ابن مدينة طيّبة بني صعب البارّ. كانت هذه الدّعوات من جهات مختلفة: من الاتّحاد العامّ للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل 48، كذلك من بعض الزّملاء والزّميلات أعضاء الاتّحاد الّذين على ما يبدو تسلّموا دعواتهم قبلي، وقد تسلّمت دعوة شخصيّة أخرى من الأستاذ أحمد عازم محرّر مجلّة المرايا الخاصّة بأدب الأطفال الّتي تصدرها كلّيّة بيت بيرل، وكنت قد تشرّفت بالنّشر فيها لجودتها ولتقنيّتها العالية إصدارًا ومُحتوى. وعلى الرّغم من أنّي قد عزمت على المشاركة في هذا الحفل تقديرًا لصاحب التّكريم الأستاذ عبد الرّحيم، وتقديرًا لجهود لجنة الإبداع في بلديّة الطّيّبة الموقّرة، وتقديرًا لجهود الاتّحاد العامّ للكتّاب؛ فقد حالت ظروف خاصّة دون نيّتي الصّادقة في المشاركة.
هذا ما حصل، وقد تابعت عبر المواقع الألكترونيّة الحدث بشغف واهتمامٍ كبيرين. وبناءً على ما كتب في مواقع التّواصل، فقد كان احتفالا مهيبا يليق بشخص الأديب الجليل المحتفى به، كما يليق بالجهود الّتي بذلت لا سيّما من قبل بلديّة الطّيّبة الموقّرة الّتي عرف عنها الاهتمام بالأدب والأدباء والنّشر والثّقافة، ليس فقط في نطاق حدود البلديّة إنّما امتدّ هذا الاهتمام إلى خارج حدود البلديّة ووصل إلى كفرياسيف عند تكريم بلديّة الطّيّبة للأستاذ بطرس دلّة في بلدته كفرياسيف بتاريخ 20.11.21، كما أنّ البلديّة قد ساهمت في جزءٍ (أو كلّ) تكاليف أعماله الأدبيّة. هذا الأمر ليس مفهومًا ضمنًا في ظلّ الضّائقة الاقتصاديّة العامّة الّتي تعاني منها المجالس والبلديّات في الوسط العربيّ، وفي ظلّ تفاقم أزمة النّشر والتّوزيع للكتاب الورقيّ الّذي تراجع الإقبال عليه بسبب التّكنولوجيا ووسائل التّواصل الاجتماعي
الّتي تعرض الكتب والموادّ المقروءة لتصبح متناولة بكبسة زرّ، ناهيك عن ظاهرة التّسطيح الثّقافيّ الّتي يكتفي الكثيرون بقراءة العناوين، أو المنشورات القليلة ومتابعة الصّور الّتي أضحت وسيلة للتّباهي والمشاوفة (شوفوني يا ناس) بين النّاس، بغضّ النّظر عن أنّها قضت على الخصوصيّة الفرديّة والأسريّة .
فعاليّة أدبيّة ثقافيّة كهذه يليق بها أن تسجّل لصالح بلديّة الطّيّبة كمشروع ثقافيّ بامتياز؛ ممّا يدلّ على حجم الانتماء والمسؤوليّة الثّقافيّة الّتي توليها هذه البلديّة لدور الكتاب والثّقافة في نهضة المواطن وتوعيته وسعيها نحو تقليص الفجوات الموجودة بين الوسطين العربيّ والعبريّ ومحاربة الفراغ والفساد والعنف والجريمة والقائمة
تطول؛ وهنا يحضرني قول المتنبّي:
"إنّما التّهنئاتُ للأكفاءِ ولِمَن يدّني من البُعَداءِ" ولست هنا في صدد تعداد أعمال لجنة الإبداع في بلديّة الطّيّبة الّتي بات أحد طقوسها تكريم المبدعين من الأدباء، الأحياء منهم والأموات، وسبق أن ذكرت تكريم الأستاذ بطرس دلّة خارج حدودها الجغرافيّة، فقد كرّمت الشّاعر المرحوم محمّد نجم ناشف، ومؤخّرًا أقامت أمسية تكريميّة للمؤرّخ المرحوم صدقي إدريس بإصدار كتابه الموسوم (الطّيّبة بنت كنعان).
