الطائفيَّة. وفي شهر نيسان من العام نَفْسه رقَّاه المطران ناوفيطُس إدلبي إلى رتبة أرشمندريت. وأخيراً، تمَّ تعيينه في العام 1986 نائبًا أسقفيّاً عامّاً معاوناً للأكسرخُس بطرس جحا(11)، النائب الأسقفيّ العامّ في أبرشيَّة حلب. ولمّا تُوفّي الأكسرخُس جحا، تمَّ تثبيت الأب إغناطيوس ديك في منصبه نائباً أسقفيّاً أصيلاً. وفي العام 1995، حين تسلّم المطران يوحنَّا جنبرت(12) مهامَّه في أبرشيَّة مدينة حلب، ثبَّت الأب إغناطيوس ديك نائباً أسقفيّاً. وقد شغل هذا المنصب حتّى وفاته، رغم أنّه كان يُؤثر التنحّي عنه. وقد طلب ذلك مراراً من أسقفه، إلاّ أنّ طلبه ما كان ليُلبّى.
احتفل الأب إغناطيوس ديك في العام 1999، بيوبيله الكهنوتيّ الذهبيّ، في كاتدرائيَّة الروم الكاثوليك في مدينة حلب. حضر الاحتفال راعي الأبرشيَّة ولفيف الكهنـة. كما حضره عدد من رؤساء الطوائف الأُخرى في المدينة. وقد أُلقيت الكلمات المعبِّرة. وإذ تغيّب السفير البابويّ بدمشق، بعث بكلمة لطيفة، أُلقيت في هذه المناسبة(13).
وعيَّن الكرسيّ الرسوليّ في العام 2002 الأب إغناطيوس ديك مستشاراً في المجلس الحَبْريّ لتعزيز الوحدة بين المسيحيّين في الفاتيكان. وقد شغل هذا المنصب حتّى وفاته في 4 تشرين الثاني 2013.

