المحامي زكي كمال - تصوير موقع بانيت
التي تأتي على الأخضر واليابس. وهي حالة كانت عاشتها الدولة سابقًا مرّتين أو ثلاث مرّات بعد قيامها، بدايةً في مطلع الثمانينات إبان التوتّر الذي عاشته الدولة فور انقلاب الحكم وصعود اليمين والليكود سدّة الحكم، وانتهت إلى اغتيال إميل غرينتسفايغ اليساريّ من حركة "السلام الآن" بعبوة ناسفة ألقاها اليمينيّ يونا أبروشمي الذي تغلغلت في عقله وقلبه شعارات الوزراء الذين اتّهموا اليسار بالخيانة، واتهموا مصوّتي حزب" المعراخ" العماليّ في حينه، بكراهيّة واضطهاد اليهود الشرقيّين-تمامًا كما اليوم-، والثانية عشية اتفاق أوسلو، وبعده والتي اتهمت حزب "العمل" واتهام اليمين له ببيع أرض إسرائيل للفلسطينيّين، والتي انتهت إلى اغتيال إسحق رابين والثالثة تلك التي رافقت الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة، والتي انتهت إلى إخلاء مستوطنات القطاع وشمال الضفة الغربيّة، وانتهت إلى مشاعر الكراهية ضدّ الجهاز القضائيّ والسياسيّ وضدّ كلّ من لا يتساوق ومواقف اليمين والمستوطنين. أمّا المعادلة الثانية فهي العلاقة الواضحة والعكسيّة بين قوّة العدالة وعدالة القوّة، أي بكلمات بسيطة العلاقة بين وجود جهاز قضائيّ قوّي ومستقرّ لا يهدّده السياسيّون وهيئات قانونيّة تعمل على إنفاذ القانون دون هوادة تشمل الشرطة والمحاكم والنيابة العامّة داخل إسرائيل، وسلطات الجيش في الضفة الغربيّة والأراضي المحتلة، وبين استعداد جماعات من المستوطنين لكسر كافّة القوانين، وارتكاب الأعمال غير القانونيّة، والتي تشمل الحرق وإطلاق النار على الفلسطينيّين، وربما القتل بحجة الانتقام والغضب والأخذ بالثأر، سعيًا لاستعادة قوّة الردع والسيادة، وهي مهامّ تتولاها قوّة العدالة وأجهزتها المختلفة في الدول الديمقراطيّة وليس المواطنون، لكن أحداث الأيّام الأخيرة وتحديدًا ما تشهده شرقيّ القدس والضفة الغربيّة وما أعقب اللقاء الأمنيّ في الأردن بدعوة ومبادرة أمريكيّة ومشاركة إسرائيليّة أردنيّة فلسطينيّة، والذي جاء للجم مظاهر التصعيد الأمنيّ، ومحاولة منع خروج الأُمور عن السيطرة، تؤكّد قوّة العلاقة داخل المعادلتين السابقتين فألسنة السياسيين المنفلتة في إسرائيل سواء تلك المتعلّقة بالخلاف حول الإصلاح القضائيّ، والتي وصلت حدّ تصريحات بوجوب اعتقال قادة المعارضة واتهامهم بالخيانة (وهي تهمة عقوبتها الإعدام) وبين اتهامات للائتلاف بأنه ينوي تحويل إسرائيل من دولة ديمقراطيّة إلى دكتاتوريّة يحكمها رجل واحد، تنذر باشتعال ألسنة اللهب وهو ما أكّده رئيس جهاز الأمن العام رونين بار ، الذي أبلغ السياسيّين الذين التقاهم أن إسرائيل تقترب من حالة خطيرة تنذر باغتيال سياسيّ آخر، أي أن الدولة تعيش حالة يصبح فيها الاغتيال السياسيّ القادم مسألة وقت ليس إلا، فكم بالحريّ علاقة ألسنة السياسيّين المنفلتة وتصريحاتهم المطالبة بمنع الفلسطينيين من البناء، والدعوة