" بيئة حاضنة للابداع الثقافي "
وقبل الحديث عن سيرة الأديب عبد الرّحيم الشّيخ يوسف الّذي كرّمته بلديّة الطّيّبة بتاريخ 20.1.23 بحضور كوكبة كبيرة من الأدباء والشّعراء والأديبات والشّاعرات من أقصى الشّمال والجليلين والمثلّث والسّاحل ومن مختلف بقاع بلادنا، لا بدّ من التّعريج ولو بعجالةٍ على المناقب العامّة الّتي تميّزت بها مدينة الطّيّبة عبر التّاريخ، فهي تشكّل بيئة حاضنة للإبداع الثّقافيّ الّذي أبرز وأفرز كوكبة من المبدعين الحقيقيّين من أبناء الطّيّبة في مجالات كثيرة، وعلى ما يبدو فللمكان دور كبير في صقل المواهب المبدعة؛ كيف لا وللطّيّبة من اسمها ومن عرف طيبها المعطار نصيب كبير. هذا ما يحيل إلى الحديث عن الطّيّبة الّتي هي إحدى أربع بلدات يحملن ذات التّسمية (الطّيّبة). ثمّة طيّبة بيسان الّتي تعرف بالطّيّبة الزّعبيّة، وطيّبة رام الله، وطيّبة جنين، ومسك ختام الطّيّبات طيّبة بني صعب الّتي كانت تدعى قبل اتّفاقيّة رودس بطيّبة طولكرم سنة 1949، ونعرفها اليوم بطيّبة المثلّث، أمّا نسبتها إلى بني صعب فجاء نسبة إلى صعب بن عليّ بن بكر بن وائل من بني عدنان، وفق ما أورده المؤرّخ الجليل المرحوم ناجي حبيب مخّول في كتابه ( أنساب العرب وتاريخهم) صفحة 50، والكتاب كما أذكره كتاب قيّم لكنّه موجز، يمتاز بإضاءته على أنساب العرب، وقد كنت تشرّفت بالحصول عليه من المؤلّف حينما كنت في الصّفّ السّادس الابتدائيّ، فقد رأيت آنذاك هذا الكتاب مع معلّم التّاريخ الّذي أعطاني عنوان الكاتب، وقد أرسل إليّ الكتاب ومنذ ذلك اليوم أصابني شغف شديد لقراءة التّاريخ، وأذكر أنّني بينما كنت أنهمك بالدّراسة لامتحانات الثّانويّة العامّة، طرق باب بيتنا شخصان أحدهما المرحوم ميشيل حدّاد والمرحوم ناجي حبيب مخّول، وذلك في نطاق جولةٍ لهما للبحث عن المواهب الواعدة للكتابة لتبنّيها ورعايتها، وعندما عرفا ثقل انشغالي بالامتحانات عزفا عن الحديث معي مؤقّتًا بترك الموضوع لأجلٍ لم يأتِ. وأذكرهذا كي يعرف القارئ أهمّيّة رعاية المواهب من قبل الكتّاب الكبار وتأثيرها في نفوس النّاس. ومن نافلة القول أنّ هذه ميزة يشترك فيها الأستاذان أحمد عازم والأستاذ عبدالرّحيم الشّيخ يوسف، فقد كان من حسن حظّي أن أتعرّف عليهما ولو من بعيد، إذ اتّصل بي الأستاذان يومًا بعد أن نشرت قراءتي لقصّة الزّميلة الأديبة روز شعبان بعنوان (مفتاح جدّتي) وقد أخذا موافقتي على نشر مقالي في مجلّة المرايا المذكورة آنفًا، وهذا الموقف الدّاعم منهما لن أنساه ما حييت، في حين قلّ فيه التفات الأدباء الّذين سبقونا إلى الكتابة إلى الوجوه الجديدة، ربّما من باب الانشغال وربّما من باب النّرجسيّة والمقولة يا أرض اشتدّي والبقيّة تعرفونها. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة التّحلّي بميزة تواضع العارفين والعلماء الملازمة لمثل من ذكرت.