فكره ومؤلَّفاته
تملّك سحرُ الكتابة الأبَ إغناطيوس ديك منذ أن كان طالباً على مقاعد الدراسة. فقد كان ميّالاً إلى البحث والتنقيب في بطون كُتُب التاريخ. وتميّز بذكائه الحادّ، وغزارة عِلمه وسعة اطّلاعه، ودقّة ملاحظاته. كما أنّه كان شديد التمسّك برأيه. أمّا أسلوبه فهو السهل الممتنع، القريب إلى فكر القارئ أيّاً كانت درجة ثقافته. ونلاحظ أنّ منهجيّته في الكتابة تطوّرت مع الزمن. ففي مؤلَّفاته الأُولى كان يدرج كمّاً هائلاً من المعلومات، ونادراً ما كان يذكر في الحواشي مصادر معلوماته. وإن هو عدّل نهجه في مؤلَّفاته الأخيرة، فإنَّه يبقى واحداً من أهمّ مؤرّخي الكنيسة الأنطاكيَّة والمسيحيَّة الشرقيَّة خلال القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. كما أنّه يُعدّ واحداً من أكبر العارفين العرب المسيحيّين في الحِوار المسكونيّ.
إنّ شغف الأب إغناطيوس ديك، بالمعرفة والعلوم، دفعه إلى الالتحاق بجامعة لوفان - بلجيكا، لمتابعة دراساته، التي توّجها - كما ذكرنا - بأطروحة الدكتوراه حول "ثاوذورُس أبو قرّة أسقف حرّان المَلَكيّ، 750م-825م". موضوع الأطروحة من التراث العربيّ المسيحيّ. وقد جاء بمقدّمة عامّة، مع إدراجه نصّ المخطوط وقيامه بتحليله. نشر الموضوع تباعاً في مجلّة الشرق الأدنى المسيحيّ. ثمّ نشر زبدته في العام 1982، في كتاب ضمن سلسلة التراث العربيّ المسيحيّ "ميمر في وجود الخالق والدين القويم، لثاوذورُس أبي قرّة"(14) ويحمل الرقم 3. ثمّ ألحقه العامَ 1986، بكتاب آخَر للمؤلِّف عينه، "ثاوذورُس أبي قرّة"(15)، في سلسلة التراث المسيحيّ، يحمل الرقم 10، تحت عنوان "ميمر في إكرام الأيقونات". والكتاب لا يعني المختصّين في اللاهوت وحسب، وإنّما أيضاً المعنيّين بالفكر الإسلاميّ جميعهم، ذلك لأنّه يسلّط الأضواء على مواقف المسلمين، في مطلع العصر العبّاسيّ من رسم الصُوَر وإكرامها.
في العام 1999، نشر في مدينة حلب - سورية، كتاب "مجادلة أبي قرّة مع المتكلّمين المسلمين في مجلس الخليفة المأمون"(16). يُعدّ هذا المؤلَّف في غاية الأهمّيَّة، فهو يخدم الحِوار الإسلاميّ المسيحيّ. وقد حقّقه الأب إغناطيوس ديك بعد أن راجع ستّ مخطوطات، لكنّه اعتمد على واحدة منها، هي مخطوطة باريس. وللكتاب أهمّيّته من الناحية العِلميَّة. فهو يلقي الضوء على لغة لاهوتيَّة عربيَّة، برع فيها المسيحيّون منذ القديم. وهذا دليل آخَر على أنّ العرب المسيحيّين كانوا على معرفة كاملة بقواعد اللغة العربيَّة وأسرارها. أُعيد طبع الكتاب مرّة ثانية بمدينة حلب – سورية في العامَ 2007.
وله كتاب "تاريخ الكنيسة الشرقيَّة وأهمّ أحداث الكنيسة الغربيَّة"(17) الذي صدر في الأصل عامَ 1957، من تأليف الأب ميشيل يتيم(18) بعنوان "تاريخ الكنيسة الشرقيَّة". لكنّ الأب إغناطيوس ديك أعاد النظر في الكتاب وزاد عليه بعضاً من المعلومات. ثمّ أصدره، بالتعاون مع الأب يتيم، في طبعة ثانية صدرت في مدينة حلب - سورية، العامَ 1963. ثمّ أُعيد نشر الكتاب في طبعة ثالثة منقّحة صدرت في جونية - لبنان، العامَ 1991. والكتاب يبحث في تاريخ الكنائس المسيحيَّة، من عصر السيّد المسيح، حتّى المجمع الفاتيكانيّ الثاني، والحركة المسكونيَّة المعاصرة.
ومن كتبه "بحث شامل في القرار المجمعيّ عن الطوائف الشرقيَّة". وهو كتاب كان بدأ بكتابته المطران ناوفيطُس إدلبيّ، إلاّ أنّه لمّا تسلّم زمام أبرشيَّة حلب للروم الكاثوليك، سأل الأب إغناطيوس أن يتابع العمل. يتضمّن الكتاب تفسيرات لكامل القرارات المجمعيَّة المتعلّقة بالكنائس الشرقيَّة. وقد صدر العامَ 1970، ضمن سلسلة يشرف عليها الأب كونغار الدومينيكاني(19).
وأيضًا كتاب "الشرق المسيحيّ" الذي جاء أوّلاً في هيئة محاضرة، كان ألقاها الأب ديك العامَ 1958، في بلجيكا، حول العلاقة بين الكنيستين الكاثوليكيَّة والأرثوذكسيَّة وموقع الروم الكاثوليك. ثمّ نُشرت في هيئة مقالة في مجلّة اليسوعيّين في لوفان. وفي العام 1965، قُبيل اختتام أعمال المجمع الفاتيكانيّ الثاني، صدر الكتاب باللغة الفرنسيَّة، بعنوان "ما هو الشرق المسيحيّ؟". ثمّ تُرجم في العامَ 1967 إلى اللغة الإنكليزيَّة. وأخيراً صدر في بيروت - لبنان، عامَ 1975 باللغة العربيَّة مع عدد من الإضافات، بعنوان "الشرق المسيحيّ".

وللأب ديك سلسلة من المحاضرات والمداخلات أجراها في عدد من المؤتمرات الدوليَّة. وقد نشرها في ثلاث مجموعات:
1- "مغزى وتعثّرات الأونياتيَّة" أو حركة الاتّحاد مع رومة، نُشر في مدينة جونية - لبنان، عامَ 1982.
2- "على دروب الوحدة المسيحيَّة"، نُشر في مدينة دمشق - سورية، عامَ 1985.
3- "مسيحيّون في سورية"، نُشر في مدينة حلب - سورية، عامَ 1999.

