logo

مقال | المطلوب: ثورة على الكراهية، والحقد والتزمّت السياسيّ والدينيّ

بقلم : المحامي زكي كمال
03-02-2023 06:50:31 اخر تحديث: 03-02-2023 06:57:01

هي لغز واضح كما يقول الكثيرون، لكنّه رغم وضوحه هذا ما زال يشكّل حالة بحثيّة في العلوم السياسيّة تتفاوت حولها المواقف والتقييمات والتأويلات، وأقصد هنا العلاقة الجليّة - الخفيّة


المحامي زكي كمال - تصوير موقع بانيت وصحيفة بانوراما

بين حالة الاستقطاب السياسيّ التي تعيشها دولة ما، دون فارق ما إذا كانت ديمقراطيّة أم لا(رغم تفاوت الحدّة والشدّة)، وبين حملات التضليل والتمويه سواء كان ذلك عبر الإعلام العاديّ، أو وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو عبر الزعماء السياسيّين أنفسهم، واقعٌ مُرتبط بنشر المعلومات المُضلّلة، وتحديدًا محاولات التأثير والتلاعب بالوعي الفرديّ، وصرف الانتباه عن توجهات ما هي الحقيقيّة، واستبدالها برواية بديلة تخدم المصلحة الفرديّة، أو الحزبيّة من جهة، وتهدف من جهة أخرى إلى حشد الطاقات والأفكار المبسّطة التي تعتمد "الأبيض والأسود"، أو "نحن وهم"، وتعبئتها بأسلوب يخدم البرنامج السياسيّ الواحد، ويرفض كافّة المواقف والطروحات المخالفة أو المختلفة (من تعبير اختلاف). وليس ذلك فقط، بل تعبئة المؤيّدين عبر غلق منافذ تفكيرهم، وجعلهم لا يرون ولا يسمعون ولا يفهمون أيّ محالة للحوار والنقاش، بل يكون ردّهم عليها التخوين والترهيب والتهديد والوعيد، وكأنّ لسان حالهم يقول إن كلّ مَن لَيسَ معهم هو في الحقيقة ضدّهم، وإنّ المواقف الأخرى المخالفة لهم تفتقر إلى الشرعيّة والصدق باستثناء تلك التي يدعون إليها، في حالة نفسيّة سياسيّة اجتماعيّة تجعل الأمور أكثر تعقيدًا. وتقود الوضع السياسيّ والاجتماعيّ إلى مرحلة الغليان، ما يسهل لعبة خلط الأوراق وتزييف الحقائق، ويوفّر الأرض الخصبة للمعلومات المُضلّلة التي هي نتيجة للاستقطاب السياسيّ والدينيّ، وفي نفس الوقت أحد مسبّباته ومغذّياته ضمن حلقة مفرغة لا نهاية لها، تجعل الأفراد أكثر عرضةً وقبولًا للتضليل السياسيّ، الذي يخدم السياسيّين ويلقى انتقادات أحيانًا لكنّه يحظى ومن منطلقات المصلحة الضيّقة بشرعيّة في حالات الاستقطاب، انطلاقًا من الإيمان بأن المصالح هي التي تحكم، أو تحرّك الفعل السياسيّ، أو التحرّكات السياسيّة الداخليّة خاصّة والخارجيّة عامّة، سواء كانت مصالح شخصيّة تهمّ القائد وحده، وتخدم مصالحه وأهدافه الخفيّة أكثر من المعلنة، والحقيقيّة