بالعودة إلى مدينة الطّيّبة، فقد ورد ذكرها في مقولة تحمل شيئًا من الذّاتيّة والسّلبيّة
من قبل الملك عبد لله الأوّل ملك الأردنّ المؤسّس، الّذي حينما زاره وفد من رجالات قرية الطّيّبة آنذاك، ليهنّئه بمناسبة الجلوس على الكرسيّ الملكيّ، رفض استقبال هذا الوفد، وذلك لضغينة حفظها في صدره على المرحوم السّيّد عارف عبد الرّازق الّذي عرف بتأييده للحاج أمين الحسينيّ، مفتي الدّيار المقدّسة. (مخّول، ناجي حبيب. ص 50، أنساب العرب وتاريخهم).
وبناءً على ما تقدّم، أقول ردّا على هذا الإقصاء للطّيّبة على خلفيّة سياسيّة وشخصيّة: " كلّ الطّيّبات طيّبات، وأطيبهنّ طيّبة بني صعب، وطيرة بني صعب وبقيّة مدننا وقرانا وبلداتنا اللّواتي بقين رغم كيد الغاصبين".
بعد هذا الاستطراد، لا بدّ من التّعريف بصاحب التّكريم الأستاذ الأديب الباحث الشّاعر عبد الرّحيم الشّيخ يوسف، الّذي ولد في الطّيّبة سنة 1941، كما ترعرع في أحيائها، وعايش حياة القرية بكلّ مناسباتها الاجتماعيّة ومواسم غلالها، وأفراحها وأتراحها، وعايش الحكم العسكريّ، فتكوّن لديه انتماء شديد لهذه الأرض بما يؤثّثها من بشر وشجر وحجر. تلقّى تعليمه فوق الابتدائيّ في كلّيّة دار المعلّمين في يافا، وبعد أن تقلّب في سلك التّعليم وتنقّل في مدارس كثيرة، واصل تعليمه الجامعيّ للحصول على اللّقبين الأوّل والثّاني في اللّغة العربيّة والتّاريخ من جامعة تل أبيب.
" ابداع أدبي "
وإذا كانت الشّهادة الجامعيّة سلّمًا للارتقاء في العمل وفق التّخصّص، فإنّ القراءة والبحث والتّنقيب في أمّهات الكتب تؤهّل القارئ النّهم لأن يبدع في ألوان كثيرة من الكتابة الأدبيّة، ممّا يثري آفاق الكتّاب ويمدّ أقلامهم بالإبداعات الأدبيّة، وقد تمثّل هذا لدى الأستاذ عبد الرّحيم بالعمل المخلص في سلك التّعليم من جهة، والانخراط في العمل النّقابيّ الّذي ينمّ عن عمق الانتماء إلى زملاء المهنة، والكتابة في المجلّات والحوليّات من جهة أخرى، وقد كتب الشّعر العموديّ والحرّ، والمقالات الأدبيّة، والقصّة والنّقد الأدبيّ، وقد اتّسم بضلوعه وتمكّنه من اللّغة العربيّة بإحصاء مفرداتها، وإتقانها نحوا وصرفا وأدبا ونقدا وتصنيفا. ولك أن تقدّر أيّ أديب سيكون من قرأ الأدب العربيّ القديم والحديث؛ فمن القديم قرأ "الأمالي للقالي، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل في اللّغة للمبرّد، وكتب السّيّوطيّ كالمزهر والكشّاف، والبيان والتّبيين للجاحظ، والصّاحبيّ لابن فارس، ودرّة الغوّاص في أوهام الخواصّ للحريريّ، والمحتسب لابن جنّيّ، وكتب ابن السّكّيت وثعلب، وكتب البلاغة، وتفاسير القرآن السّبعة، ودواوين الشّعراء الأقدمين والمحدثين، والرّوايات والقصص المترجمة". (جوعيه، حاتم.2016، مقابلة، بعنوان: سيرة ومسيرة عبد الرّحيم الشّيخ يوسف، ديوان العرب).
