المحامي يحيى دهامشة - رئيس المكتب السياسيّ للحركة الإسلاميّة والأمين العام للقائمة العربيّة الموحّدة
وانتهاءً بجدليّة هيغل. في هذه المقالة وقبل الانتقال إلى المرحلة القادمة من عرض تطوّر حركات اليسار الاشتراكيّ في القرن العشرين، سألخّص بشكل مختصر كيف انقسمت الاشتراكيّة في القرن الماضي من حيث التّيارات الفكريّة الرئيسيّة، بعد أن أخذت دورها من خلال تلامذة هيغل. كما سأتطرق- بشكل محدود جدًا- لما يخصّ شرقنا الإسلاميّ.
انقسم تلامذة هيغل إلى قسمين أساسيّين، القدماء والجدد. أمّا القدماء فكانوا من أهمّ مَن أنتج فيما بعد الاشتراكيّة اليمينيّة، والتي خرّجت للبشريّة النّظام النّازيّ في ألمانيا والفاشيّة بشكلٍ عام. أمّا التلامذة المتأخّرون، وأبرزهم ماركس، فقد أسّس لما يُسمّى اليسار الاشتراكيّ فيما بعد. كلا الطرفين اعتمد التّاريخانيّة والجدليّة كأدوات مهمّة لرصد الواقع وتحليله والتّنظير لما يجب فعله. وكلا الطرفين أدّى- كلٌّ في طريقه- إلى بناء توجّهات فكريّة أسّست لبناء أنظمة شموليّة متغوّلة بشكل رهيب في حياة الفرد من أجل بناء المجتمع المثاليّ.
الاشتراكيّة اليمينيّة
اعتمدت الاشتراكيّة اليمينيّة التّاريخانيّة والجدليّة من أجل تفسير التّاريخ البشريّ كحالة صراع بين قوى متناقضة، معبّرين عن هذه الحركة، من خلال ما سمّي بالداروينيّة الاجتماعيّة، على أنّها صراع بين أعراق، وأنّ العرق الآريّ هو العرق المتفوّق. وداخل هذا العرق سينشأ، عن طريق صراع المتناقضات، العرقُ المثاليّ الذي سيسيطر في المستقبل. وتجب تهيئة المجتمع والدولة لتقبّل ذلك.
مِن هنا سرّ نظرتهم العنصريّة لباقي الشّعوب والإيمان بتفوّقهم العرقيّ على الشّعوب الأخرى.
الاشتراكيّة اليساريّة
وهي أكثر ما أخذ من حيّز في مقالاتي السّابقة، فقد نالت حظًا أكبر من الأولى، وسيطرت في العديد من الدول، وما زال هذا الفكر حاضرًا إلى يومنا.
نظرت الاشتراكيّة اليساريّة إلى مسار التّاريخ كصراع بين طبقات، أو بين مسحوقين وانتهازيّين. وفي أوج الثّورة الصّناعية اختزلوا الصّراع على أنّه بين طبقة العمّال (البروليتاريا)، ورؤوس الأموال. ورأوا أنّ في نهاية هذا الصّراع، ستنتصر البروليتاريا على رأس المال، وستحكم، وفق ما يسمّى بديكتاتوريّة البروليتاريا. فنادت الحركات اليساريّة الاشتراكيّة إلى ضرورة تهيئة الظّروف لذلك، أو التّسريع بهذا القدوم، ومن خلالها أيضًا الأنظمة اليساريّة التي حكمت، كما الأنظمة الفاشيّة، سعت للسّيطرة على كلّ مفاصل الدّولة والتغوّل المباشر في حياة الفرد، من أجل بناء المجتمع المثاليّ الذي يناسب المرحلة القادمة.
الاشتراكيّة الإسلاميّة
ترددت قبل أن أكتب هذا المقطع خلال هذه المقالات، هل هنا مكانه المناسب؟ وهل ينبغي أن يُكتب في هذا الإطار من المقالات، ولكنّي وجدت أنّه من الضّرورة أن أذكر أيضًا هذا الموضوع ولو باختصار، رغم أنّه يحتاج إلى سلسلة مقالات، بل إلى بحث منفرد ليُبَيّن على وجهه الصحيح وكما ينبغي، وذلك لنتذكّر جيّدًا ونحذر من مآلات هذا الفكر، وليعتبر أبناء الحركة الإسلاميّة والقائمة العربيّة الموحّدة في الدّاخل، من هذه المنزلقات الخطيرة.
نعم، لقد أثّر الفكر الاشتراكيّ، وفلسفة هيغل بالذّات، على الحركات الإسلاميّة منذ العقود الأولى للقرن العشرين. ويبدو أن الأمر كان طبيعيًّا في حينه. ففي وقت كانت الاشتراكيّة تعيش هوس التّخطيط، وزعم القدرة على بناء المجتمعات البشريّة، أو قل، بناء الأفراد، ليكونوا ملائمين للمجتمعات المثاليّة التي يبغونها، كما كانت في طريقها لبناء أنظمة لدول عظمى كالاتحاد السوفياتيّ وألمانيا القوميّة الاشتراكيّة، تزامن الأمر مع انهيار الخلافة الإسلاميّة، التي بقيت رمزًا على مدى أربعة عشر قرنًا. فكانت ضربة معنويّة قويّة للشرق الإسلاميّ. ومن خلال مفكّري تيّارات التّجديد نشأت الأفكار التي تتوق لإعادة الأمجاد، وبناء العظمة، لتأخذ الأمّة الإسلاميّة مكانها وتتصدّر مشهد التّاريخ.
