المحامي زكي كمال - تصوير موقع بانيت وصحيفة بانوراما
القول إن ما يحدث في إسرائيل ومنذ انتهاء الانتخابات البرلمانية الأخيرة في الأول من تشرين الثاني 2022، يتعدّى الأقوال والتوصيفات التي اعتدناها في السنوات الأخيرة. وقد تراوحت، من باب الإيمان الخاطئ أن استبدال الحكومة هو الحلّ لعدم الاستقرار، بل الاستقطاب الداخليّ في إسرائيل، بين الحديث عن انتخابات متكرّرة سببها عدم الحسم الانتخابيّ أو تعادل بين المعسكرين، اليمينيّ برئاسة بنيامين نتنياهو والذي يضم الأحزاب المتديّنة والاستيطانيّة الصهيونيّة والليكود، والمعسكر الذي يُسمّى، أو سُمِّي مجازًا معسكر اليمين والوسط، والذي أنجب عام 2021 وبعد أربع معارك انتخابيّة حكومة لن تعمّر طويلًا، سُمِيَّت مجازًا أيضًا حكومة التغيير. كنت قد قلت في مقال سابق إنها حكومة عمرها منوط بحسن التدبير بين مركّباتها الثمانية المستحيلة، والحديث عن ضعف للديمقراطيّة، أو النظام الديمقراطيّ من جهة ثانية، أو انعدام للأيديولوجيّات الواضحة وتغليب للخاصّ والشخصيّ على العام والوطنيّ الجماعيّ، ليتّضح أن ما تعانيه إسرائيل هو أعمق من ذلك، بل أخطر من ذلك، فهو انقسام داخليّ خطير، بل عداوة متناهية بين الأحزاب والطوائف والتوجّهات، وبين المتديّنين والعلمانيّين وبين المعتدلين والمتطرّفين اجتماعيًّا، وبين من يريدون لها أن تكون دولة هايتك ( Startup Nation ) وصناعة متقدّمة ومؤسّسات أكاديميّة وبحثيّة تتّسم بالحريّة السياسيّة والديمقراطيّة، حتى وإن كانت منقوصة لفئات من مواطنيها، تشجّع المساواة والتعدديّة الفكريّة والعلميّة وحريّة الرأي، ومن يريدها دولة توراة تسودها الشريعة اليهوديّة والتي تقدّس الفوقيّة اليهوديّة وحكم رجال الدين وتوجّهاتهم المسيحانيّة الخلاصيّة. وتعتمد تقوقع فئاتها المختلفة كلّ منها في "كهفها أو متاريسها" ، وإن أخطر تجليّات هذا الوضع هو تصرّفات الائتلاف اليمينيّ الجديد صاحب الأغلبيّة الواضحة في البرلمان وسياسات الحكومة خاصّة ما يتعلّق بخنق الجهاز القضائيّ، ودوس المعارضة وسيطرة مطلقة وغير مشروطة، بل غير قابلة للنقض، أو الاستئناف على قراراتها وتوجّهاتها خدمة أهداف ضيّقة وتوجّهات خطيرة أولها فهم خاطئ وخطير، بل كارثي لمفهوم الحكم والسلطة يصل حدّ الاستبداد الائتلافيّ ودكتاتوريّة الأغلبيّة، التي تدوس الغير عبر إلغاء مقصود لوجود المعارضة وحقّها، بل عدم تفويت أيّ فرصة لإهانتها واستصغارها، كما جاء في اقتراح رئيس لجنة القانون والدستور والقضاء، اليمينيّ المتطرّف سمحا روطمان منح المعارضة عضوًا أو ممثّلًا واحدًا في لجنة تعيين القضاة مقابل 6 ممثّلين للائتلاف، ورفض أيّ محاولة للحوار، بل تجاهل مقصود لكافّة التحذيرات العالميّة والإقليميّة السياسيّة، وكافّة شارات التحذير الاقتصاديّة، وسحب استثمارات شركات كبيرة صناعيّة وتقنيّة متقدّمة، وخلق "كانتونات سيطرة" داخل الحكومة منها منح إيتمار بن غفير سيطرة على الشرطة بكاملها، وسيطرة على وحدات مسلحة تندرج ضمن ما يُسَمى "حرس الحدود" و"الحرس القوميّ"، ومنح الوزير بتسلئيل سموتريتش السيطرة على الإدارة المدنيّة التي تسيّر الأمور في الضفة الغربيّة، وكأنها تقول "وليأت