المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت
أي بما فيه وليس بمدّته، لكنّ الوصف هذه المرة يصبّ في خانة السلب وليس خانة الإيجاب، فهي استطاعت، وهناك من يقول ولديه من الأدلّة ما يكفي، أنها تعمّدت ارتكاب كافّة الأخطاء الممكنة، أو الاصطدام بكافّة العثرات، أو إثارة كافّة النعرات واستنهاض الهمم، وأهمّ من ذلك المشاعر والغرائز في أوساط مؤيّديها، في تعبير واضح، أو انعكاس تامّ للتعريف السياسيّ لمصطلح كانت وزيرة الخارجية الأمريكيّة السابقة كوندوليزا رايس قد جعلته منارة لسياسات الولايات المتحدة في العالم عامّة والشرق الأوسط خاصّة. وهو مصطلح الفوضى الخلّاقة Constructive Chaos أو الفوضى البنّاءة، وهي حالة سياسيّة أو إنسانيّة يتوقّع مؤيّدوها أن تكون الأوضاع والأمور مريحة بعد مرحلة فوضى متعمّدة الإحداث. ويعتقد أصحاب وأنصار الفوضى الخلاقة بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار سوف يؤدّي حتمًا إلى بناء نظام سياسيّ جديد، يوفّر الأمن والازدهار والحريّة، (كما قال وزير الخارجيّة الأسبق هنري كيسينجر: بعد الحرب والتصعيد يأتي السلام والهدوء) غير أنّه عادة ما تكون لها أهداف أخرى تصبّ في مصلحة من يقوم على إحداثها، أي أنها خلقٌ متعمَّد لفوضى بقصد الوصول إلى موقف، أو واقع سياسيّ يريده الطرف المُبادر إلى الفوضى، ومن هنا فإنها أقرب إلى مفهوم "الإدارة بالأزمات" المتعارف عليه في هذا المضمار، أي افتعال الأزمة، ثمّ العمل على إدارتها بالتدريج لبلوغ مصالح محدّدة سلفًا، عبر تفكيك تدريجيّ للمنظومة المعنيّة بطريقة تتيح الولوج إلى مكوّناتها الأساسيّة وعناصرها الصلبة والرخوة، لتقويضها جزئيًّا أو كليًّا وإعادة تشكيلها مجدّدًا بما يخدم تلك المصالح حالًا أو في المدى المنظور، علمًا أن المطّلعين على السياسة الأمريكيّة خاصّة والعالميّة عامّة، أشاروا إلى "الجذور الدينيّة" لهذا المصطلح، الذي وُجِدَ في أدبيات الماسونيّة القديمة، إذ ورد في أكثر من مرجع، كما أشار إليه الباحث الأمريكي دان براون، مع الإشارة بشكل خاصّ إلى أنّه كان من بين أشدّ مؤيّديه القس، ديڤ فلمنك، البارز في كنيسة المجتمع المسيحيّ اليمينيّة المؤيّدة لإٍسرائيل الذي اعتاد تكرار تأييد لهذا التوجه معلّلًا ذلك بمنطلقات دينيّة قائلًا إنّ "الإنجيل يؤكّد أنّ الكون خُلق من فوضى، وأنّ الرب قد اختار الفوضى ليخلق منها الكون، وعلى الرغم من عدم معرفتنا لكيفيّة هذا الأمر إلا أنّنا متيقنون أنّ الفوضى كانت خطوة مهمّة في عمليّة الخلق". وهو قول توازيه نصوص توراتيّة يقدّسها قادة الأحزاب الدينيّة المتزمّتة والصهيونيّة الدينيّة المشاركة في الحكومة الحاليّة، وتريد بعضها تطبيق تعليمات الشريعة اليهوديّة، إذ ورد في سفر التكوين القول:" وكانت الأرض خربة وخالية (فوضى - وفق الترجمة الصحيحة من اللغة العبريّة)، وعلى وجه الغمر ظلمة". وهذا ما يحدث اليوم، بل من اليوم الأول لنشأة وتشكيل الحكومة التي "استطاعت" خلال الشهر الأول من عمرها أن تصطدم على الصعيد الخارجيّ بالأردن ( حاول نتنياهو تخفيف التوتّر عبر زيارة للأردن يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع، ولقاء العاهل الأردنيّ الملك عبد الله الثاني)، والإمارات العربيّة المتحدة والسعوديّة والدول الأوروبيّة، وأكثر من سبعين دولة في العالم (رفضت العقوبات المفروضة على السلطة الفلسطينيّة من قبل إسرائيل)، والولايات المتحدة( زيارة ايتمار بن غفير للمسجد الأقصى)، وعلى الصعيد الداخليّ اصطدمت الحكومة بالمعارضة وأصحاب شركات الهايتك والجهاز القضائيّ، وفي مقدّمته محكمة العدل العليا التي أقرّت بمنع الوزير أرييه درعي من استلام منصب وزارة، لإدانته بتهم جنائيّة ولخرقه تعهّدات واضحة أمام المحكمة، وبالمواطنين العرب في منطقة النقب ( قضية التحريش)، وبالمستوطنين (هدم البؤرة الاستيطانيّة على اسم الحاخام حاييم دروكمان)، وطلاب الجامعات والأطباء والممرضين والعلمانيّين (محاولة وقف النشاطات الفنيّة والثقافيّة والمواصلات أيّام السبت لدوافع شرعيّة يهوديّة)، وبالصحافيين على ضوء رغبة وزير الاتصالات بإغلاق هيئة البث الرسميّة، وبالمعلّمين والمستشارة القضائيّة للحكومة على خلفيّة اتهامها بأنها تنظر في إمكانيّة إعلان نتنياهو غير أهلٍ بشكّل مؤقّت لرئاسة الحكومة، بسبب ملفّاته الجنائيّة وتدخّلاته في الأمور القضائيّة خلافًا لتعّهداته القانونيّة، وغيرهم وغيرهم، ما خلق الفوضى العارمة التي يعتبرها البعض دليل ضعف لرئيس الوزراء وخضوعه لشركاء الليكود في الحكومة الذين يسيِّرونه وفق أهوائهم (الذيل الذي يهزّ كلبه The Tail Wags The Dog)، بينما يعتبره آخرون دليلًا على أن كلّ طرف من أطراف هذه الحكومة يغنّي على ليلاه، بل أخطر من ذلك، فكل رئيس حزب من أحزاب الائتلاف وخاصّة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش يتصرّف وكأنه ما زال في المعارضة، ويتحدّث باسم حزبه فقط، مقابل من يؤكّد أن نتنياهو المحنك سياسيًّا إنما يريد هذه الفوضى، بل يبادر إليها لزيادة دعم مؤيّديه له، وتعزيز مواقفهم من أن " المحاكم والمعارضة والمواطنين العرب والإعلام ضد حكومة اليمين الخالصة، وأنهم يرفضون الحسم الديمقراطيّ الجماهيريّ، أي نتيجة الانتخابات". في محاولة واضحة لصرف الانتباه عن الأهداف الحقيقيّة لما تسمّيه الحكومة "إصلاحات قضائيّة" وتغليفها بتبريرات مقنعة تتعمّد تجاهل الهدف الحقيقيّ، وهو إنقاذ رئيس الوزراء من العقوبات القانونيّة في لوائح الاتهام التي تتم محاكمته بسببها وتضمن تهم تلقّي الرشوة.