وإلى ذلك فقد قرأ المقالات الأدبيّة لعمالقة الأدب وأساطينه، كطه حسين، والعقّاد والمنفلوطيّ والرّافعيّ والمازنيّ وتوفيق الحكيم وأحمد أمين وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغير هؤلاء. (الشّيخ يوسف، عبد الرّحيم.2022، الأعمال الكاملة، المجلّد الثّاني - النّثر، ص 105)
هنا لا بدّ للقارئ الضّمنيّ أن ينحني أمام قدرة الأستاذ وجلده على قراءة هذا الكمّ الهائل من الكتب الّتي كان لها أبعد الأثر ليس على النّاحية الفكريّة والثّقافيّة فحسب، إنّما على النّاحية الأسلوبيّة سيّما في النّثر؛ فبعض أعماله النّثريّة تذكّر القارئ بأساليب الأقدمين، بحيث لا يستطيع القارئ إلّا أن يتوقّف عندها، وإليك هذه الفقرة المقتطفة من مقالة له بعنوان " أضواء وغياهب" يهديها إلى يافا- المدينة والصّحيفة، حيث يقول:" وما هي إلّا صرعةٌ من طيش البشر حتّى انفلتت عاصفة مدوّيّة، وزمجر زلزال عسوف قد رجّها رجًّا وصار البحر مَغرَقة، والبرّ مفرقة، والجوّ أكلف، واللّيل أغدف، وبات الصّعود متعثّرًا والهبوط متعسّرا، واستشرس سيلُ العرِم وأخذ النّاس أخذَ عزيزٍ مقتدر، فتفرّقوا أيدي سبأ، وصدق الله العظيم بقوله:" يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه..." (انظر الأعمال الكاملة، المجلّد 2، النّثر، ص114-115)
لعلّ هذا الاستخدام البلاغيّ جناسًا وطباقا وسجعا ومقابلة لهو دليل كاف على مقدار تمكّن الأستاذ عبد الرّحيم من تلابيب البلاغة العربيّة في أساليب تتوافق مع مقتضى الحال والموضوع الّذي يطرحه في نثره.