إلى تلقينهم الدرس، وضربهم سواء كانوا من مواطني القدس الشرقيّة، أو الضفة الغربيّة ليعرفوا من أين تؤكل الكتف، ومن صاحب السيادة وهي تصريحات وصلت ذروتها خلال وفي أعقاب انتهاء مؤتمر القمّة الأمنيّ في الأردن، وإعلان نتائجه التي تحدثت عن وقف لخطط بناء مستوطنات جديدة، أو أحياء جديدة في الضفة الغربيّة لأربعة أشهر، وعدم الاعتراف بمستوطنات جديدة لمدّة ستة أشهر، واحترام كافّة الاتفاقيات الموقّعة مع الفلسطينيّين في محاولة لمنع تدهور الأوضاع، برزت منها تصريحات وزير الماليّة والوزير بوظيفة جزئيّة في وزارة الأمن بتسلئيل سموتريتش الذي طالب الوفد الإسرائيليّ بمغادرة القمّة بعد عمليّة مسلحة أسفرت عن مقتل اثنين من المستوطنين في بلدة حوارة قرب نابلس، كي يعلم الجميع" أن صاحب السيادة قد أصابه مسٌ من الجنون"، مضيفًا أن الاستيطان لن يتوقّف ولو دقيقة واحدة قائلًا:" أنا صاحب القرار والسيادة"، وبعدها تصريحات وزير الأمن القوميّ إيتمار بن غفير بأن حزبه، وهو عضو في الائتلاف بأن " ما كان في الأردن سيبقى في الأردن" ، في رسالة واضحة لمؤيّديهم بأن الحكومة ليست صاحبة القرار، بل هما فقط، في أفضل تعبير عن حكومة لا تتحدّث بصوت واحد وعن وزراء لا يفهمون خطورة وتصريحات ألسنتهم وتصريحاتهم (وإذا كانوا يفهمون فالمصيبة أعظم)، التي تتحدّث عن " جنون صاحب السيادة"، وعن "مخربين يجب إعدامهم بالكرسيّ الكهربائيّ" والتي وصلت تأييدهم تصريحات في وسائل التواصل الاجتماعيّ حول " إحراق قرية حوارة" صدر بعضها عن مؤيّديهم من مجلس المستوطنات في الضفة الغربيّة، وامتناعهم حتى عن ممارسة اللعبة الممجوجة المطالبة بتهدئة الخواطر، يعني أن تتحوّل ألسنتهم وتصريحاتهم إلى السنة لهيب تحرق نحو مئة سيارة وعشرات المنازل في قرية حوارة، يرافق ذلك مساهمة رئيس الوزراء في ذلك، وهو الذي وصف المتظاهرين ضد التغييرات القضائيّة بأنهم فوضويّون خطيرون يجب لكمهم وضربهم ولجمهم، لكنّه اكتفى وإزاء ألسنة اللهب التي اشتعلت في قرية حوارة بنداء " محايد" لمئات المستوطنين بعدم أخذ القانون بأيديهم، وكأنه يقول لهم إن ما فعلوه كان عملًا معقولًا، لكن كان عليهم تركه لسلطات القانون، متناسيًا أنه هو نفسه الذي يعمل بواسطة اثنين من كبار مندوبيه هما وزير القضاء ياريف ليفين، ورئيس لجنة الدستور البرلمانية سمحا روطمان على إضعاف أجهزة إنفاذ القانون، وفي مقدمتها المحاكم والقضاة، وإنه يريد جعلهم مأمورين له يتم انتخابهم واختيارهم لمواقفهم السياسية وقربهم من مائدة السلطان متّهمًا جهاز القضاء برمّته والنيابة العامة باتّخاذ مواقف سياسية معادية لليمين ، وإنه هو من قسَّم الجيش بين وزيرين ومنح ثالثا مسؤولية قيادة "حرس الحدود" الذي يعمل أيضًا في الضفة الغربية، وأنه بإضعافه سلطات القانون وضرب العدالة إنما يجعل اعتماد الناس عليها أمرًا بعيد المنال أو ضربًا من المستحيل، فكيف لمستوطن يهوديّ في الضفة الغربيّة أن ينتظر