"الاحتجاجات ليست فقط سياسيّة"
اللافت للانتباه والاهتمام أن الاحتجاجات ليست فقط سياسيّة، وبالتالي لا يمكن للحكومة الجديدة ورئيسها وجيش المغردين نيابة عنه في وسائل التواصل الاجتماعيّ مدفوعة الأجر خاصّة، أن يصبغوها بصبغة اليسار، بل إن الاحتجاجات هي ردود فعل لجهات مختلفة، تتفاوت مواقفها السياسيّة والاقتصاديّة والأيديولوجيّة، لكن كل منها تعتبر نفسها متضرّرة بشكل مباشر من الإصلاحات القضائيّة التي يريدها بنيامين نتنياهو، فشركات الهايتك ومستخدموها هي ردّ القطاع الصناعيّ الرائد في إسرائيل على تغييرات قضائيّة تعني منح الحكومة، أي السلطة التنفيذيّة سلطات غير محدودة لاتخاذ قرارات وإصدار تشريعات تحدّ من حريّات الشركات والأفراد، وتشكّل بالتالي رادعًا للمستثمرين الأجانب الذين يستثمرون المليارات سنويًّا في شركات التقنيات المتقدّمة في إسرائيل، وستمنع بيع شركات إسرائيليّة في مجال الهايتك لشركات كبرى في العالم، كما ستمنع استثمارات أجنبيّة في مرافق اقتصاديّة (استثمارات الصين مثلًا في بناء الموانئ). أمّا احتجاجات الأطباء والممرضات فمصدرها التشريعات التي يريدها حزب "عوتسماه يهوديت- القوة اليهوديّة" اليمينيّ المتطرّف برئاسة إيتمار بن غفير والمتعلّقة بتمكين الأطباء من "رفض تقديم العلاج لمن يختلفون معه في المبدأ والميول الدينيّة والشرعيّة (العرب مثلًا أو المثليين)، بينما احتجاجات المعلمين هي الردّ على "فرمانات" وزير التربية الجديد يوآف كيش الذي يريد إلزامهم بعدم الخوض في القضايا السياسيّة إلا بشكل متوازن، ودون التعبير عن رأيهم ومواقفهم (سياسة كمّ الأفواه)، وهو نفس منطلق الصحافيّين والإعلاميّين الذين يدركون أن الحكومة الجديدة تريدهم صاغرين خائفين يضربون بسوط السلطان وأفراد أسرته وأعضاء حكومته. لكنّ الردّ الأهمّ في هذا السياق، أي سياق الاحتجاجات على ما تسمّيه الحكومة إصلاحات قضائيّة ضروريّة وتسميه المعارضة عمليّة هدم للديمقراطيّة، كان قرار محكمة العدل العليا حول تعيين أرييه درعي رئيس حركة" شاس" المتدينة العضو في الائتلاف، الذي شكَّل، في رأيي، الردّ الواضح والصريح لها على الخطوات التي يتّخذها وزير القضاء ياريف ليفين ومعه عضو الكنيست سمحا روطمان رئيس لجنة القانون والدستور والقضاء في الكنيست (البرلمان الإسرائيليّ) ، تنفيذًا لاتفاقيّات ائتلافيّة أسفرت عن تشكيل حكومة اليمين التامّة والنقيّة. وهو ردّ يجب الالتفات إلى ردود أعضاء الحكومة عليه، وهي التي تراوحت بين الدعوة الصريحة إلى رفضه، بل عدم الانصياع له واعتباره قرارًا جاء لأسباب سياسيّة معادية لليمين ونتنياهو، وبين اعتباره تجاوزًا للحدود وتدخّلًا سافرًا في عمل السلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذيّة يجب العمل على إصلاحه ووضع حدٍّ له عبر تشريعات ربما تفرض القيود على المحاكم، وتستخدم لجنة تعيين القضاة الوسيلة الأولى لذلك عبر تغيير تركيبتها، ومنح السياسيّين سيطرة واسعة على تعيينهم، وبالتالي تمنحهم السيطرة على قرارات القضاة وكذلك قرار المستشارين القضائيّين في الوزارات المختلفة، ناهيك عن توقيت القرار الذي جاء بعد أسبوع من الخطاب الشهير لرئيسة محكمة العدل العليا القاضية إستير حايوت، والذي حذَّرت خلاله من المسّ باستقلاليّة القضاء وحصول الحكومة ورئيسها على السيطرة التامّة على كافّة الصلاحيات. وهو قرار أعاد إلى الأذهان بملابساته وما سبقه وخاصّة إصرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزرائه على عدم اتّباع أبسط القواعد القانونيّة المتعلّقة بنقاوة اليدين وخاصّة عدم التوجّه إلى رئيس لجنة الانتخابات المركزيّة، للحصول على إقراره لترشيح أرييه درعي. وهو ما كان من شأنه أن يمنع اضطرار المحكمة العليا للبتّ في هذا الشأن، وما كان سيمنع استمرار المناكفات بين الطرفين، خاصّة حول كون خطوات ياريف ليفين تغييرًا وليس تدميرًا.