من بعدي الطوفان"، وأن تخليص بنيامين نتنياهو من خطر السجن، أو الإدانة بتهم جنائيّة هو الهدف الوحيد وبالتالي كلّ الوسائل مشروعة، وسط نشاط محموم لسنّ قوانين تخدم متهمّين، أو مشبوهين بمخالفات جنائيّة بهدف ضمان سلامة الائتلاف حتى على حساب تجاهل القضايا الملحّة في إسرائيل، ومنها غلاء المعيشة وانعدام الأمن الشخصيّ واستفحال العنف وازدياد أعداد الفقراء واستحالة حصول الأزواج الشابّة على شقّة وبيت، وأهمّها هل تبقى إسرائيل محتلّة لأراضي الفلسطينيّين، وتبنّي الاستيطان اليهوديّ فقط وغيرها وغيرها، وبالتالي يمكن الجزم أن ما يحدث في إسرائيل منذ تشكيل الحكومة الجديدة هو ليس مجرّد تغيير حكومة، بل محاولة لتغيير النظام برمّته ملخصها" سنغيّر النظام كي يخدم مصالحنا السياسيّة والشخصيّة والاقتصاديّة والتوظيفيّة والماليّة. وكأننا سنحكم إسرائيل إلى الأبد وسنُخضع كافّة السلطات والجهات لسيطرتنا التامّة والمطلقة والمتسلّطة ونرهبها بسرعة محمومة، وكأننا سنترك سدّة الحكم غدًا".
هذا النهج يعني أمرًا واحدًا أساسيًّا يفوق في أهمّيته الحدث الآنيّ، وهو التغييرات التي تريد الحكومة الحاليّة تنفيذها، بل فرضها على الجهاز القضائيّ وصولًا إلى سيطرة مطلقة دون رادع، أو وازع، أو رقابة قضائيّة، ودون أن يتمكّن، أو يجرؤ أحد على إبداء المعارضة أو التحفظ. وله أبعاد تفوق بكثير أبعاد تغيير تركيبة لجنة كهذه، أو تلك أو تعديل قانون كهذا أو ذاك، أو "شرعنة جنائيّات وزير كهذا أو ذاك" . فهو نهج يعني أن الحكومة الحاليّة تعلنها جهرًا أنها لن تكتفي بتغيير حكوميّ، بل إنها تريد تغيير نظام حكم، أو إحداث انقلاب، يعني تحويل البلاد إلى دكتاتوريّة مطلقة من جهة، أو القبول على الأقلّ بأن تتحوّل الديمقراطيّة الفعليّة إلى ديمقراطيّة صوريّة (مثل بولندا وهنغاريا وتركيا) وليس جوهريّة، إضافة إلى القبول بحالة لا تتكرّر فيها الانتخابات فحسب، بل يتمّ فيها إضفاء الشرعيّة على أن تقوم كلّ حكومة بتفصيل القوانين بعد الانتخابات على مقياسها، كي تلائم احتياجاتها وتخدم غاياتها. وهذا هو السبيل القصير والطريق نحو الدكتاتوريّة، دون اكتراث لضرورة أولى تشكّل عماد الدولة الحديثة خاصّة الدول الديمقراطيّة منها، وهو أن تغيير الحكومات، أو رؤساء الحكومات في حالتنا هنا، لا يعني تغيير الحكم، وأن القوانين والأنظمة والتعليمات واستقلاليّة السلطات والفصل بينها ليست رهنًا بانتماء حزبيّ، أو سياسيّ، أو عقائديّ، وليس رهنًا بتغلّب تيّار ما على آخر، أو باعتقاد تيّار بأنّ تغلّبه، أو فوزه في انتخابات يعني أن الدولة أصبحت ملكًا له، وأن قوانينها ومؤسّساتها يجب أن تُجَيَّر لخدمته التامّة ولخدمة أهدافه السياسيّة الشخصيّة، وخدمه قادته وضمان بقائهم وثرائهم، وإلا تحوّلت الدولة وإسرائيل، في حالتنا هذه، إلى دولة تتأرجّح بين عدم الاستقرار وعدم الاستقرار، وتتحرّك أو تنتقل من فوضى إلى فوضى، ومن حكم مؤقّت بمؤسّساته ومقوّماته إلى حكم مؤقّت آخر، بمؤسّسات ومقوّمات خاصّة به تكون مناقضة للسابق ، وهو ما يبدو أن الحكومة الحاليّة تقود إليه وسط حمّى التشريعات ونشوة النصر، أو " بلدوزرات دي 9 " التي تسير قوافلها نحو الجهاز