وبينما غزت الأفكار اليساريّة الاشتراكيّة بشكلها الأوروبيّ شرقنا من خلال الأحزاب الماركسيّة والقوميّة العربيّة، تمّت في المقابل "أسلمة" هذه الأفكار لتلائم الحركات الإسلاميّة، فاعتمدت حركات إسلاميّة لها مكانتها ومركزها، هذه الأفكار وأعادت إنتاجها. وعندما أقول هذه الأفكار، أعني بشكل واضح، الجدليّة الهيغليّة والتّاريخانيّة.
فمن خلال التّاريخانيّة، تمّ بناء منظومة فكريّة تُنَظّر لاقتراب نهاية التّاريخ، ووُظّف القرآن الكريم والأحاديث النّبويّة الشّريفة لادّعاء معرفة مآلات التّاريخ من خلالها.
وكما اعتمدت التّاريخانيّة الهيغليّة في أوروبا الخلط بين الفيزياء وعلم الأحياء في زعم قراءة حركة التّاريخ ومآلاته بشكل علميّ، كما بيّنّا في المقالات السّابقة، اعتمد المنظّرون الإسلاميّون القرآن والأحاديث لادّعاء معرفة التّسلسل التّاريخيّ المستقبليّ، خصوصًا بعد قيام دولة إسرائيل، فأعيد تفسير بداية سورة الإسراء مثلًا ليلائم الوضع الجديد، وتمّ توظيف الأحاديث الشّريفة، تحديدًا التي تتحدّث عن بني إسرائيل أو اليهود والعلاقة معهم، ليدّعى بأنّ هذه أخبار على وشك أن تتحقّق في زماننا.
فكما عبّرت التّاريخانيّة في أوروبا عن التّاريخ كصراع بين أعراق أو بين طبقات، عبّر التّاريخانيّون الإسلاميّون عن هذا الصّراع وحركة التّاريخ من خلال مصطلحات إسلاميّة تمّ توظيفها لخدمة مشروعهم، كصراع الحقّ والباطل، ومفاهيم الولاء والبراء. وكما التّاريخانيّة في أوروبا، سعت هذه الحركات إلى تذويب الفرد في سبيل الجماعة. فكما كانت الدّول والأقوام كائنات عضويّة عند هيغل، يذوب فيها الفرد في سبيل المجتمع المثاليّ المنظور، غدت هذه الجماعات كائنات عضويّة تسعى لإقامة الدّولة المثاليّة التي يصبو إليها الشّرق الإسلاميّ، معتقدين أنّ بهذه الطّريقة تتمّ إعادة بناء دولة الخلافة الرّاشدة، موظّفين أيضًا الأحاديث الشّريفة بهذا الخصوص من حيث إسقاطها على الواقع. وتمّ بناء نظريّات شموليّة كاملة، حول شكل الدّولة الإسلاميّة ونظامها وكيف يجب أن تكون وماذا يجب أن تحقّق في أهدافها، بل وبعضهم صرّح بشكل واضح، أنّ هذه الدّولة شبيهة إلى حدٍّ ما بالدّول الفاشيّة والشّيوعيّة، كما أنّ هدف هذه الدّولة إقامة نظام "العدالة الاجتماعيّة" في العالم. وهذا ويا للدّهشة! نفس الهدف الذي تدّعيه أحزاب اليسار الاشتراكيّ!.
بلغ هذا الفكر أوجه في ثمانينيّات القرن العشرين، بعد الثّورة الإسلاميّة في إيران وبعد انتصارات الثّوّار الأفغان على السّوفييت. فأصبح هناك شعور دافق بأنّ نبوءاتٍ توشك أن تتحقّق. بل بلغ في البعض الإقرار في مراحل معيّنة عن مواعيد محدّدة بتحقّق أمور محدّدة، كزوال إسرائيل مثلًا في عام 2022. وانتظروا زوالها، كما كان ينتظر الماركسيّون لحظة ثورة البروليتاريا التي لم تأت. وبعدم زوالها بدأوا باختراع التّبريرات، كما اخترع قبلهم الماركسيّون التّبريرات لعدم تحقّق نبوءاتهم. ولم يستوعبوا إلى اليوم، أنّ مشروعهم هذا الذي يظنّون بأنّه "مشروع إسلاميّ" صرف، هو في الحقيقة مشروع "أسلمة" أفكار هيغل لا أكثر.
ليست صدفةً أنْ حافَظ مؤسّسُ الحركة الإسلامية في الدّاخل، الشّيخ عبدالله نمر درويش- رحمه الله تعالى- على استقلاليّة الحركة الإسلاميّة، وكان يولي الأمر أهميّة كبيرة، كي لا تكون الحركة الإسلاميّة امتدادًا لتنظيمات أخرى، وأن تبقى مرجعيّتها من داخلها مستقلة برأيها الشّرعيّ والفكريّ والتّنظيميّ، وبتصوّري أنّه كان يعلم- رحمه الله- مآلات هذه الأفكار، وخطورتها على الحركة الإسلاميّة في الدّاخل وعلى المجتمع العربيّ بشكل عام.