قرار المحكمة وموقفه من قضية تغيّر التشريعات وخاصّة تلك التي يتمّ تسميتها قوانين الأساس، وما جاء فيه من انتقادات جعلت عودة درعي إلى كرسي الوزير أو حتى كرسي القائم بأعمال رئيس الحكومة، أو رئيس الوزراء البديل أمرًا بعيد المنال، خاصّة وأنّها تزامنت مع رسالة تهديد وتحذير أرسلها قادة الائتلاف الحكوميّ للمستشارة القضائيّة للحكومة المحامية طالي بهراف ميارا، اتهموها فيها، في الحدّ الأدنى، بمحاولة إقصاء رئيس حكومة من اليمين، أو تنفيذ انقلاب قضائيّ، وذلك استنادًا إلى "معلومات لم تكن أبدًا موثوقة"، بل استندت إلى معلومات، أو إشاعات أثارها واحد من أقرب المقربين إلى بنيامين نتنياهو، ويعمل في قناة تلفزيونيّة تقدّس نتنياهو وتدافع عنه، جاء فيها أن المستشارة القضائيّة بحثت مع طاقم مساعديها إمكانيّة الإعلان أن نتنياهو غير أهلٍ لرئاسة الحكومة في الوقت الحالي بسبب تناقض مصالحه بسبب محاكمته، أعادت إلى الواجهة الأسئلة الحقيقيّة والصريحة حول الخطوات التي ينفذها ياريف ليفين ويسمّيها إصلاحات، وما إذا كانت الخطوات تهدف إلى ادخال إصلاحات لا خلاف حول كونها ضرورية على جهاز القضاء تضمن تنجيع عمله وتسريعه، وتخفيف وطأة انتظار انتهاء الإجراءات، وربما وضع أسس أكثر وضوحًا، وربما أكثر اتزانًا للعلاقة بين السلطات الثلاث في النظام الديمقراطيّ، وهي التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، ومنع حصول أيّ منها على صلاحيّات تقربها من الدكتاتوريّة، أو دكتاتوريّة الأغلبيّة ودوس حقوق الأقليّات، أي إصلاحات تضمن استقلاليّة القضاء وإمكانيّة أن يراقب تصرّف كافّة الجهات، ليضمن العدل والحقّ خاصّة الضعفاء والأقليّات من جهة، وتمنح السلطة التشريعيّة إمكانيّة التشريع العادي، وتحديد السياسات. وتمكّن الحكومة، وهي التي تسيطر على الكنيست خاصّة بعد القانون النرويجيّ، من تأدية مهامّها. وهو نقاش لا تهتمّ الغالبيّة العظمى من المواطنين بتفاصيله خاصّة من مؤيّدي الحكومة انطلاقًا من عداء للجهاز القضائيّ بسبب مواقفه التي لا تتماشى ومواقف اليمين خاصّة المتعلّقة بالعرب والفلسطينيّين والفساد السياسيّ والماليّ وغير ذلك، وبالتالي لا بدّ من توضيحات، خاصّة وأن ياريف ليفين يتحدّث عن إصلاحات على مراحل ما يثير الاعتقاد أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن القادم أسوأ، أو أنّ المخفيّ أعظم، فالوزير ليفين يتحدّث عن خطوة، أو مرحلة أولى من الإصلاحات تهدف إلى تعزيز الديمقراطيّة وتقوية القدرة على الحكم، وإعادة الثقة بالجهاز القضائيّ واستعادة التوازن في العلاقة بين السلطات الثلاث سابقة الذكر في الدولة. ولكن السؤال هنا هو هل هذه فعلًا الأهداف التي يريدها الوزير ليفين وتريدها الحكومة الحاليّة بتركيبتها الحاليّة وشخصيّات وزرائها وعلاقتهم الشائكة بالجهاز القضائيّ، وكون عدد لا بأس به منهم رهن التحقيق، أو متهمًا أو ممّن تمّت إدانتهم سابقًا ، إضافة إلى وجود وزراء يعتبرون الجهاز القضائيّ عائقًا أمام تنفيذ أجنداتهم السياسيّة والدينيّة كضمّ الضفة