القضائيّ، وتريد إذا لم يتم وقفها. ومن الواضح أن ليس هناك من يوقفها خاصّة، وأن نتنياهو وقودها ومحركها والمستفيد منها يقف موقف المتفرّج مخليًا يديه من المسؤوليّة، حتى أنه أبلغ رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ أن وزير القضاء ياريف ليفين هو العنوان إذا ما أراد الرئيس كبادرة حسن نية وقف التشريعات التي يصفها نتنياهو بالإصلاح وتصفها معارضته بالانقلاب. أما هو " فمراقب محايد من الأمم المتحدة وفق التعبير الدارج والمتّبع اسرائيليًا"، ما يشكّل بداية لحقبة جديدة لم تعد فيها إسرائيل دولة تتكرّر فيها الانتخابات، وتتبدّل الحكومات دون أن يتغيّر الحكم، وتنتقل الأغلبيّة سلميًّا وبنتائج انتخابات من معسكر إلى آخر، ليتم بعدها احترام قرار الأغلبيّة من جهة، دون دوس الأقليّة وحقوقها ومتطلباتها، بل صونها عملًا بأن الديمقراطيّة تعني الحسم دون أن تعني الإقصاء، وربما تتكرّر الانتخابات دون حسم مرّة تلو الأخرى دون أن يتحوّل ذلك إلى فراغ دستوريّ، إلى دولة تعاني أمراضًا سياسيّة وديمقراطيّة صوريّة وهشّة. وهذا أول الاستنتاجات التي يجب التوصّل إليها اليوم ، ما يعني وبنظرة إلى الوراء أن عدم الحسم الانتخابيّ لأربع معارك انتخابيّة متتالية لم يكن فخرًا ديمقراطيًّا، أو دليل ممارسة حقيقيّة وواعية، بل كان حالةً فرضها الواقع، دون أن يكون هناك خيار آخر، أو بكلمات شرق أوسطيّة كانت فراغًا دستوريًّا، ودليل مرض أو خلل خطير في نظام الحكم، وبالتالي كان ذلك بمثابة مرحلة شهدت حكومة مؤقّتة بديلة للتغيير غريبة التركيبة والتوليفة، بينما يرافق ذلك تخطيط متواصل لمجموعة ما سياسيّة هي اليمينيّة والمتديّنة اعتبرت حكومة التغيير حكومة غير شرعيّة، بل سرقة للحكم في وضح النهار، وبالتالي أقسمت أن تعود إلى الحكم متسلّحة بكلّ مشاعر الكراهية لما كان، ولميراث الحكومة السابقة، بل وبقرار حازم ملخّصه أنه لا كفاية بالتغيير والتعديل، بل إن هناك حاجة لهدم ما كان من أساسه وبناء كيان جديد فوقه، يعزّز ذلك الشعور حملات شعواء تمّ فيها اتهام الجهاز القضائيّ بأنه شريك في معاداة اليمين وبنيامين نتنياهو، بل شريك في انقلاب على اليمين وبيع دولة إسرائيل للعرب وللإخوان المسلمين. ولذلك، يجب وبسرعة وبشكل لا يمكن إصلاحه هدم كافّة السلطات والهيئات التي "شاركت" في الانقلاب السلطويّ وفق تسمية اليمين، وترهيبها وتقليص سلطاتها وفرض القيود عليها وجعلها أسيرة لرغبات السياسيّين وسيطرتهم وسطوتهم وتحويلهم إلى "حاملين لراية السياسيّين"منفّذين صاغرين لرغباتهم خائفين من أن يتمّ فصلهم من مناصبهم إذا لم يكونوا عند حسن ظنّ من عيّنهم، ما يعني أن يسيطر السياسيّون على الحكومة والبرلمان والمحاكم، وأن يتحوّل المستشارون القضائيّون في الحكومة والوزارات إلى إمّعات يفتقدون إلى أدنى مقوّمات الاستقلاليّة والجرأة على قول الحقيقة، وتحويل إسرائيل من دولة فيها شعب موحّد وواحد، يسودها نقاش وخلاف في المواقف والطروحات، ولكن ما يوحّدها أكثر من ذلك إلى دولة يسودها تقسيم طائفيّ، سمتها كراهية المختلف سياسيًّا وعقائديًّا وعرقيًّا ودينيًّا، لا ينتقل فيها الحكم من حزب إلى آخر، بل من "طائفة سياسيّة