أكثر من تلك "المعروضة" علنًا، في أفضل تعبير وتأكيد لكون السياسة التي تقوم على المثل الأعلى الأخلاقيّ، أو على توفير وفعل "ما يجب أن يكون"، هي منشود غير موجود، بل نوع من الخيال يجلب المتاعب أكثر ممّا يجلب لها المنافع. وبالتالي يتوجّه رجال السياسة إلى التعامل مع الواقع كما هو  والتكيّف مع مقتضيّاته وشروطه، ما يمكن اختصاره بجملة واحدة انتقال الخطاب السياسيّ من المجال الأخلاقيّ النظريّ إلى خطاب خاصّ يتعلّق بما هو موجود، لا بما ينبغي أن يوجد، وفي هذا نوع من الإيجاب إذا ما تم إدراك أبعاده بشكل صحيح، والعمل بشكل يمكِّن الدولة والجهاز السياسيّ فيها والقادة السياسيّين من مواجهة الأزمات والوقوف أمام كافّة التطوّرات خاصّة تلك غير المتوقّعة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا لمنفعة مواطنيها وسعيًا إلى استقرارها، لكنّه في نفس الوقت يحمل في طيّاته الكثير من السلب، وهو الحال في معظم الأحيان والحالات، حين يستغل السياسّي ما ورد سابقًا، أي مبدأ التعامل مع الموجود لمصلحته ومنفعته فقط عبر تضليل مقصود وممنهج تسانده فيه فيالق من وسائل التواصل الاجتماعيّ، وجيوش من " الخبراء والمختصّين" الذين يملأون الاستوديوهات، وتشغل أصواتهم موجات الأثير وصفحات الصحف ومساحات مواقع الإنترنت. وتساعده مؤتمرات صحفيّة طارئة وعاجلة في ذروة ساعات البثّ التلفزيونيّ، يتمّ فيها تكرار، بل ربما اجترار شعارات وتصريحات لا تختلف عن تلك في وسائل التواصل الاجتماعيّ إلا من حيث الأسلوب ومستوى اللغة والتعبير، في سعي ممنهج ومدروس إلى إخفاء الواقع الحقيقيّ بغابات من الشعارات البرّاقة والاتهامات الحادّة، وخلق واقع افتراضيّ يتم فيه صرف النقاش وحرفِه عن الموضوع الحقيقيّ (ما يسمّيه الإعلام: تحديد جدول الاهتمام الجماهيريّ)، ونقله إلى نقاشات جانبيّة تتكرّر فيها الاتهامات المتبادلة حول الأسلوب والتعابير والمظهر الخارجيّ للاحتجاجات وليس الجوهر، والابتعاد عن الخوض في النقاش حول ما تحتاجه البلاد فعلًا لضمان استقرارها وليس ما يريده السياسيّون، وما يكرِّس مكانتهم وحكمهم وسيطرتهم من جهة، أو ما يقرّبهم وفق اعتباراتهم من العودة إلى سدّة الحكم، وهو ما تشهده العديد من الدول هذه الأيام ومنها إسرائيل، التي تعيش فيها حالة استقطاب سياسيّ واجتماعيّ وإثنيّة وطائفيّة تتراوح أوصافها بين انقسام الدولة إلى اثنتين وبين الدعوات إلى عصيان مدنيّ ضد الحكومة ومطالبات باعتقال قادة المعارضة من جهة أخرى.