الغربيّة وخرق الوضع الراهن القائم في الحرم القدسيّ الشريف ، وكذلك قضية بناء النقاط الاستيطانيّة العشوائيّة وغير القانونيّة، وقضية إطلاق أيدي المستوطنين والجيش والشرطة بكلّ ما يتعلّق بتعليمات إطلاق النار، أو تعديل قانون الشرطة خدمةً للوزير الحالي ما سيحولها إلى شرطة تخدم أجندات سياسيّة وحزبيّة ضيّقة، وقضية محاولة فرض القيود على الأقلية العربيّة داخل إسرائيل عبر تشريعات وقوانين أوّلها قانون القوميّة وآخرها لا يعلمه احد، وفوق كلّ ذلك إيمان كافّة أعضاء الائتلاف من كافّة الأحزاب، وكذلك مصوّتيهم أن القضاة كلّهم (رغم أن معظم قضاة المحكمة العليا اليوم من المحافظين، بل المستوطنين والمتديّنين اليمينيّين) من أنصار اليسار المعادي لنتنياهو، وأنهم لا يريدون رؤية اليمين في سدّة الحكم، فصحيح أن الجهاز القضائيّ يحتاج إلى إصلاح بشكل يجعله يعيد النظر في تصرّفات أعضائه وخاصّة بكلّ ما يتعلّق بوتيرة المحاكمات، والمعاناة التي يعانيها الكثيرون، إضافة إلى الشعور العام بأن النيابة العامّة تغلق ملفّات تحقيق، دون إجراءات كافية وقضية العقوبات الرادعة ضد المخالفين، وعدم وضع حدٍّ لمظاهر العنف خاصّة في الوسط العربيّ، واستعادة ردع السلطات المنفذة للقانون خاصّة الشرطة في مناطق معيّنة في إسرائيل، ما يضمن التوازن بين السلطات الثلاث، وضمان إمكانيّات مراقبة كلّ من هذه السلطات للسلطات الأخرى، وضمان إدخال التغييرات لكن الواضح أن ما تريده هذه الحكومة هو ليس هذا الأمر، بل أمور أخرى وأهداف أخرى، فالإصلاحات المزعومة تتكوّن من خمس مراحل، يكفي النظر إليها حتى دون تعمّق، لنصل إلى استنتاجات أن "إصلاح" الجهاز القضائيّ هو آخر ما تريده هذه الخطوات، أو ما يرمي إليه واضعوها، فهي تتألّف من أمور تجعل الجهاز القضائيّ في نهايتها ضعيفًا خائفًا غير مستقلّ يتورّع عن دعم الضعفاء، أو وضع الإصبع على موضع الألم، بل يجعله مطية للسياسيّين بعيدًا عن ضمان قوّته ونزاهته وتعزيزه وإبقائه قويًّا. وهو ما اعتاد نتنياهو التأكيد على ضرورته حتى عام 2016 ، بل وهو موعد بداية التحقيقات الجنائيّة معه، والتي بدأت معها حربه على سلطات تطبيق وتنفيذ القانون بدءًا بالشرطة التي أبقاها بدعم وتنفيذ وزراء الأمن الداخليّ وخاصّة أمير أوحانا ( وكانت جائزته جرّاء ذلك منصب وزير العدل واليوم رئيس الكنيست) ضعيفة هزيلة دون قائد عامّ لها، وتلتها النيابة التي حاول نتنياهو بمساعدة أمير أوحانا نفسه إضعاف رئيسها وتعيين محامٍ يمينيّ يأتمر بأوامر الليكود، خلافًا لرأي المستشار القضائي للحكومة في حينه افيحاي مندلبليت، واليوم القضاة كلهم والمستشارة القضائية للحكومة ونظرائها في الوزارات المختلفة، فالمرحلة الأولى – كي لا يعتقد أحدكم خطأً إنها تجيء لتعزيز الجهاز القضائيّ وضمان ديمقراطيّته- هي تغيير تركيبة لجنة تعيين، أو اختيار القضاة وإبعاد الممثّلين الاثنين من نقابة المحامين عن صفوفها (اثنين من أصل تسعة أعضاء)، واستبدالهما باثنين من ممثّلي الائتلاف الحكوميّ، وزيادة عدد أعضائها باثنين من السياسيّين