وعقائديّة" إلى طائفة عقائديّة وسياسيّة أخرى، وسط علاقات تغذّيها ترسّبات الماضي وإيمان طائفة منها، هي اليهود من أصل شرقيّ وصلوا من الدول العربيّة بأن اليهود من أصل أوروبيّ وغربّي الذين أقاموا دولة إسرائيل ، ظلموهم وعاملوهم معاملة مواطنين من الدرجة الثانية ( فماذا يقول إذن المواطنون العرب في إسرائيل). وبالتالي "يحقّ لهم أن ينتقموا وبقسوة جرّاء ما تعرّضوا له" (وهو ظلم افتراضيّ في غالب الأحيان)، عبر تغيير قواعد اللعبة وطريقة الحكم، ورغم كافّة التحذيرات والنصائح من الدول الصديقة، ودول العالم الداعمة والديمقراطيّة ومنها حتى فرنسا التي منحت إسرائيل المفاعل النوويّ في ديمونا بفضل الرئيس الأسبق شمعون بيرس، والولايات المتحدة التي تدعم إسرائيل بمليارات الدولارات سنويًّا. ولذلك، يمكن القول إنه ما أشبه اليوم في إسرائيل بالأمس في دول أخرى عديدة تحوّلت من ديمقراطيّات إلى دول دكتاتوريّة منهارة اقتصاديًّا وسياسيًّا، ومنها تركيا وهنغاريا والأرجنتين وبولندا، وحتى لبنان الذي كان دولة ديمقراطيّة ببرلمان وحكومة وقضاء وجيش واحد إلى دولة ينتقل حكمها بين طائفة وأخرى، وسط تدخّلٍ وتأثير لعوامل خارجيّة وداخليّة، في تجربة تتراوح بين فاشلة وأكثر فشلًا، إلا أنها تتكرّر وفقًا للوضع الإقليميّ والدوليّ، عبر سنوات شعر فيها اللبنانيّون السُنّة أنهم امتداد طبيعيّ للناصريّة، في حين رأى المسيحيّون وتحديدًا الموارنة أن الغرب سيقف إلى جانبهم للنهاية، دون أن يدركوا أن استمرار السلطة والغلبة مستحيل، وصولًا إلى وضع جديد وجد المسلمون الشيعة فيه أنفسهم، وبعد سنوات شعروا بأنهم يتعرّضون للظلم والإقصاء، في وضع غير مسبوق يسيطرون فيه على مقاليد الأمور، ويحدّدون سياسات الحكومات المتعاقبة، عبر حركة "حزب الله" ولهم جيش (ميليشيا) خاصّ ينفّذ أوامرهم دون أن يخضع للجيش اللبنانيّ وسلاح الدولة الواحد، دون أن يتعلّموا الدرس اللازم والضروريّ، بل فعلوا بالضبط ما فعله من سبقهم، متناسين أن مصير التجربة سيكون مماثلًا لما سبقها، وأن ما هو مُقبل سيكون أكبر وأسوأ من كُلّ ما سبق، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وهذا ما يحدث في إسرائيل وما سيحدث فاليمين والمتديّنون والمستوطنون الذين شعروا أن حكومة التغيير داستهم وهمّشتهم، وأنها حكومة لم تكن شرعيّة خاصّة وأنها استندت لأوّل مرّة إلى حزب عربيّ هو القائمة العربيّة الموحّدة برئاسة الدكتور منصور عباس، وأن رئيسيها نفتالي بينيت ويائير لبيد تحالفا مع أعداء إسرائيل ، وأن المحاكم ساعدتهم وأكثر من ذلك أن المستشار القضائيّ للحكومة حاك لنتنياهو مكيدة واتهمه زورًا بالفساد. ولذلك، يجب الاقتصاص منه، عبر حكومة " يمين كاملة" تضمّ الليكود والمتديّنين والصهيونيّة الدينيّة تنفّذ تشريعات تقلب الأمور رأسًا على عقب، وكأن مسًّا من الجنون أصابها لا يترك لديها عاقلًا أو متّزنًا، بل يحوّل مركّباتها إلى روبوتات تهدم كلّ شيء لا تُبقي ولا تذر، على شاكلة ائتلاف متّحد الأهداف رغم تعدّد واختلاف المنطلقات، برئاسة نتنياهو المتّهم بثلاث تهم جنائيّة بينها الرشوة وخيانة الأمانة، وليجد نتنياهو نفسه، في هذا الائتلاف الذي يبدو متجانسًا