"نقاش عبثيّ لا طائل منه"
ما سبق، أقصد به الحالة غير الطبيعيّة وغير الصحيّة على المدى القريب والبعيد في آنٍ واحد، والتي يدور فيها في إسرائيل، نقاش عبثيّ لا طائل منه، حول ما تسمّيه الحكومة إصلاحات في الجهاز القضائيّ هي ضرورية لضمان الفصل الصحيح والمتوازن بين السلطات الثلاث، ومنع سيطرة" الثورة القضائيّة التي لم ينتخب الجمهور أفرادها وقادتها وراسمي مسارها"، على السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، ويعتبرها المعارضون لها ورجال أعمال وأصحاب شركات ومستثمرون وغيرهم دوس للقضاء وهدم للديمقراطيّة، وتكريس كافّة السلطات التنفيذيّة والقضائيّة والتشريعيّة بهدف واحد هو الحكم. وهو نقاش برأيي يجانب الحقيقة، ويتجاوز الجوهر، ويهتم بالقشور. وأكثر من ذلك يشكّل دليل خوف وضعف، وحالة من الضياع تجعل السياسيين ينشغلون بالمظهر وليس الجوهر، وبذل الجهود الشخصيّة والماليّة والإعلاميّة والبرلمانيّة " لوضع جدول اهتمام جماهيريّ يخدمهم، ولا يخدم بلادهم، ويشكّل محاولة لإطفاء حريقٍ آنيّ بدلًا من معالجة حقيقيّة لموضع الخلل، في حالة سياسيّة مريضة، أو على الأقلّ غير صحيّة، تشبه إلى حدّ كبير ما قيل حول رجال الإعلام في كتاب "المثقّفون المزيّفون"، والذي تطرّق فيه المفكّر الفرنسيّ باسكال بونيفاس، بتوسّع، إلى ظاهرة "صناعة الكذب" في أروقة الإعلام بطرق ممنهجة، وعن استحواذ هؤلاء، المدعومين ماليًّا والموَجَّهين، أو المُدَجَّنين سياسيًّا، ، على كافّة المنابر لعرض آراء معيّنة مخطّط لها من قبل، ورغم أنه تحدّث في كتابه عن الإعلام في الحالة الفرنسيّة إلا أنه يمكن تعميم ما قاله على كافّة الدول التي يسود فيها عدم الاستقرار، وتعميمه على الحالة السياسيّة الحالية في إسرائيل، والتي انقسم فيها السياسيّون إلى ثلاثة أقسام أوّلهم القادة وواضعو السياسات، وهم من يؤمنون بتوجّهات ما ( مثلًا أن الجهاز القضائيّ يلاحق نتنياهو، ويلفق له لوائح الاتهام، أو أنه يلاحق اليمين، وأن القضاة يساريّون، وبالتالي يجب اتّخاذ كافّة الخطوات لتخليص نتنياهو من المحاكمة والسجن باعتباره هبة من الله وقائدًا لن يتكرر- كما يؤمن أنصار نتنياهو والأحزاب المتحالفة معه ). لكنّهم