إلى أحد عشر، ما يعني منح أعضاء اللجنة من الائتلاف أغلبيّة تلقائيّة فيها، خاصّة وأنهم سيصبحون خمسة، أو ستة إذا أخذنا بالحسبان أن وزير القضاء هو رئيس اللجنة، أي أن ليفين يريد منح السياسيّين من الائتلاف الصلاحيّة المطلقة في اختيار القضاة في كافّة المحاكم بما فيها محكمة العدل العليا، ما يعني سيطرة الحكومة ورئيسها عليهم وتسييرهم وفق أهوائهم وصولًا إلى قضاة لا يرفضون للحكومة ورئيسها المتهم بتهم جنائيّة طلبًا حتى لو كان- وهذا هو المطلوب بالنسبة لليفين ونتنياهو- إلغاء لوائح الاتهام بحقّ نتنياهو، أي تحويل القضاة إلى حماة للحكومة ومدافعين عنها، بدلًا من كونهم حماة للديمقراطيّة والحق والعدل. أمّا المرحلة الثانية فهي قانون التغليب أي تمكين البرلمان بأغلبيّة 61 صوتًا من إلغاء أي قرار تتّخذه المحكمة العليا وخاصّة قراراتها حول شطب قوانين تعتبرها لا دستوريّة. وهو استمرار لجعل السياسيّين الآمر الناهي، وإحكام سيطرتهم على محكمة العدل العليا، وجعل الجهاز القضائيّ مجرّد رمز خالٍ من المضمون، وتمكين البرلمان من تشريع ما يريد وشرعنة ما يريد دون أن يخشى لومة لائم قضائيّ، فيما تنص المرحلة الثالثة على تقليص قدرة المحكمة العليا على التدخّل بكلّ ما يتعلق بالتشريعات وخاصّة إلغاء قرارات وتشريعات الكنيست ومنها قوانين الأساس ( للمعلومات فقط فإنّ محكمة العدل العليا ألغت بنودًا غير جوهريّة في قوانين الأساس، بينما تماشت مع الحكومة في قوانين أخرى منها قانون القوميّة، ومنع لم الشمل ومصادرة الأراضي للعرب في اسرائيل وفي الضفة الغربيّة وغيرها) تمامًا كما أرادت الحكومة الحاليّة أن تفعل حين عدَّلت قانون أساس الحكومة بشكل يسمح لمن أدين بمخالفة جنائيّة تحمل وصمة العار لكنّه لم يتم الحكم عليه بالسجن الفعليّ، بل السجن مع وقف التنفيذ بدلًا أو بديلًا عن الفعليّ إن شغَل منصبًا وزاريًّا، خلافًا لكلّ ما كان متّبعًا وذلك خدمة للائتلاف الحالي، وتمكين أرييه درعي من أن يصبح وزيرًا في حكومة تضرب عرض الحائط بنقاوة اليدين والنزاهة ومنع الفساد السلطويّ والشخصيّ، والرابعة هي إلغاء" سبب الإمكان أو انعدام المنطق"، ومنع القضاة من استخدامه وسيلة ومبررًا لإلغاء قرارات حكوميّة، بادّعاء أنه تدخّل في عمل الحكومة، ومنعها من تأدية مهامّها واتخاذ قرارات هي ضمن صلاحياتها كتعيين وزير متّهم، بل أدين بتهم جنائيّة، وهو ادعاء شعبويّ. فهذا السبب استخدمته المحاكم لإلغاء قرارات تمسّ بالمواطنين الضعفاء وحقوقهم، مقابل مؤسّسات رسميّة وممثّليها. وهو يلغي أي قرار يفتقر إلى المنطق والعقلانيّة ويشكّل غبنًا واضحًا، أو يتغاضى عن غبن واضح. أما المرحلة الخامسة فهو ما سيسدل الستار على استقلاليّة القضاء والمستشارين القضائيّين، ويُخضعهم لأهواء السياسيين ويمنعهم من إبداء رأيهم في قضايا تتعلّق بوزاراتهم التي يعملون فيها، ويجعلهم يخشون سطوة وزيرهم الذي يعينهم استنادًا إلى مدى إخلاصهم له ولحزبه، وبالتالي ووفق مقولة:" السلطة التي تُعَيِّن هي نفسها التي تُقيل" يمكنه فصلهم متى شاء.