أيديولوجيًّا، في موقف كان يتجنّبه بحرص، فللمرّة الأولى يجد نفسه ليس فقط محاطًا بشركاء يفوقونه دهاءً على المستوى الإعلاميّ، وإنما أيضًا يمثّل العناصر الأكثر يساريّة في الحكومة التي يرأسها، في حالة حصيلتها النهائيّة ومحصّلتها الختاميّة تتلخّص في أن نتنياهو الحالي يجعل حياة شركائه سهلة، فقد ولّت الأيام التي كان فيها الآمر الناهي، وصاحب القول الفصل الذي يملك دائمًا أوراقًا بديلة ضمن لعبة "البوكر السياسيّ"، التي أجادها أكثر من غيره وأفضل من غيره، ودون أن يكون له، إذا أراد الخلاص من التبعات القضائيّة والشخصيّة جرّاء محاكمته شركاء آخرون . وبالتالي فهو اليوم نسخةٌ ضعيفة ومحتاجة يسهل تعريضه للضغط، وحتى الابتزاز السياسيّ. ولذلك، أعطى شركاءه في التحالف كلّ ما طلبوه وأكثر، وكلّ ما يريده في المقابل هو أصواتهم في سلسلة قوانين تضمن حريّته.
" حكومة تحرير"
إذن، هي حالة غير مسبوقة تشير إلى حكومة يتسابق أفرادها في إطلاق التصريحات المتطرّفة والمبادرة إلى تشريعات تروق للقائد والزعيم، وتؤكّد ولاء أعضاء الائتلاف له، حتى يمكن تسمية الحكومة الحاليّة وعلى شاكلة تسمية الحكومة السابقة بحكومة التغيير، بأنها " حكومة تحرير" تصبّ كافّة جهودها في تحرير وتخليص نتنياهو من عقوبات قضائيّة مترتّبة على لوائح الاتهام حتى لو كان تحريره يتمّ عبر تدمير الجهاز القضائيّ، وتعزيز رياح الكراهية والعداء الداخليّ، التي تغذيها حالة مشابهة لما سبق وقلناه عن لبنان، ملخّصها شعور لدى الطوائف اليهوديّة الشرقيّة ومعظمها يمينيّة التوجّهات، أو تنتمي إلى الأحزاب الدينيّة المتزمّتة، أو إلى أحزاب الصهيونيّة الدينيّة وخاصّة حزب "القوّة اليهوديّة" برئاسة إيتمار بن غفير، وهم مجموعة تميل ربما بحكم ميراثها الحضاريّ ومصدر قدومها إلى إسرائيل، إلى تقديس الرجل الواحد، ورفض التعدديّة والعلمانيّة والديمقراطيّة ومساواة النساء والأقليّات العرقيّة ، فقد حصلت اليوم على مقاليد السلطة، وأنها هي التي بيدها اليوم السلطة لقيادة الدولة عبر مناكفة المعسكر الثاني، وغرز الأصبع في العين نكاية وإمعانًا في الإهانة، وليس ذلك فقط، بل عبر تشريعات قد تقود إلى خلق ميليشيات مسلّحة لا تخضع لقيادة الشرطة ( السلاح الواحد المعني بالأمن الداخليّ)، بل لإمرة وزيرها إيتمار بن غفير وجماعته وتطلّعاته، وميلشيات أخرى تتبع للإدارة المدنيّة وتخضع ليس لوزير الأمن، أو لقيادة الجيش (السلاح الواحد المعني بالحماية من الأخطار الداخليّة)، بل لإمرة الوزير بتسلئيل سموتريتش، وخدمة لأهداف تفيد أقليّة استيطانيّة متطرّفة ، وفوق كلّ ذلك حكومة آثر رئيسها تحقيق أولويّة بقائه في السلطة رئيسًا للوزراء، من باب إيمانه بأنه سيبقى رئيسًا للوزراء، حتى وإنْ سقطت الحكومة نتيجة تناقضاتها، في الفترات الانتقاليّة، وحتى الانتخابات القادمة مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانيّة تشكيل حكومة بديلة تضم أحزاب ممّا يسمّى معسكر الوسط وخاصّة بيني غانتس، وهو ربما ما يسعى إليه زعيم " الليكود" بعد التخلّص من المحاكمة بتهم الفساد، ما يعني بقاءه رئيسًا للحكومة، رغم انتفاء حاجته إلى شركائه من اليمين والمستوطنين، في أفضل