وله أيضًا كتاب "الله حياتنا". جاءت فكرة الكتاب أوّلاً من دروس لاهوتيَّة عن الله، كان ألقاها عامَ 1979 بطلب من المطران ناوفيطُس إدلبي على راهبات يسوع الصغيرات في مدينة روما بإيطاليا. وقد امتدّت ما يقارب الشهرين. وعند عودته إلى الشرق، قام بترجمة هذه الدروس إلى اللغة العربيَّة، ثمّ نشرها عامَ 1983 في لبنان ضمن كتاب أُعيد طبعه مرّة ثانية في مدينة جونية بلبنان عامَ 1990. يبحث الكتاب بطريقة فلسفيَّة في الإلحاد المعاصر ووجود الله. وهو موجَّه إلى كلّ إنسان يرفض هذا الوجود. وفي المتن نظرة شاملة إلى موضوع لا يزال يُطرح من قديم الزمان حتّى يومنا هذا.
والكتابُ ثلاثةُ أقسام: القسم الأوّل، يبحث في الإلحاد المعاصر ووجود الله. القسم الثاني، يبحث في كشف العهد القديم الإله المتعالي القُدُّوس. 
ويختم الأب ديك كتابه بالقول: "إنّ البحث في الله هو البحث في الحقيقة الإنسانيَّة بحثاً أعمق ممّا لو كنّا نستهدفها مباشرة. ليس من إجابة على التقلّبات التي أحدثها الإلحاد في العالَم أفضل من حضور سرّ الله الهادئ والمشعّ في بَساطة حياة بَشَريَّة حوّلها الروح".
وهي دراسة تاريخيَّة ظهرت في ثلاث دفعات في المجلّة البطريركيَّة.وقام المطران حبيب باشا(20) بنقلها إلى اللغة العربيَّة، ثمّ نشرها في لبنان عامَ 1986، في كتاب خاصّ سمّاه "الروم المَلَكيّون الكاثوليك، الهُوِيَّة والرسالة".

وللأب ديك كتاب "المَلَكيُّون" الذي صدر أوّلاً باللغة الفرنسيَّة عامَ 1994، في بلجيكا، من ضمن سلسلة "أبناء ابراهيم". ثمّ نقله إلى اللغة العربيَّة مع عدد من التعديلات. ثمّ صدر في مدينة حلب عامَ 1998، بعنوان "المَلَكيُّون - عقيدة وتراث". وقبل ذلك كان الأب إغناطيوس قد أصدر عامَ 1997، في مدينة حلب، كتاباً سمّاه "المَلَكيّون - العقيدة والموقف المسكونيّ"(21). ويحدّد في الكتاب معنى كلمة المَلَكيِّين، وأنّها تدلّ إلى رعايا البطريركيّات الثلاث، الأنطاكيَّة، والإسكندريَّة، والأورشليميَّة، الذين تغذّوا من التراث الشرقيّ الأصيل، أي من تقليد الآباء اليونان والسريان. والأهمّ أنّهم قبلوا قرارات المجمع الخلقيدونيّ، بالإضافة إلى المجامع الستّة الباقية. وأنّهم حافظوا على علاقة وثيقة مع كنيسة روما، وبطريركيَّة القسطنطينيَّة، في وحدة الإيمان والتقليد الكنسيّ. كما يبحث في الكتاب موقف المَلَكيّين المسكونيّ، سواء في إطار البطريركيَّة الأنطاكيَّة بوجه عامّ، أو بطريركيَّة الروم المَلَكيّين الكاثوليك، أو بطريركيَّة الروم الأرثوذكس.
وله كتاب "لجنتنا الخيريَّة وأخبار حلب خلال مئة عام"، صدر في مدينة حلب - سورية، عامَ 1999؛ وكتاب "إكليرُس الروم الكاثوليك في حلب خلال القرن المنصرم"(22)، وجمع فيه أسماء أكثر من سبعين كاهناً حلبيّاً. فروى لنا مقتطفات من قصص حيواتهم وأعمالهم. ويُعدّ الكتاب مرجعاً مهمّاً لمَن يريد دراسة تلك الحقبة من تاريخ كنيسة الروم المَلَكيّين الكاثوليك في مدينة حلب. ويأتي متمّماً لكتاب "أساقفة الروم المَلَكيّين بحلب في العصر الحديث"، الذي كان وضعه المطران ناوفيطُس إدلبيّ العامَ 1983. والكتاب صدر في مدينة حلب - سورية، العامَ 2000(23).
وله أيضًا كتاب "الحضور المسيحيّ في حلب خلال الألفين المنصرمين"(24)، وهو في جزأين:
الجزء الأوّل يبحث في تاريخ نشأة المسيحيَّة إلى الفتح العثمانيّ. حيث يعرض فيه لمحة إلى مدينة حلب عبر التاريخ. ثمّ يعرض تاريخ مدينة حلب من الملحظ المسيحيّ. ثمّ يقدّم للقارئ سرداً عن نشأة المسيحيَّة وتطوّرها في مدينة حلب. وحياة الكنيسة الجامعة. والكنائس المسيحيَّة الشرقيَّة وتطوّراتها الخاصّة. وكيف كانت جهات مدينة حلب مركزاً للإشعاع المسيحيّ في العصور الأُولى للمسيحيَّة. والقسم الثاني من الكتاب يبدأ من الفتح العربيّ حتّى الفتح العثمانيّ. ويعرض فيه أوضاع المسيحيّين العامّة في الدولة العربيَّة الجديدة، ودَورهم في دواوين الدولة، بالإضافة إلى دَور العلماء والأطبّاء. وكيف كان التعايش بين المسلمين والمسيحيّين. ثمّ ينتقل إلى الحياة الكنسيَّة، والطوائف المسيحيَّة في المدينة. وقد صدر في مدينة حلب العامَ 2002.
أمّا الجزء الثاني، فيحوي مجلّدين. الأوّل يشمل حقبة العهد العثمانيّ الأوّل. ويُقسَم إلى قسمين:
1- الجماعة المسيحيَّة الواحدة. ويبحث فيه وضع المسيحيّين المحلّيّين في المدينة والدولة. والمرسَلين الغربيّين. والحياة الفكريَّة والتمسّك بالتراث المسيحيّ الشرقيّ. مع ذِكر لأهمّ العلماء المسيحيّين في هذه الحقبة. ثمّ الاتّصال بالتراث المسيحيّ الغربيّ، مع ذِكر لأهمّ علماء هذه الحقبة أيضاً.
2- وفي القسم الثاني يقدّم لنا الأب إغناطيوس ديك لوحة فسيفسائيَّة كاملة عن الطوائف المسيحيَّة في مدينة حلب. وقد صدر هذا المجلّد في مدينة حلب عامَ 2003.
ويبحث المجلّد الثاني في الحقبة المعاصرة من فتوحات إبراهيم باشا والإصلاحات العثمانيَّة إلى مطلع الألفيَّة الثالثة. وقد قسمه إلى قسمين أيضًا؛ درس في الأوّل دَور الجماعات المسيحيَّة في مدينة حلب. وفي الثاني الطوائف الموجودة تاريخيّاً في المدينة ثمّ دخول الطوائف الأُخرى إليها وانصهارها في المجتمع المسيحيّ العامّ. وقد صدر في مدينة حلب عامَ 2004.