"خطوات لا تمت بصلة إلى تعزيز الديمقراطيّة"
هذه الخطوات بمجملها لا تمتّ بصلة إلى تعزيز الديمقراطيّة، ولا إلى ضمان استقلاليّة القضاء وسلطة المحاكم، ولا تضع التوازنات في التعامل بين السلطات الثلاث، بل تخلق حالة تسيطر الحكومة فيها على البرلمان بسبب التركيبة الائتلافيّة وطريقة تشكيل الحكومات في إسرائيل، وتسيطر على السلطة القضائيّة. وهذه هي الدكتاتوريّة وعن هذا يقال:" إذا كانت هذه الإصلاحات تبدو بعيدة عن الديمقراطيّة، وتتحرّك خلافًا للوجهة الديمقراطيّة وأقرب إلى الدكتاتوريّة فإنها بعيدة عن الديمقراطيّة بل دكتاتوريّة"، تحرّكها حكومة غريبة الأطوار تستثمر أموالًا طائلة وجهودًا كبيرة في بناء سور واقٍ حول أعضائها خاصّة المتهمين والمدانين جنائيًّا في محاولة لمنع الاقتراب منهم، وتضمن فوقيّة اليهودي على العربيّ وتشرعن إقصاءه، بدلًا من استثمار المال والجهد في ضمان المساواة وبناء الإنسان الديمقراطيّ المنتمي إلى بلده بغضّ النظر عن انتمائه العرقيّ، ما يجعل الجميع يهتمون بدولتهم ويشعرون بالرغبة في المساهمة في بنائها والدفاع عنها، أي بناء الإنسان بدلًا من بناء الأسوار الواقية حول الحكومة ورئيسها، متناسية العبرة من بناء سور الصين، فعندما أراد الحكام الصينيّون القدامى أن يعيشوا في أَمان بنوا سور الصين العظيم، واعتقدوا بأنّه لا يوجد من يستطيع تسلّقه لشدة علوه. ولكن خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور تعرّضت الصين للحروب ثلاث مرّات، وفي كل مرّة لم تكن جحافل العدو البريّة في حاجة إلى اختراق السور، أو تسلّقه ، بل كانوا في كلّ مرة يدفعون للحارس رشوة فيضعف ويتهادن، ثمّ يدخلون عبر الباب، فقد انشغل الحكام ببناء الأسوار حول أنفسهم لتحميهم، ونسوا أن بناء الحارس الإنسان يأتي قبل بناء كلّ شيء، وهذا ما تحتاجه إسرائيل اليوم، أي حكومة تنشغل ببناء حرّاس الديمقراطيّة وحقوق الانسان والحصانة المجتمعيّة، أي بناء الإنسان بدلًا من بناء أسوار حولها، لحماية رئيسها وأعضائها ممّن يواجهون محاكمة جنائيّة، أو ممن أدينوا بمخالفات جنائيّة، وبناء انسان يشعر بالانتماء ويريد العطاء بدلًا من تكريس فوقية فئة على أخرى وإقصاء فئة خدمةً لأُخرى وفوق كلّ ذلك جهاز قضائيّ يضمن المساواة والعدالة ويصون الدولة والديمقراطيّة، ولا يشرعن مخالفات الزعماء والحكومات، وأن يلغي الظلم والقوانين الجائرة والظالمة فالحكومات- الحكام- زائلة والدول- الإنسان – هي الباقية.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]