تعبير عن انهيار للأيديولوجيّات، أو تحويلها إلى فضفاضة وغير واضحة المعالم، وهو ما قاله الباحث السياسيّ البريطانيّ ديفيد ماكليلان من أنّ الأيديولوجيا هي أكثر المفاهيم مراوغة في العلوم الإنسانيّة بأكملها فهنالك إشكاليّة حقيقيةّ يواجهها العلماء المتخصّصون في العلوم الإنسانيّة بما يخصّ المصطلحات والمفاهيم ودلالاتها. فالمفاهيم في هذه العلوم تخضع لنسبيّة المنظور الفرديّ والاجتماعيّ، وهو ما نلاحظه في الأيّام الأخيرة من محاولات لصبغ الإصلاحات القضائيّة التي يريدها اليمين والليكود وبنيامين نتنياهو ووزير القضاء ياريف ليفين، بأنها تنفيذ للأيديولوجيّة اليمينيّة والوطنيّة اليهوديّة، بعيدًا عن وصفها بأنها إصلاحات سياسيّة ضيّقة، بل حزبيّة وشخصّية قصيرة المدى، ما يعني أمرين: أولهما أن الأيديولوجيّة لم تعد حاجة قائمة بحدّ ذاتها نقيّة وصافية، بل إنها تهدف إلى الحفاظ على نظام سياسيّ، أو اجتماعيّ بعينه، أو تعديله أو اقتلاعه أو إعادة بنائه. ، أي أن الأيديولوجيا في حالة الحكومة الحاليّة أصبحت وسيلة لتبرير القضايا والنشاطات السياسيّة، وأحد المبرّرات لإضفاء الشّرعيّة والإذعان، فالأيديولوجيا تبرّر الطريقة التي تُنظّم بها السلطة وكيفيّة توزيعها، وهو أمر خطير في الحكومة الحالية فالأيديولوجيات التي تتستّر الحكومة وراءها تتراوح بين الحقّ الإلهي الذي يستند إلى التوراة ويؤمن بأنها الدستور الذي يجب تطبيقه في البلاد بكلّ ما يعنيه ذلك من انتقاص من قيمة وحقوق غير اليهود، كما تريد أحزاب الصهيونيّة المتديّنة والمتديّنين الحريديم، وبين إرادة الشعب، وهي ما يتغنّى به الليكود متذرّعًا بأن الأغلبيّة الائتلافيّة التي حصل عليها تخوّله صلاحية تحويل البرلمان إلى سلطة تشرّع من القوانين ما تريد، ومتى أرادت وكيفما أرادت أي " مشرع فوقيّ خارق غير خاضع للرقابة"، كما قال النائب سمحا روطمان في أقرب مرحلة من الدكتاتوريّة أو البرلمان الكوريّ الشماليّ الذي لا معارضة فيه، أو لا وزن لها حتى إن وُجِدت هناك ،فالائتلاف الحاكم الحاليّ يريد الأيديولوجيا غطاءً وحجّة للتأكيد أنّ موقعه ومواقفه الجامحة والمسيطرة والمتسلّطة إنما تعكس بنظره نوعًا معيّنًا من العدالة، شأنه في ذلك شأن الكثير من الحكومات، أو أنظمة الحكم التي تدّعي الديمقراطيّة، والتي تعمد إلى تبرير شرعيّتها عن طريق الأيديولوجيا، وإلهاء الناس بزركشات أيديولوجيّة بدلًا من الجوهر، وهو تمامًا ما يقوم به من يمكن اعتباره أول وأكثر من يشعل نار التوتر والصدام في هذه الحكومة، وهو الوزير إيتمار بن غفير، الذي أشغل الرأي العام بإصداره أوامر بإغلاق مخابز الأسرى الفلسطينيّين، في سجني ريمون وكتسيعوت، ضمن سياساته ومواقفه التي تتمثّل في حرمان الفلسطينيين المسجونين في إسرائيل من التسهيلات والمزايا التي يمكن أن يحرمها القانون، وبالتأكيد حرمانهم من الحقوق التي يتمتّعون بها، سعيًا منه إلى كسب إعلامي قصير المدى، أي الانشغال بإخماد نيران أفران الخبز في السجون، ولكن بالمقابل العمل دون كلل على إشعال النار في شرقيّ القدس والحرم القدسيّ الشريف والضفة الغربيّة، والسعي إلى ذلك في منطقة الخان الأحمر، ومنطقة النقب والمدن المختلطة.