من سلطات الجيش، وقوّات حرس الحدود والشرطة وجهات التحقيق بما فيها "الشاباك" جهاز الأمن العام، أن يبسط الأمن والهدوء، وأن يمارس مهامه الأمنيّة الواضحة، وأن تقوم بدورها لحماية المستوطنين، وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كان المستوطنون ووفق "أًلسنة زعماء الأحزاب التي صوتوا لها" ضحية لسياسات الجيش، ومواقف القضاة وتوجّهات الشرطة، فكيف لهم أن يقبلوا بأن تقوم هي بحمايتهم، وبالتالي قرّروا أن عليهم الاهتمام بأمنهم وسلامتهم، حتى لو تم ذلك عبر أَلسنة لهيب لا تُبقي ولا تذر، وعبر إطلاق النار تجاه المدنيين الفلسطينيّين واستخدام" عدالة القوة" بدل قوة العدالة، وإطلاق النار باتجاه الصحافيين ووسائل الإعلام والاعتداء على ضابط كبير في الجيش الإسرائيليّ هو قائد لواء في المنطقة حاول منعهم من الاعتداء على فلسطينيّين، ومحاولة مستوطنين دهس ضباط آخرين في الجيش، لأنهم يعيقون نشاطات الاعتداء التي ينفّذها المستوطنون، فعدالة القوّة تعني أن القوي هو من يفرض الأمور على أرض الواقع دون وازع قانونيّ، أو رادع أخلاقيّ. وهو الأمر الناهي ويحقّ له بكافة الوسائل منع من تسوّل له نفسه معارضته من تنفيذ رغبته هذه حتى لو كان قائدًا كبيرًا في الجيش، فالقوّة لدى المستوطنين في الحالة هذه، وعلى الجميع الانصياع لهم، بل معاونتهم، و"عدالة القوّة " وهو تعبير " دبلوماسيّ يستبدل" قوّة الذراع أو القبضة الحديديّة" تفضّل عدم الظهور على شاشات التلفزة المحليّة وخاصّة شاشات التلفزة العالميّة، الأمريكيّة منها والأوروبيّة التي تعتبر ما حدث في حوارة جزءًا لا يتجزّأ من "تقويض قوة العدالة"، وتعزيز توجّهات القوّة والقسوة وخرق القوانين، فهذا ما يريده، وما ينادي به وزراء اليمين وبعض أعضاء الليكود.
"التصعيد الداخلي"
لم نكن بحاجة للانتظار طويلًا حتى نرى ما حدث ويحدث على أرض الواقع، فالتصعيد الداخليّ الحاصل في الشارع الإسرائيليّ سياسيًا وقضائيًا، كان العنوان الواضح على الحائط، خاصة وانه تخللت هذا التصعيد اتهامات اليمين لكلّ من هبّ ودبّ بأنه يعادي المستوطنين والاستيطان، ويمنع مكافحة الفلسطينيّين، ولجم الإرهاب ومعاقبة المواطنين العرب الذين لا يدين ممثّلوهم في البرلمان بالولاء لإسرائيل، وحديث عن ضرورة الاستيطان في كلّ مكان في الضفة الغربيّة، ومنع أيّ احتمال أو مجرد تفكير بكيان فلسطينيّ أيًّا كان، ومطالبة الكثير من الأوساط سواء السياسيّة، أو الشعبيّة بالتوقّف عن أيّ حوار مع السلطة الفلسطينيّة وتضييق الخناق عليها، وفرض الإغلاق على أحياء شرقيّ القدس التي يقيم فيها فلسطينيّون يحملون الهويّة الإسرائيليّة، وهدم منازلهم وطردهم وإبعادهم فهم أعداء إسرائيل، والعودة إلى مستوطنات شمال الضفة الغربيّة، وإلغاء قانون الانسحاب من غزة، دون أن تفقه حكومة اليمين " يمين يمين بالتمام والكمال" أن تصريحات وزرائها ستشعل النار وستمنح الشرعية لجهات استيطانيّة بتنفيذ أجنداتها بطرد الفلسطينيّين في تنفيذ ربما لما كتبه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش قبل سنوات طويلة في مقالة طويلة أسماها "خطّة الحسم : اليمين هو من يملك مفاتيح السلام" من " أن الفلسطينيّين لن يقبلوا بالسلام ما دام لديهم الأمل في الحصول على دولة مستقلة"، وبالتالي يجب إزالة هذا الوهم – كما يقول- من عقولهم وأذهانهم، ليقبلوا ببقاء الضفة الغربيّة تحت السيطرة الإسرائيليّة، أما المرحلة الثانية فهي ضرورة طرد وترحيل الفلسطينيّين الذين لا يقبلون بإسرائيل كصاحبة السيادة في كافّة المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط ونهر الأردن، وإبقاء هؤلاء الذين يقبلون بذلك كمقيمين وليسوا مواطنين يملكون المساواة وحقّ التصويت والترشّح، ويبدو أن هناك من لا يريد انتظار المرحلة الثانية وفق نظرية سموتريتش، بل يريد قلب الخطّة رأسًا على عقب والبدء بترحيل وقتل فلسطينيين، وهنا يحضرني قول الفيلسوف فولتير "أن أسوأ حكومة هي تلك التي يوجد فيها أكبر عدد من عديمي الفائدة". وهو قول ينطبق على الحكومة الحالية ففيها أكبر عدد من الوزراء عديمي الفائدة العمليّة الذين يكتفون بالتصريحات الناريّة وإشعال السنة اللهب (اشتعال النار في الساحة الخلفيّة وفق التعبير الدبلوماسيّ الأمريكيّ)، ويؤكّدون أن إضرام النار في قرية فلسطينيّة سيعيد قوّة الردع، ويوقف ما تسميه "الأعمال الإرهابيّة"، فالحكومة الحالية تشمل بين صفوفها أكبر عدد من الأحزاب يجمعها ائتلاف واحد رغم المصالح الشخصيّة المتناقضة بين رؤساء الأحزاب المذكورة ، والتي تتراوح بين الهروب من قبضة العدالة، وبين إخضاع جهاز القضاء، وبين ضمّ الضفة الغربية وبين طرد المواطنين العرب في إسرائيل، وجعل مواطنتهم وحقوقهم مرهونة بولائهم التام للدولة اليهوديّة، وبين تكريس الشريعة اليهوديّة والطابع الدينيّ، وهي حكومة فيها أكبر عدد من المتحدّثين، أو ربما المتشدّقين بالحديث عن السيادة وبسط سلطة الدولة، دون أن تكلف الحكومة الحاليّة وإسرائيل عامّة نفسها عناء تحديد المنطقة التي تريد بسط سيادتها عليها، فإذا كانت المنطقة المقصودة تشمل الضفة الغربيّة أيضًا وفق قاموس سموتريتش فكيف يمكن لدولة تدعي بسط السيادة أن تتحدّث عن ذلك وسط تجاهلها التام لحقوق نحو 3 ملايين فلسطينيّ يعيشون في تلك المنطقة، وعدم منحهم أبسط مقوّمات الحياة، بل مصادرة أراضيهم وأمنهم الشخصيّ، وتركهم عرضة لاعتداءات المستوطنين التي تذكر بأيام وفترات تاريخيّة حالكة في أوروبا، ناهيك عن عدم منحهم الحقوق المدنية، فإسرائيل لم تقرر بعد ما اذا كانت تريد ضم الضفة الغربية وهدم السلطة الفلسطينية او تفكيكها كما يطلب سموتريتش وبن غفير، وبالتالي العودة إلى احتلال عسكري كامل للضفة الغربية، فهل تعتقد إسرائيل أن العالم بما فيه الولايات المتحدة وأوروبا، سيقبل عام 2023 أن تعيد احتلال الضفة الغربية في الوقت الذي وقفت دول العالم الديمقراطيّة على الأقلّ صفًا واحدًا متراصًّا ضدّ اجتياح روسيا لأجزاء من أوكرانيا؟ وهل تعتقد أن العالم الذي يلوِّح بسحب استثمارات من إسرائيل على خلفيّة الخطّة القضائيّة للحكومة الحاليّة لن يردّ بنفس الطريقة على احتلال مجدّد للضفة الغربيّة، ولن يفرض عقوبات اقتصاديّة فعليّة وعلنيّة، أو صامتة على إسرائيل؟ ولكن يبدو أنّ العبرة الأوكرانيّة لم تصل حكومة نتنياهو سموتريتش بن غفير، وأن الحكومة لا تدرك أن بسط السيادة لا يعني مصادرة الأرض واضطهاد السكان، بل الاهتمام بكافّة مصالحهم ومطالبهم، بل إنها حكومة يكثر كلامها عن بسط السيادة ويقلّ عملها، فهي لم تدرك بعد أن السيادة تتطلّب جيشًا واحدًا يأتمر بمصدر صلاحيّة واحد، وليس وزيري أمن يصدران للجيش أوامر متناقضة. يضاف إليهم قوات حرس الحدود التي تخضع لإمرة ايتمار بن غفير، وهي القوات التي كان عليها وقف اعتداء المستوطنين على أهالي قرية حوارة، لو أراد الوزير ذلك، لكنّه اكتفى بالمطالبة بعد ساعات بضبط النفس، بينما هو يقف وسط مستوطنين عادوا إلى مستوطنة أفيتار غير القانونيّة، وشرطة واحدة تضمن أمن الجميع وليس اليهود فقط، وجهاز قضاء تسوده قوة العدالة واقتصاد مستقرّ يجذب الاستثمارات، وأن القوّة العسكريّة والشرطيّة والقمع لا تضمن الأمن، والمعطيات تؤكّد ذلك حيث شهد أول شهرين من العام الحالي 2023 أكثر من 200 اعتداء، أو محاولة اعتداء على إسرائيليّين مقابل 61 محاولة طيلة العام الماضي 2022، ما دامت الحكومة تتجاهل السبب الرئيسيّ لما يحدث في شرقيّ القدس مثلًا من توتّر ومواجهات وعمليّات مسلحة. وهو الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتردّية، والتي تجاهلتها الحكومات المتعاقبة وبلدية القدس، وعدم استثمار الميزانيات في مشاريع البنى التحتيّة والتعليم والمنشآت الاقتصاديّة وأماكن العمل والتشغيل ومناطق البناء (بدل الهدم) ، وسبب ما يحدث في الضفة الغربيّة وهو استمرار الاحتلال واعتداءات المستوطنين، وتضييق الخناق على المواطنين الفلسطينييّن ومصادرة أراضيهم وشرعنة مستوطنات أقيمت فوقها، وهي حكومة تتجاهل أسباب مشاعر الغضب بين المواطنين العرب في إسرائيل متجاهلة التمييز في الميزانيات واستمرار التحريض ضدّهم من وزراء الحكومة (كثيري الكلام قليلي الإنجازات)، وهو ما يؤكّده كثيرون يلخّصون وضع الحكومة الحاليّة بأنها تتحدّث عن جيش واحد، لكن الواقع هو وجود ميليشيّات منفصلة، وتحدثت عن نظام لكن الواقع هو فوضى وأحداث مرعبة وانفلات لا يتم فيه اعتقال واحد من بين 300 مستوطن أضرموا النار في 95 سيارة وعشرات المنازل في حوارة، وتتحدّث عن سيادة لتتحوّل البلاد إلى كانتونات تسيطر على كلّ منها قوة مسلحة ووزير آخر، وتحدّثوا عن قيادة وسائق واحد هو رئيس الحكومة (كما قال هو لوزير الخارجيّة الأمريكيّ أنتوني بلينك) لكن الواقع هو أكثر من قبطان لسفينة واحدة يوجّهها كلّ منهم لوجهة مختلفة ، ما قد يؤدّي إلى غرقها .