وللأب ديك كتاب "البطريركيّة المسكونيّة وتطوّر الأرثوذكسيّة والمسيحيّة الشرقيّة في العصر الحديث من انتهاء الحكم البيزنطي (1453)"(25). والكتاب صغير بحجمه، لكنّه غنيّ بمعلوماته الوافرة. إذ يتطرق فيه المؤلِّفُ إلى كثير من الأمور المهمّة التي تراوح بين التاريخ والعقيدة والمجتمع؛ ويقدّم في قسمه الأوّل أهمّ مراحل تاريخ بطريركيَّة القسطنطينيَّة، منذ أن فتح العثمانيّون مدينة القسطنطينيَّة عاصمة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، حتّى يومنا هذا. ويُظهر كيف كان التاريخ مضطرباً خاضعاً للظروف السياسيَّة القاهرة، رغم ذلك حاول بطاركة القسطنطينيَّة العبور بكنيستهم وشعبهم إلى شاطئ الأمان. ثمّ يقدّم لنا عرضاً عن المحاولات الكثيرة التي قامت لإعادة اللُحمة بين بطريركيَّة القسطنطينيَّة وكنيسة روما. وفي القسم الثاني من الكتاب يتطرّق إلى موقف كنيسة القسطنطينيَّة من العلاقات الأرثوذكسيَّة. ويقدّم للقارئ، واقع الحياة المسيحيَّة والمقوّمات اليوميَّة في هذه الكنائس. وفي القسم الأخير من الكتاب يعالج موضوع العلاقات بين الشرق الأرثوذكسيّ، والعالَم المسيحيّ الغربيّ. ثمّ يختم الكتاب بخصوصيَّة المَلَكيّين ودَورهم المسكونيّ. وقد صدر الكتاب في مدينة حلب بسورية عامَ 2005.