"إلى دولة عالم ثالث"
هكذا هي إسرائيل اليوم، تعيش واقعًا سياسيًّا وقضائيًّا وأمنيًّا فوضويًّا مركّبًا ومعقّدًا لا يمكن لأيّ منّا أن يدرك، أو يتنبّأ بكيفيّة نهايتها، أو الحال الذي ستكون عليه إسرائيل عند نهاية حالة الفوضى المقصودة التي تعيشها بسبب مقترحات تسدل الستار على فصل السلطات، ودور الجهاز القضائيّ وحقوق الإنسان، وتضع على كفّ عفريت الأوضاع الاقتصاديّة والاستثمارات الأجنبيّة بمئات المليارات ناهيك عن أنها حالة تُدار فيها كافّة الشؤون الأمنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والإعلاميّة، عبر تسلّط جهة واحدة عليها، ودوس حقوق ومواقف وآراء الغير، ناهيك عن تأثيرات ذلك الاجتماعيّة والطائفيّة، والتي أوصلت إسرائيل اليوم إلى أقرب نقطة من العصيان المدنيّ في أحسن الأحوال إيمانًا ممّن يدعو إليه بأن العبر التاريخيّة تؤكّد أن العصيان المدنيّ والنضال المدنيّ السلميّ، كما فعل المهاتما غاندي في الهند ينتصر على العسكر والقوّة ، أو الاقتتال الداخليّ في أسوا الحالات والتسّبب في هروب ونزوح الأدمغة والاستثمارات وتحويل التعليم الأكاديميّ ودراسة المواضيع العلميّة إلى سلعة غير مطلوبة في أوساط واسعة تشكّل اليوم نحو 40% من مواطني الدولة، وهم المتديّنون والحريديم وسط تزايد أعدادهم والمسّ بميزانيّات التعليم والعمل وتغليب "دعم الطبقات الفقيرة ماديًّا بدلًا من تمكينها اقتصاديًّا"، أي منحهم السمك بدلًا من تعليمهم كيفيّة اصطياده، لتتحوّل إسرائيل إلى دولة عالم ثالث سياسة واقتصادًا وقضاءً وحقوق إنسان وتعليمًا تسيطر عليها جماعات دينيّة تحاول تطبيق شريعة التوراة تطبيقًا لقول الفيلسوف العربي ابن رشد "إن التجارة بالأديان هي التجارة الرابحة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل". ودولة تعيش فيها مجموعات غير مثقفة وغير منتِجة اقتصاديًّا لا يمكنها المساهمة في بناء المجتمع والدولة، أو منع انهيارها كما قال أنطون تشيخوف: " بدون شعب مثقّف ثقافة واسعة ستنهار الدولة كالبيت المشيَّد من طوب لم يحْرَق جيّدًا"، والخلاصة أن الحال اليوم في إسرائيل ينذر بالاقتراب من حالة لبنان، فهل في ذلك عبرة؟ خاّصة وأن تجارب التاريخ تؤكّد أن القادم أسوأ؟
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]