أمّا في مجال النّقد فمادّته تتّكّئُ على متّكأ صلب حينما يتناول مجموعة شعريّة معيّنة فيشرحها دون هوادة ليستخلص منها الدّرر المكنونة بمهارة الغوّاص ليرسم من خلالها فسيفساء أسلوبيّة معتمدا على قاموسه الثّريّ وقراءاته المتجاوبة مع قول الإمام عبد القاهر الجرجانيّ في كتابه (دلائل الإعجاز) وذلك بناء على هذا الاقتباس :" ....لا يكون الكلام يستحقّ البلاغة حتّى يسابق معناه لفظَهُ، ولفظُهُ معناه، ولا يكون لفظه أسبقَ إلى سمعك من معناه إلى قلبك" وهو إلى ذلك متمكّن من البحور الشّعريّة والتّفاعيل وأساليب البديع والبيان والمعاني الّتي قلّ على النّقّاد الإحاطة بها مجتمعة، إذا ما أرادوا أن يستخدموها في ذات الدّيوان المطروق نقدًا، وهو يدعم طروحه بثبت المراجع وهو إلى ذلك يستشهد بأمثلة من أشعار الأقدمين، إذ أنّك ترصد في قاموسه النّقديّ فيضًا من الأساليب كالتّكرار والتّتابع الحرفيّ والتّرصيع والتّصريع والتّصدير والتّرديد والمماثلة والتّشبيه والوصل والقصّ والإرصاد والتّسهيم والاحتباك والمساواة والالتفات والإيضاح والمواردة والتّناصّ، وهذه الأساليب بحدّ ذاتها إنّما تحتاج إلى معجم خاصّ بها لتفكيك شيفراتها والتّمثيل لها دون تأتاة ولا غمغمة من خلال أشعار الأقدمين.( انظر: الجزء الأوّل، الشّعر، الفسيفساء الأسلوبيّة في المجموعة الشّعريّة " كنتِ أنتِ وكنتُ أنا" ، الشّاعر ناظم حسّون، ص 151-169)
" انتماء غير مسبوق "
ويلاحظ في أعمال الأستاذ عبد الرّحيم الشّيخ يوسف نزعة قويّة وانتماءً غير مسبوق، من خلالها لا ينفكّ يلتحم التحامًا وثيقًا بالقضايا الوجوديّة الحارقة لشعبه عامّة، ولإنسان بلدته ولزملائه ولأسرته بشكل خاصّ؛ وتراه لصيقًا بالمكان والأرض والإنسان ككلّ، مبتدئًا بالكتابة للأقربين الّذين هم أولى وأحرى بالحديث عنهم، كشريكة حياته ونجليه وحفيده، ولا ينفكّ يتنقّل بقلمه الفيّاض بين الوطنيّات والاجتماعيّات والمدائح والمراثي والبلدات والغزليّات والمتفرّقات والأناشيد، وهو لا ينكر فضل أحد في إهداءاته، ذاكرا من ساعده في تجهيز المجلّدين لإخراجهما في حلّتهما الخضراء القشيبة، وهنا يخصّ صديقه أحمد عازم، ولؤي الطّيبيّ، ولا ينسى من الأصدقاء البروفيسور لطفي منصور الّذي لم يتوانَ عن مساعدته في التّنقيب عن الهنّات والهفوات والسّهوات المطبعيّة، ليخرج الكتاب كما ذكرت على أجمل ما يكون.
يشار إلى أن المجلّدين يقعان في نحو من ألف صفحة من القطع الكبير: أحدهما للأعمال الشّعريّة والثّاني للأعمال النّثريّة، وأمّا باقي إبداعاته فما زال عبارة عن تصنيفات له تنتظر دورها في الأدراج، لكلّ مصنّف خصّص غلافًا كعنوان لعيون الكتب الّتي قرأها وكتب عنها ملخّصاتها والملاحظات، أرجو من الله أن يمتدّ به العمر ليستطيع تصنيفها ونشرها لاحقًا.
أمّا وأنّه أديب يكثر من مدائحه ومراثيه فهذا راجع إلى شدّة انتمائه لشعبه وأمّته وزملائه في المهنة ورجالات البلاد ونسائها الماجدات القابضات على الجمر، ولا غضاضة في ذلك، ما دام نقيّ اليد وعفيفًا عن التّكسّب الّذي مهما أبدع المبدع في أدبه، لا بدّ وأن ينتقص من قيمته بسبب رغبة الشّاعر أو الأديب في التّكسّب. وهذا إنّما ينمّ عن أصالة ونقاء سيرة وطيب سريرة ونيّة خالصة لوجه الله.