أمَّا كتاب "المسيحيَّة في سورية تاريخ وإشعاع"(26) للأب ديك فيقع في ثلاثة مجلّدات. يبحث المجلّد الأوّل في العصر القديم. القرون الأُولى من نشأة المسيحيَّة حتّى صدور مرسوم ميلانو العامَ 313، الذي صدر في ظلّ الدولة الرومانيَّة الوثنيَّة. ثمّ من تاريخ صدور هذا المرسوم، إلى الفتح العربيّ العامَ 634. وصدر المجلَّدُ في مدينة حلب بسورية عامَ 2007.

أمّا المجلّد الثاني، فيبحث في العصر الوسيط، من الفتح العربيّ إلى الفتح العثمانيّ. ويتناول فيه موقف الإسلام من المسيحيَّة، والفتوحات الإسلاميَّة، وتطوّر أوضاع المسيحيّين مع العهود المتتالية، والوزراء والكتّاب النصارى السوريّين في الدولة الإسلاميَّة، وأوضاع المسيحيّين القانونيَّة في الدولة الإسلاميَّة وفي ظلّ الشرع الإسلاميّ، ودَور المسيحيّين السوريّين في المجتمع العربيّ الإسلاميّ، والعلماء النصارى في الإسلام، ولقاء المسيحيَّة والإسلام، وانعكاس الفتح العربيّ على المسيحيَّة السوريَّة. كما يتناول الكتاب الحياة الكنسيَّة، وحياة المسيحيّين الخاصّة في ظلّ الإسلام. إنّ معرفة هذه الحقبة من تاريخ المسيحيَّة السوريَّة، مهمّة لتفهّم ما آلت إليه الأوضاع في حقبتنا المعاصرة. وقد صدر المجلَّدُ في مدينة حلب بسورية عامَ 2008.

أخيراً، المجلّد الثالث، وهو يبحث في العصر الحديث، من الفتح العثمانيّ إلى مطلع الألفيَّة الثالثة. ويُقسَم هذا الجزء إلى قسمين: الأوّل يبحث في دَور المسيحيّين في قلب المجتمع الحديث، من الذمّيَّة إلى المواطنيَّة، بدءاً من العهد العثمانيّ، وصولاً إلى عهد الدولة الحديثة، سواء في الحياة العامّة، أو دَورهم الفاعِل في بوادر النهضة الفكريَّة. أمّا في القسم الثاني، فيبحث في الحياة الكنسيَّة، وعلاقة الطوائف المسيحيَّة بعضها ببعض. وكان صدر في مدينة حلب بسورية عامَ 2009.

" سيرة البطريرك خريسطوفورُس الأنطاكيّ صديق سيف الدولة "
ومن كتبه كذلك كتاب "سيرة البطريرك خريسطوفورُس الأنطاكيّ صديق سيف الدولة". ويقدّم لنا المؤلِّف في قسمه الأوّل عرضاً شاملاً لتاريخ المسيحيّين في العهود القديمة. ثمّ يعرّفنا بإبراهيم بن يوحنّا الأنطاكيّ، مؤلِّف سيرة حياة البطريرك خريسطوفورُس الأنطاكيّ. ومن ثمّ ينتقل إلى سيرة البطريرك، ونشأته، وانتخابه بطريركاً، وحِكمته في الإدارة، ومساعدته النصارى على دفع الخراج. كما يعرض لنا أمانة البطريرك للأمير سيف الدولة(27) في أثناء عصيان أنطاكية. وكيف تمَّ تدبير محاولة اغتيال البطريرك. وقد استخرج الكتاب بالعودة إلى المخطوطات، وأصدره في مدينة حلب بسورية عامَ 1999.