بدلًا من التصريح بأن ذلك هو سبب سعيهم إلى إصلاحات قضائيّة -كما اعترف ياريف ليفين وزير القضاء، حين قال إن لوائح الاتهام الثلاث بحق نتنياهو كانت محفّزًا له لتنفيذ خطّته وإصلاحاته - يختلقون الحجج والمبررات المزيّفة، لحشد الناس وراءهم، ومثلهم معارضو نتنياهو والذين يؤمن معظمهم أن إزاحة نتنياهو عن الخريطة، أو الحلبة السياسيّة الإسرائيليّة هي فرصتهم الوحيدة ربما لعشر سنوات قادمة للعودة إلى السلطة. وأن ذلك لن يتم إلا عبر محاكمته وإدانته، ولكن بدلًا من ذلك ومن مناقشة ما إذا كان التغيير يجب أن يشمل أجهزة الدولة المختلفة، وخاصّة استعمال القوّة العسكريّة والأغلبيّة للمكاسب السياسيّة، وهم يختلقون الحجج المزيّفة لحشد التأييد لمواقفهم ضد نتنياهو أو شعارهم "فقط ليس بيبي"، عبر تأليب المعارضة ضده، وتصويره وكأنه الخطر الداهم على الدولة والديمقراطيّة والمحاكم والاقتصاد والحياة الكريمة والتوجّهات العلمانيّة، وثانيهم السياسيّون المنخدعون، وهم الذين لا يدركون الحقيقة كاملة، ولا يجيدون إخفاء الحقيقة. وبالتالي يرتكبون أحيانًا أخطاء كارثيّة في تحليلاتهم وربما دون قصد، كما هو حال بعض الوزراء في حكومة نتنياهو الجديدة، والذين منذ ظهور نتائج الانتخابات أخذوا يهدّدون المعارضة والإعلام والعرب والفلسطينيين والإيرانيين وغيرهم بالويل والثبور وعظائم الأمور وسط تهديد ووعيد واضح يتمّ تغليفه بعبارات مثل أن الشعب قال كلمته وأن الحكومة الجديدة جاءت لتحكم ( وكأن كلّ الحكومات منذ إقامة إسرائيل وحتى اليوم جاءت لهدف آخر) ، وكما هو حال بعض قادة المعارضة، ومنهم الأحزاب العربيّذة والذين يكرّرون في كافّة تحليلاتهم ومقابلاتهم نفس الرواية فيتجنّبون البحث في أسباب فشلهم، وكيف كان لهم حصّة الأسد في عودة اليمين المتطرّف إلى الحكم، لفشلهم في إدارة الحملة الانتخابيّة وتمسّكهم باعتبارات " الأنا قبل نحن" ،وخوضهم حروبًا داخل المعسكر الواحد، بدلًا من توحيد قوّتهم كما فعل اليمين ويحشدون الناس بدلًا من ذلك ضد الحكومة في محاولة لصرف الانتباه عن الحقيقة وموضع الجرح ، والثالث هم المرتزقة، وهم من يدافعون عن شيء لا يؤمنون به، ولكن فقط لأن الدفاع عنه يخدم مصالحهم.