فالأستاذ في التصاقه بأدب المناسبات يبدو عنيدًا لا تأخذه في مواقفه لومة لائم؛ فإذا ما استشعر جورًا أو غبنًا أو مظلمةً لا يطيق عنها سكوتًا، فيمتشق قلمه بكلّ ما يمليه عليه الواجب الوطنيّ والأخويّ، فها هو يؤبّن صديقه وزميله في سلك التّعليم المرحوم عبد الله جبارة قائلًا:
أيا خِدنَ الصّداقةِ والنّوايا ومِن أعطافِها عَبَقَ الوِئامُ
فّبِالعرقِ السّخيِّ بلغتَ شوطًا وخيرُ الشّوطِ ما بلغَ السّخاءُ
صَحبتَ أفاضلَ النّاسِ اتّزانًا فما بخَسوكَ حقًّا أو أساؤوا
وها هم قد أتَوا من كلّ حدبٍ فهانَ الخطبُ أو جَمُلَ العزاءُ
وكان الواجبُ الأخويُّ يقضي بأن ترعى الحقوقَ الأصدقاءُ
(الشّيخ يوسف، عبدالرّحيم. 2022، الأعمال الكاملة – الشّعر، ص 296-299)
وقال في تأبين الشّاعر المرحوم محمّد نجم ناشف:
رثاؤُكَ فخرٌ وامتداحُكَ جوهرٌ وذكرُكَ يسمو للخلودِ ويّبهَرُ
ففي هذه الرّثائيّة يعدّد مناقب الفقيد الكثيرة مستعرضًا محطّاتٍ فارقة في حياة المرثيّ الممدوح وفي نفس الوقت يضمّنُ رثائيّته أبياتا على نفس البحر لشعراء من الأقدمين لابن نّباتة وللبوصيريّ:
أيا صاحبي مهما نَأيتَ عن الدُّنا ستبقى أريجًا في الصّحائفِ تُنشَرُ
أيا صاحبي عِشتَ الحياةَ منزّهًا على كلِّ ذلٍّ في النّفوسِ يُسيطِرُ
عرفتَ بأنّ المالَ خدعةُ واهمٍ يطيرُ له غِرٌّ وأعمى يُبَصِّرُ
وذاك ضميرُ الحرِّ يهتفُ قانعًا له عِبَرٌ في السّالفينَ ومّخبَرُ
"إذا جمعَ الإنسانُ أطرافَ قصدِهِ لنَفحِةِ مالٍ فهوَ جمعٌ مُكسّر" (ابن نباتة)
إلى أن يقولَ:
" فَمَن حسُنَت آثارُهُ فهوَ مُقبِلٌ ومَن قَبُحَت آثارُهُ فهو مُدبِرُ" (البوصيريّ)
وقبل ذلك يبثُّ روحَ الإباء والحرّيّة والوطنيّة ويبدو كأنّه يحمِل في دواتِه وقلمه بعضَ إرث طرفة بن العبد تارة، وليلَ امرئِ القيس الطّويل تارةً أخرى، وحتميّة انجلاء اللّيل وبزوغ صبح أبي القاسم الشّابّيّ طورًا آخرَ، كما سنرى:
نردّدُ ما غنّى الأوائلُ قبلَنا عهودًا من الإصرارِ كالسّهمِ تصدُرُ
"أذا سيّدٌ منّا خلا سيّدً" قَؤولٌ لِما قالَ الكِرامُ مُؤزَّرُ
وهنا نرى شاعرنا عبد الرّحيم يتنقّلُ برشاقةٍ وبراعةٍ لافتَتَينِ بين عيون شعر الأقدمين، ثمّ يمزجها بما جادت قريحته على عجالةٍ، ويستمرّ قائلًا:
لنا وطنٌ فوقَ الأثيرِ جناحُهُ تخرّ له كلُّ الطّغاةِ وتصغُرُ
ولا ضَيرَ في عَسفِ الرِّياحِ لحِقبةٍ فَتُعشي عُيونًا وَقدُها مُجَمِّرُ
أيا ليلُ مهما طُلتَ لا بُدَّ تنجلي بِصُبحٍ بهيٍّ شمسُهُ تتبختَرُ