"السيادة"
يكثر أقطاب الحكومة الحاليّة في إسرائيل من استخدام كلمة "السيادة" في كثير من خطاباتهم وتحليلاتهم، دون أن يفهموا ربما مفهومها، وكيف نشأت وما مظاهرها وأهدافها، متجاهلين أن السيادة هي أحد الأركان الجوهريّة التي تبنى عليها نظريّة الدولة في الفكر السياسيّ والقانونيّ، وأنها تشمل أبعادًا تتعلّق بحقوق المواطن واحترام كيانه ومساواته، باعتبارها أهمّ المبادئ الأساسيّة التي يقوم عليها بنيان وصرح القانون الدوليّ والعلاقات الدوليّة المعاصرة، فهي في تعريفها الحقيقيّ مفهوم قانونيّ- سياسيّ يتعلّق بالدولة، ويشكّل أحد أهمّ خصائصها وشروطها الأساسيّة، ومن خلالها يتجسّد واقعيًّا الوجود القانونيّ والسياسيّ للدولة كعضو في المجتمع الدوليّ، كما يتجسّد أيضًا بموجبها الاستقلال الوطنيّ للدولة المعاصرة بأركانها الثلاثة: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسيّة، يترتّب عليه تميّزها بأمرين أساسيّين؛ الأول: تمتعها بالشخصية القانونية الاعتبارية، والأمر الثاني: كون السلطة السياسية فيها ذات سيادة، فالدولة الحديثة تريد أن يكون لها الكلمة العليا واليد الطولى على إقليمها، وعلى ما يوجد فوقه أو فيه، وبالتالي لا يمكن لدولة أن تتحدّث عن سيادة وسط تجاهل ملايين المواطنين، أو المقيمين تحت سلطتها كما يريد سموتريتش، ولا يمكن وجود سيادة إذا كان بعض الوزراء يقصد بها قمع المعارضين عامّة عبر إخضاع الجهاز القانونيّ لنزوات فئة ما، وقمع المواطنين العرب في النقب والجليل والمدن المختلطة خاصّة كما يريد بن غفير ، ولا سيادة لدولة تقمع مواطنيها اقتصاديًّا، وتفرض على فئة منهم خدمة الفئة الاخرى اقتصاديًّا وتشغيليًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا، أي مطالبة العلمانييّن بالخدمة العسكريّة والعمل ودعم الاقتصاد، بينما المتديّنين المتزمّتين لا يؤدّون الخدمة العسكريّة، ولا ينخرطون في سوق العمل والإنتاج ولا يدرسون حتى المواضيع الدراسيّة التي تؤهّلهم ليصبحوا عناصر مُنتجة ومفيدة للمجتمع، بل تبقيهم أسرى نظام يقوم على دعمهم ماليًّا عبر قسائم دعم شهريّة، كما يريد الوزير أرييه درعي وغيرها من الوسائل التي تكرّس الفقر والبطالة وانعدام الإنتاج، ولا سيادة في ظلّ حكومة ليس من الواضح من يسيطر فيها على دفّة القيادة، وهل هو فعلًا بنيامين نتنياهو ، أم أنه ياريف ليفين وزير القضاء، أم إيتمار بن غفير أم سموتريتش، أم أن حال هذه الحكومة يشبه ما قاله السياسيّ الإغريقيّ كليس لابنه الصغير ": يا بني أنت أقوى شخص في بلاد الإغريق ، فقال الغلام : وكيف ذلك ؟ فقال السياسيّ: أنا أحكم أثينا والإغريق قاطبة، وأمّك تحكمني ، وأنت تحكم أمّك "( بليز باسكال)، ويبدو أن الابن / الحزب الصغير في الحكومة، هو من يسيطر عليها، فسياسة سموتريتش وبن غفير هي ما يتمّ تنفيذه أو الاقتراب من تنفيذه في الضفة الغربيّة، وسياسة سمحا روطمان رئيس لجنة الدستور، وهو من حزب سموتريتش، هي ما ينفذه الائتلاف الحالي في المجال القضائيّ، وهي التي تؤدّي إلى إضعاف الجهاز القضائيّ والمحاكم ( إضعاف قوة العدالة)، وتضرّ بالاقتصاد وتؤدّي إلى هروب المستثمرين، وازدياد أعباء الحياة الاقتصاديّة وارتفاع الأسعار وتفتيت أواصر العلاقات بين فئات وأطياف المجتمع الإسرائيليّ ، أي أن من يسيطر على الحكومة هما توجّهان أولهما مضادّ لتقوية العدالة وثانيهما عدالة القوّة، وهو ما اتّضح من خلال مهزلة التصريحات المتبادلة بعد قمّة الأردن، والتي أصدرت واشنطن بعدها بيانًا رسميًّا حول تفاهمات وتوافقات أيّدها رئيس الوزراء ومندوبوه المشاركون في القمم ومنهم كبار مسؤولي الشاباك وأجهزة الاستخبارات العسكريّة، حول وقف بناء المستوطنات والالتزام الإسرائيليّ بكافّة الاتفاقيّات الموقعة مع السلطة الفلسطينيّة، وإعلان الابنين الصغيرين في الائتلاف وأصحاب الكلمة الأخيرة فيه كما يبدو، سموتريتش وبن غفير، بأن البيان لا يُلزمهما، وما يعنيه ذلك من مسّ بالتنسيق مع أمريكا ودعمها لإسرائيل، والتي تحتاجها إسرائيل قبل أيّ عمل عسكريّ قد تنفذه ضدّ المنشآت النوويّة الإيرانيّة، فهل سيقبل الابنان الصغيران بتفاهمات "ملك الإغريق" نتنياهو مع واشنطن، أم سيقلبان لها ظهر المجن؟ .
"تدهور خطير"
إزاء ما يحدث اليوم وتحديدًا التدهور الخطير في تصريحات ومواقف بعض أعضاء البرلمان الإسرائيليّ ومظاهر كراهيّتهم للعرب والفلسطينيّين واليساريين، وكلّ ما هو مختلف ومتحضّر. وما يحدث في الضفة الغربية وتحديدًا ما حدث في حوّارة، ومظاهر الاستهتار بسلطات القانون وبالديمقراطيّة والقوانين والتشريعات خاصّة ما يحاول اليمين الاستيطانيّ المتطرّف فرضه في الضفة الغربيّة من قيود وتضييق ومصادرات وشرعنة لمستوطنات عشوائيّة وغيرها وغيرها. والصمت المطبق لرئيس الوزراء وعبارات "التفهمّ" لاعتداءات المستوطنين على الفلسطينييّن، وسلسلة القوانين العنصريّة ضد الفلسطينييّن والمواطنين العرب، لا بدّ من استعادة ما كان قد حذَّر منه المفكر الإسرائيليّ البروفيسور يشعياهو ليبوفيتش (وهو يهوديّ متديّن أرثودكسيّ، لكنّه ليبرالي المواقف والمبادئ) فور احتلال الضفة الغربية عام 1967، والتي كان منذ اليوم الأول لاحتلالها قد طالب بالانسحاب منها قائلًا إنه لا مبرّر ولا حقّ لإسرائيل باحتلالها، ولا حق لها بالتدخل في ما سيفعله العرب في هذه المناطق، وهل سيسيطر عليها الأردن، أو حركة "فتح" أم جمال عبد الناصر، وتحديدًا قوله أمام ضباط الجيش الإسرائيليّ فور انتهاء الحرب:" الفخر القوميّ والنشوة الكبرى بعد حرب الأيام الستة هي ظاهرة مؤقّتة وزائلة، ستقودنا من الوطنيّة الحقّة إلى التطرّف القوميّ الخلاصيّ المسيحانيّ، أما المرحلة الثالثة فستكون سيادة البهيميّة تليها المرحلة الأخيرة وهي نهاية الصهيونيّة" ، والسؤال الذي يجب على المسؤولين في الحكومة طرحه هو: أيّ مرحلة تعيشها إسرائيل اليوم؟ .
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]