 ما سبق هو عوامل صرفت الانتباه عن الحقيقة، أو عن الموضوع الذي يجب مناقشته، والتغيير الذي يجب إحداثه، وبالتالي جعلت النقاش يدور حول الجهاز القضائيّ والسؤال حول ما إذا كان بحاجة إلى إصلاحات، أو تغييرات أو تعديلات، أو حول قوانين الأساس التي حاولت سدّ الفراغ الذي خلّفه عدم وجود دستور، وبالتالي تكرار النقاش الأزليّ حول ما إذا كانت إسرائيل بحاجة إلى دستور، وكأنه نقاش جديد ومبتكر، لكنّه في الحقيقة نقاش قديم حسمت القيادات الإسرائيليّة خاّصة تلك التي أقامت الدولة وقادتها في بداياتها، وربما حتى نهاية العقد الثالث ومنتصف العقد الرابع من عمرها ، موقفها منه وهو موقف رافض، وإن لم تقل ذلك بصراحة لكنّها أكدته فعلًا وعملًا. ولذلك، ليس لإسرائيل دستور مثل معظم الدول، رغم أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947، الذي أُقيمت إسرائيل بفضله نصّ على وضع دستور، لكن بعد إقامة إسرائيل عارض رئيس الوزراء الأول، دافيد بن غوريون، وهو علمانيّ بعيد عن الدين أراد بناء الدولة على أساس علمانيّ ذلك، ولم يضع دستورا لأسباب عديدة منها أنه سيثير معارضة أحزاب دينيّة أرثودكسية متزمّتة أرادت التوراة شريعة وقانونًا، وربّما سيمنعها من المشاركة في الحكومة ، خاصّة وأنها أحزاب نظرت شزرًا إلى القضاء وإلى إقامة المحكمة العليا عام 1948 ، وبسبب الخلاف بين العلمانيين حول ما اذا كانت الدولة يجب ان تقام وفق النهج الاشتراكيّ، أو الرأسماليّ، فضلًا عن أن وضع دستور واضح يضمن حقوق الإنسان كان من شأنه أن يمنع استمرار أنظمة الطوارئ المعمول بها في إسرائيل وهي انتدابيّة، وكان سيمنع فرض الحكم العسكريّ على المواطنين العرب حتى العام 1966، وبكلمات أخرى سيمنع أن تتحولّ الديمقراطيّة في إسرائيل إلى "ديمقراطية إثنيّة" كما هو الحال اليوم حيث تعيش إسرائيل هيمنة مجموعة إثنيّة على كلّ ما يتعلق بالرموز، والعلم، والنشيد القوميّ، والثقافة، والموارد السياسيّة والاقتصاديّة، تمنح العرب نوعًا من المساواة، لكن تبقى الدولة في الديمقراطيّة الإثنيّة منحازة إلى المجموعة المسيطرة. وهو نفس الحال بعد 1967 فالدستور كان سيمنع استمرار احتلال الضفة الغربيّة وفرض أنظمة الطوارئ والقيود على الفلسطينيّين، ومصادرة أراضيهم وغيرها من ممارسات، مع الإشارة هنا إلى ما قاله مناحيم بيغن عام 1956، ردًّا على سؤال حول عدم صياغة دستور لإسرائيل، وهو جواب فيه الكثير من الصدق والصراحة، خاصّة وأنه لم يكن بعد رئيسًا للحكومة، بل نائبًا في البرلمان عن حزب “حيروت” من يمين الخارطة السياسيّة، حين قال ما ملخصه:" لنتخيّل أننا في أثينا القديمة اليوم، عند تناول مشكلة الدستور سنجد موقفين، فإمّا موقف رجل الدولة أو الديماغوغيّ، فالديماغوغيّ طالما أنه يتمتّع بالأغلبيّة( الأحزاب العماليّة في حينه واليمين المتديّن والمتطرّف اليوم)، يريد أن يضمن لنفسه يدا حرّة في البلاد. ولا يريد أن يتخيّل أنه سيكون يومًا ما أقلية. رجل الدولة لا يريد عناصر ثابتة، إذ إنّ السلطة بالنسبةِ إليهِ كالفريسة، ولا يريد أن يتركها "كما يلمّح إلى أن المانع الأساسيّ لكتابة الدستور، مرتبط في الحزب الحاكم، والعقليّة السياسيّة والقانونيّة التي تحكمه، وبالتالي فإن الحقيقة حول أسباب عدم صياغة دستور لإسرائيل اليوم تبدو من خلال ما سبق، وهي بملخصها تجنّب لمواجهة الواقع، وحسم الأمور بين التوجّهات العلمانيّة والمتديّنة ( وهو ما منع تمرير قوانين الأساس حتى العام 1992 بسبب معارضة الأحزاب المتديّنة) وبين الطوائف المختلفة داخل المجتمع اليهوديّ وباختصار: طالما لم تحسم إسرائيل أمرها من حيث العلاقة بين الدين والدولة وحقوق الإنسان والمساواة التامّة وغير المشروطة للمواطنين العرب، وانهاء احتلال الضفة الغربية، وتحديد هوية أو طابع الدولة، وهل هي ديمقراطيّة أم يهوديّة، أو ديمقراطيّة ويهوديّة، أم يهوديّة أولًا وديمقراطية ثانيًا، أم دولة لليهود فقط، ومن حيث العلاقات بين طوائفها اليهوديّة الشرقيّة والغربيّة والتوتّرات والتنافر ما بينها، والذي يصل حدّ الكراهية، فإن صياغة الدستور تبقى حالة مستحيلة سببها هو عدم القدرة على الإجماع على المسائل الأكثر حيويّة لترتيب القضايا السياسيّة القانونيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ومن هنا فإن الخوض فيه هو نقاش عقيم، وكذلك الحديث عن تغييرات كهذه، أو تلك في الجهاز القضائيّ والتشريعات فهي كما قال مناحيم بيغن، حالة يريد السياسيّون استمرارها، لأنها تضمن سيطرتهم وتخدمهم خاصّة إذا ما كانوا في سدّة الحكم.