في هذه المرثيّة تتجلّى براعته في التّناصّ، تغذّيها روحه الوطنيّة وقد التحمت بروح المرثيّ نضالًا مشتركًا، يحاولُ فيه الشّاعر أن يبشّر بِحتميّة انجلاء اللّيل وكأنّه يستحضِر في هذا نَفَسَ أبي القاسم الشّابّي الّذي قال:
" ولا بدّ للّيلِ أن ينجلي ولا بدّ للقيدِ أن ينكسِر" وهنا تتجلّى ثقافة الشّاعر الّتي تتزاحم أمامه القصائد والأبيات لتغذّي مدائحَهُ ومراثيَه بروح التّمرّد والعصيان على الوضع القائم. وكأنّه يلمح أو يصرّح بأنّ المقصود في هذه القصيدة إبراز روح النّضال من أجل إحقاق الحقّ وإبطال الباطل الّذي يحاربه صديقه المرحوم أبي القاسم محمّد نجم ناشف. (الشّيخ يوسف، عبد الرّحيم.2022، الأعمال الكاملة، الشّعر، ص 300-301)
كانت هذه قراءة عاجلة، عساها تلقي القليل من الضّوء على الأعمال الكاملة للأستاذ الشّاعر الأديب الباحث عبد الرّحيم، الّذي أقلّ ما يمكن أن يقال عن إنتاجه الأدبيّ من شعر ونثر، أنّه مرآةٌ مصقولة ترصد وتعكس في آنٍ معًا حياةً ومسيرة حافلة بالشّخصيّات من مختلف أطياف المجتمع المحلّيّ، جلّ هذه الشّخصيّات تزاملت وتفاعلت من جهة في حقل التّدريس، وفي العمل الأدبيّ من نظم وتأليف من جهة أخرى. وهذه الأعمال إن كانت تصف حياة نابضة ناهضة حافلة بوصفِ بطولة، أو رفع راية، أو قول كلمة حقّ، أو صرخة، أو زفرة ألم لفراق، أو رفع مظلمة، وتدوين حادثة حدثت على أرض الواقع، أو سرد حكاية، أو كتابة خاطرة، فهي كلّها في رأيي عمليّة توثيق وتأريخ لحركة المجتمع بريشة شاعر مرهف وأديب يقتربُ خطوات بالغة الأثر من المؤرّخين، ألم يكن الشّعر العربيّ القديم ولست اصفه بالجاهليّ ديوان العرب؟ وذلك هو شاعرنا الأستاذ عبد الرّحيم الشّيخ يوسف، وما فتئت الأبواب مفتوحة لمن يريد الغوص في الأعمال الكاملة، فهنيئًا لك أيّها الأستاذ عبدالرّحيم كريمًا راعيًا لمواهب صغار الأدباء، ومهما كتبت الأقلام لن تصفه كما وصف نفسه:
أردتُ الحياةَ بكدحٍ شريف أردتُ الحياةَ بحُسنِ الأثر
حياةً بأفقٍ مُنيرِ المُحَيّا وفير المياهِ هنيءِ الثّمر
أردتُ العطاءَ أردتُ الوفاءَ أردتُ الهناءَ أردتُ الغُرَر
أردتُ العطاءَ لشعبٍ أصيلٍ عظيم السّجايا رفيع الذِّكَر
أردتُ الوفاءَ لعهدٍ أثيلٍ نبيل الطّوايا بديع السِّيَر
(انظر الأعمال الكاملة-الشّعر، ص، 86)
المراجع :
1) (مخّول، ناجي حبيب. ص 50، أنساب العرب وتاريخهم).
2) (جوعيه، حاتم.2016، مقابلة، بعنوان: سيرة ومسيرة عبد الرّحيم الشّيخ يوسف، ديوان العرب).
3) (الشّيخ يوسف، عبد الرّحيم.2022، الأعمال الكاملة، المجلّد الثّاني - النّثر، ص 105)
4) (انظر الأعمال الكاملة-الشّعر، ص، 86)