وأيضًا كتاب "قصّة استشهاد مار أنطونيوس روح الدمشقيّ نسيب هارون الرشيد"(28). ويتطرّق المؤلِّف فيه إلى الشهادات القديمة حول القدِّيس مار أنطونيوس روح الدمشقيّ، سواء في كتب سِيَر القدِّيسين، أو لدى المؤرِّخين. كما يقدّم لنا عرضاً تاريخيّاً حول دراسات المستشرقين، والطبعات الأُولى للسيرة. وفي القسم الثاني من الكتاب يقدّم لنا نصّ السيرة، وقد استخرجها بالعودة إلى المخطوطات. والكتاب صدر في مدينة حلب بسورية عامَ 1999.
وكتاب "العلاقات المسيحيَّة الإسلاميَّة في سورية عبر التاريخ"(29). ويبيّن الأب إغناطيوس ديك فيه كيف أنّ العلاقات الإسلاميَّة المسيحيَّة تطوّرت مع مختلف العهود التي تعاقبت على البلاد. وكيف كانت في حقبة الحكّام الذين هم من أصل عربيّ أكثر إيجابيَّة وتصدّعت مع السلاجقة والنفوذ العثمانيّ. والكتاب يتناول ثلاث حقب من الزمن: الحقبة الأُولى، حقبة الدولة الإسلاميَّة؛ الحقبة الثانية، حقبة الإمبراطوريَّة العثمانيَّة؛ أمّا الحقبة الثالثة، فهي حقبة دولة سورية الحديثة. ويختم كتابه بعرضه لعدد من شروط التعايش الحقيقيّ والحِوار المسيحيّ الإسلاميّ الذي يحترم حرّيَّة المعتقد والضمير ويتيح للجميع أن يعيشوا بكرامة وأمان في وطنهم متمتّعين بجميع الحقوق، مقدِّمين واجباتهم كاملة تجاه الوطن الذي هو وطنهم، وينعمون بخيراته، ويعملون لأجل استقراره ورقيّه. والكتاب صدر بمدينة حلب عامَ 2011.
وكذلك كتاب "العلاقات المسيحيَّة المسيحيَّة في سورية عبر التاريخ - دراسات مسكونيَّة". ويُقسَم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: يتناول القسم الأوّل المعضلة المسكونيَّة في الإطار الأنطاكيّ؛ أمّا القسم الثاني، فيتناول العلاقات بين الشرق والغرب، نظراً إلى أنّ شريحة كبيرة من الأنطاكيّين أُقحمت في الخصومة التي قامت بين بطريركيَّة القسطنطينيَّة وبابا روما؛ ويتناول القسم الثالث المسيرة نحو الوحدة.

وتكمن أهمّيَّة الكتاب في أنّه يلقي الضوء على جذور الانقسامات بين المسيحيّين، وكيف يمكن التغلّب عليها. ويحاول الأب إغناطيوس ديك أن يبرز الجامع المشترَك الذي يمكن أن يجتمع عليه المسيحيّون، وذلك بالرجوع إلى تاريخ التطوّر اللاهوتيّ والعلاقات الكنسيَّة بموضوعيَّة وواقعيَّة، لا سيّما حول النقطتين الحسّاستين اللتين أُثير الجدل حولهما. وهما تحديد سرّ الاتّحاد في المسيح، ودَور أسقف رومة المركزيّ. والكتاب صدر في مدينة حلب بسورية عامَ 2011.
أمَّا كتاب "الإيمان المسيحيّ دستور الحياة" فموجَزٌ في التعليم المسيحيّ، سهلُ المنال، متأصّل في تراثنا الشرقيّ، كما أنّه منفتح على المفاهيم العصريَّة ومتطلّبات الإنسان المعاصر. فالإيمان يعطي الجواب عن تساؤلات الإنسان حول الوجود، والموت وما بعد الموت. إنّه يوجّه حياة الإنسان ويعطيها معنىً ومغزىً. وهو يجيب عن السؤال: بماذا نؤمن؟ وما تأثير الإيمان على حياتنا؟ والكتاب شرح دقيق وواضح لجوهر الإيمان المسيحيّ، الذي هو ليس مجرّد عقائد وفكر، بل إنّه اختبار لحضور الله في حياة الإنسان. هذا الاختبار يقود الإنسان إلى اكتشاف معنى حياته ووجوده، وبذلك يدرك غاية الله في خلقه الإنسان. صدر الكتاب في مدينة حلب بسورية عامَ 2012 لمناسبة سنة الإيمان 2012-2013.

هذا، ولم يكتفِ الأب إغناطيوس ديك بوضع هذا الكمّ الهائل من المؤلَّفات، بل كان يدبِّج المقالات والأبحاث الهامّة لعدد من المجلاّت والنشرات. فكتب في النشرة الرعائيَّة للروم الكاثوليك بحلب، ونشرة الأرمن الكاثوليك بحلب أيضًا، ومجلّة المسرّة بلبنان، والنشرة الرعائيَّة بصافيتا، ومجلّة المنارة بلبنان، ومجلّة الوحدة في الإيمان بلبنان أيضًا... إلى غيرها من المجلاّت.