" حقل ألغام سياسيّ"
ما سبق يطرح السؤال الأهمّ في نظري، والذي يتجنّب الجميع الخوض فيه فهو حقل ألغام سياسيّ: ما الذي تحتاجه إسرائيل حاليًّا؟ وهل هو تغيير إلى هنا أو هناك في الجهاز القضائيّ، أو إعادة ترتيب العلاقة (لا حاجة لذلك في الحقيقة والواقع) بين السلطات الثلاث، أم تغيير طريقة اختيار القضاة والمستشارين القضائيّين، أم فقرة التغلب أم ماذا؟ وهل كتب على إسرائيل أن تعيش بين خيارين أوّلهما حكم النخبة القضائيّة، وثانيهما تدخّل السياسة والسياسيّين في القرارات والإجراءات والتعيينات القضائيّة؟ وهل يعتقد أصحاب الشأن أن عدم صياغة الدستور مهما كانت أسبابه هو قضيّة يمكن الاستعاضة عنها بقوانين أساس يمكن تغييرها وتشكّل " حيلة سياسية " تمكّن من " ترتيب الكراسي في الحكومة" عبر تعديلها للسماح بمنصب رئيس الحكومة البديل، لكونه في مصلحة حاجة سياسيّة حزبيّة آنيّة هي تشكيل حكومة نتنياهو- غانتس، ومن ثمّ إلغاء التعديل، وسن قانون يعدل قانون أساس بشكل يسمح لوزير أدين بمخالفات جنائيّة أن يعود إلى منصبه بحجّة أنه أدين وعوقب بالسجن مع وقف التنفيذ، وليس السجن الفعليّ، أو تعديل قانون يسمح لوزير بالتدخّل في الشؤون العملياتيّة للشرطة وتحديد سياساتها بدلًا من أن يقوم بذلك المستوى المهنيّ، وليس السياسيّ، أو تعديل قانون يسمح بنقل الحكم العسكريّ في الضفة الغربيّة من سلطة الجيش إلى الوزير بتسلئيل سموتريتش، أو تعديل طريقة تعيين القضاة وغيرها ، بادّعاء كاذب وهشّ أنها إصلاحات تعزّز الديمقراطيّة. والجواب الواضح والصريح والصحيح هو أن كل هذه هي ليست أمور تحتاجها إسرائيل حاليًّا لضمان استقرارها، وإعادة التوافق بين مركّبات المجتمع الإسرائيليّ، فكلها أمور ظاهريّة يمكن تغييرها مرة تلو مرة إلى ما لا نهاية. وبالتالي حان الوقت ليتحلّى الجميع بالشجاعة الأدبيّة والسياسية التي تؤكّد ما أقول، وهو أن ما تحتاجه إسرائيل اليوم خاصة هو ليس ثورة قضائيّة، بل ثورة على الكراهية والحقد والتزمّت السياسيّ والدينيّ والعنصريّ، وإلغاء القوانين التي تؤدّي إلى قضاء ظالم وأيضًا ثورة ثقافيّة وسياسيّة في آنٍ واحدٍ معًا يمكن تسميتها، أو يجب تسميتها " ثورة في ثقافة الحكم والسياسة"، وإلغاء الاحتلال وملخصها أن القوانين والتعليمات جاءت لخلق حالة من الاستقرار الداخليّ، وليس خدمة لأحزاب، أو شخصيّات، وأن قوانين الأساس لم تُخلَق (رغم أنها في نظري ليست البديل عن دستور لا يمكن تغييره، أو تجييره لخدمة سياسيين، أو أحزاب، وليس مصلحة المواطنين كلّهم والدولة عامة) ، ليتم تغييرها وتعديلها ولي عنقها وتسييسها إلا بأغلبية كبيرة جدًا ولأهداف بعيدة المدى، وبالأحرى ثورة في الثقافة السياسية تجعل الناخبين يحترمون القوانين المكتوبة ويعتبرونها شرعًا ونصًّا ملزمًا، وبمثابة اتفاق وتعهد من المنتَخَبين تجاه ناخبيهم. ولا يقدسون الأشخاص والأحزاب بل القيم والمبادئ، وبالتالي يسحبون ثقتهم من أحزاب أو مرشحين حاولوا تغيير قوانين أساس لأهداف شخصيّة قصيرة المدى، أي أن يصبح الحال في هذا السياق هنا كما في الولايات المتحدة حيث يعتبر الأمريكيّون قوانينهم الأساسيّة، أي الدستور وكأنها كتبت بأحرف من ذهب، وهي ثورة صعبة وقاسية، فالمواطن الإسرائيليّ وخاصّة اليهودي يمتهن مهنة" عدم الثقة والتشكيك والبحث عن العلل في كلّ قضية " خاصّة على ضوء تصرّفات زعمائه ومخالفاتهم وقضايا الفساد التي تورّطوا بها. ولذلك، فهو لا يثق بالمؤسّسات الرسميّة السياسيّة والقضائيّة والاقتصاديّة كالكنيست والحكومة والمحاكم والشرطة والمصارف والمؤسّسات الرسميّة الأخرى ( ثقة المواطن الإسرائيليّ بالبرلمان والحكومة وأعضائهم لا تزيد عن 20 بالمئة) ، ومن هنا تأتي اللهفة إلى "زعيم قويّ" لا يعمل حسابًا ولا يكترث بالبرلمان، أو الإعلام أو المحاكم، أو بالرأي العام ( نفس الرأي العام الذي يريده قويًّا في تناقض داخليّ غريب ومخيف)، وهو ما يفتح الباب أمام الدمج الخطير بين المواقف اليمينيّة التي تنادي بالتشدّد السياسيّ وبين تلك المتدينة التي تدعو إلى دولة شريعة، أو دولة لليهود فقط يكون الأغيار فيها رعايا، لا يحقّ لهم ما يحق للأغلبيّة، ولا يجب منحهم الحقوق والمساواة، وبالتالي لا مكان ولا حاجة لتلك المؤسّسات والتشريعات التي تضمن المساواة " فأقوال الرب موجودة في التوراة وهي ملزمة" ، وهنا السؤال : هل يدرك السياسيون والمواطنون في إسرائيل أن " الغير والمختلف والمناوئ والمعارض" له الحقّ مثلهم تمامًا في التعبير عن الرأي وحريّة التفكير والمساواة ؟ والجواب هو لا، فمن ليس معي هو ضدي، ومن لا يفكّر تمامًا مثلي هو عدوي يجب حرمانه من الحقوق وإقصاءه، وتعريفه على أنه مارق وخائن وغير مخلص.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التاريخ يعيد نفسه، فهذه الحكومة ستلجأ إلى التصعيد العسكريّ، أو خلق الظروف لحرب، لكي تعيد اللحمة بين أطياف المجتمع اليهوديّ خاصّةً، وأن ما يجمعه منذ إقامة الدولة هو الخطر الأمنيّ، وعليه ليس بالصدفة التصعيد في استعمال القوة العسكريّة على الكثير من الجبهات، رغم أن إسرائيل ليست في خطر بتاتًا، دون أن يفطن أحد إلى هذا الاستخدام السياسيّ للتصعيد والعسكر، في إثبات لصحة قول الفيلسوف فريدريك نيتشة "بأن وجود الرأس في الجسد حقيقة ثابتة، لكن وجود العقل داخل الرأس تلك مسألة فيها نقاش".

وختامًا، من المعروف في القضاء، أو القانون الجنائيّ وجود مركّبين اثنين في كلّ عمل سيّء أو جنائي هما النية السيئة والعمل السيّء، أي لا عمل سيّء إذا لم تكن النوايا سيّئة. ومن هنا السؤال الحقيقيّ حول الاستقطاب الدائر اليوم والمتعلّق بالإصلاحات القضائيّة وفق قاموس الائتلاف، أو " التخريبات القضائيّة وفق قاموس المعارضة: هل النوايا سليمة وإيجابيّة، وهل هي لمصلحة الدولة، ولهدف سامٍ يتطلّبها أم لا؟ والجواب عن هذا السؤال واضح، وبالتالي فإنّ النقاش يجب أن لا يبقى حولها، فهي واضحة لا تضمن الإجابات عليها أيّ نوعٍ من الاستقرار فهو نقاش حول تأويل الوضع الحالي، وتضليل متعمد حول الموجود، بل يجب أن يتعدّى ذلك إلى النقاش الواعيّ والصريح حول المطلوب حقًّا. وهو نقاش صعب يستوجب الشجاعة السياسيّة من كافّة الأطراف والشجاعة والنزاهة الإعلاميّة، وكلّها مفقودة لم تعد موجودة!!!

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]