صورة للتوضيح فقط - تصوير: iStock-fizkes
في ذلك الرعيل الذي اشتدّ ساعده، بدأها وأنجزها بعد عمليّة مخاض عسيرة معتبرًا ذلك عملًا وطنيّا على درجة عالية من الأهميّة لا بل وانتصارًا وطنيّا. عبّر عنه، عن معنى التنظيم، محمود درويش في رسالة مفتوحة طويلة لسميح القاسم على خلفيّة تأسيس اتّحاد الكتّاب العرب عام 1987 بكلمات نقتبس قليلها القليل هنا في وقفتنا الأولى، فكتب: "إعلانٌ عن انتصار ثقافة الضحيّة على ما تعرّضت له، من حروب الإلغاء والإبادة."
مرّ على هذا الكلام ستّ وثلاثون سنة، ورغم الأيقونيّة التي نعطيها لدرويش لا أعرف لماذا لا يتبنّى بعضٌ ليس قليلًا منّا اطروحاته إلّا انتقائيّا. فهل قوله الحاسم في معنى تنظيم الحراك الأدبيّ في اتّحاد هو ترفٌ انشائي غير حريّ بالتبنّي؟!
إن كان الأمر جهلًا بموقفه فهو خطأ، ولكن إن كان الانتقاء حسب الدوافع الذاتيّة والانكفاء والنكوص نحو المصلحة الشخصيّة فهذه خطيئة!
وسأعود إلى أطروحة درويش الكاملة لاحقًا!
الوقفة الثانية... الاتّحاد والتكريم والطيف الفلسطينيّ الجميل
الكلام في الوقفة الأولى هو من وحي أمسية تكريميّة برعاية الاتّحاد قلت فيها: لن أتناول في هذه التحيّة\ العجالة، أدبَ زميلنا عبد الرحيم الشيخ يوسف عضوِ لجنة المراقبة ولجنة قبول العضويّة في الاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينييّن – الكرمل48. عبدُ الرحيم الأديب سأتركه للثلّة الكبيرة من النقّاد والباحثين المتحدّثين في هذه الأمسية.
الاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل 48، هو التنظيمُ الثقافي الأكبرُ والأشملُ على ساحتنا العربيّة الثمانوأربعينيّة، هو التنظيمُ الوحيد الذي ينضوي تحت مظلّته كاملُ الطيف العربيّ الفلسطينيّ على اختلاف انتماءاتِ أفراد هذا الطيفِ الفكريّةِ والسياسيّة والاجتماعيّة، تجمعُهم الثقافةُ العربيّة الفلسطينيّة الموحَّدةُ والموحِّدة، والتي ترجمها الاتّحاد ميدانيّا جمْعيّا بمشاريع كبيرةٍ لا مجال لتعدادها في أمسيتنا هذه. ولكن يجب أن نؤكّد أنّه ما كان لمثل هكذا مشاريعَ أن تتأتّى لولا الكُثُر الذين وجدوا أماكنَهم ومكانتَهم الإبداعيّة في صفوف الفعل الميدانيّ الجمعيّ اقتفاءً لأثر الكبار في رصيدنا الثقافيّ.
الوقفة الثالثة... والانكفاء نحو ال"أنا"
حين نجح رعيلُنا الأدبيّ الأوّل وبعد ثلاثين عامًا على النكبة، بعد أن تخطّى الكثيرَ من العقباتِ الداخليّة الذاتيّة والخارجيّة الغيْريّة، حين نجح في إطلاق تنظيم الحركة الثقافيّة، لم يتوانَ أحدٌ منهم عن الانضواء تحت مظلّة التنظيم. لم يتوانَ أحد لأنّ الكلَّ وبغض النظر عن الانتماءات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، رأى أن دورَ الكاتبِ يتعدّى الإنتاجَ وفقط، يتعدّى الوعظَ وفقط، يتعدّاهما إلى العمل الميدانيّ الجمعيّ بتنظيم الحراك والحركة الثقافيّين في مواجهة التحدّيات الكبرى التي واجهنا حينها ونواجه اليومَ وأصعب؛ فكريّا وسياسيّا واجتماعيّا.
أذكر هذا لأنّنا اليومَ نعيش نكوصًا نحو ال"أنا" وعلى حساب ال"نحن". حوّلت الغالبيّةُ فينا الشهاداتِ إلى مجرّد رخص عملٍ واستغلالِ فرص تمكينٍ ذاتيّة. وفي حقلنا الإبداعيّ موضوعِ أمسيتنا هذه وفي الزخمِ التضخّمي من الأمسيات، استفحلت الأنا لدرجة أن صار كمٌّ كبير من الكتّاب وفي كلّ المجالات الكتابيّة يعتقد ويؤمن أنّه أعلى مرتبةً من التنظيم، وأنّ دورَه هو يقتصر على الكتابة وحسب "وكفى المؤمنين شرّ القتال"، وما على الناس إلّا أن يقرأوا ما يَكتب ويحاولوا أن يستفيدوا منه هو الواعظُ منبعُ الإفادةـ، وإن لم يقرأوا أو قرأت قلّتُهم ولم تفهم فا"التوك" فيهم وفيها.
الوقفة الرابعة... درويش وحمار مسّادة
كتب محمود درويش رئيس الاتّحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيّين عام 1987 لسميح القاسم في رسالة مفتوحة حملت العنوان "منذ البداية"، نشرها في اليوم السابع 5 تشرين الأوّل 1987، بمناسبة تأسيس اتّحاد الكتّاب والأهميّة الوطنيّة التي رأى محمود في ذلك، كتب:
"ليس حدثًا عاديّا، في ظروف غير عاديّة، أن تنجح أنت وإخوانُك الكتّابُ في تأسيس أوّل اتّحاد للكتاب العرب في الوطن، بعد أربعين عامًا.
أربعون عامًا؟
لا تنظر إلى الوراءِ بحزن.. لا تنظر إلى الوراء إلّا لتعرف أين وصلتْ بنا الطريق. للأعداء حساباتُهم ولنا حسابُنا. إنّ وراءنا أربعين عامًا من محاولة تهويد الأرض، واللغة، والروح.. أربعين عامًا من الصراع على البقاء أسفر، على المستوى الثقافي، عن ولادة أوّلِ اتّحاد للكتّاب الذين كانوا مرشّحين للالتحاق بما تحدّده الدبّابة من حدودٍ للهزيمة النفسيّة والأدبيّة.. فلم يُهزموا..."
"هل تتذكّر البداية؟
منذ البداية كان الصراع محتدمًا على الجبهة الثقافيّة بين مشروع التهويد، والاستلاب، والعدميّة، والتغريب.. وبين وعي الهويّة والحريّة. ومنذ البداية انتصر المتنبّي وأبو فراس الحمداني، فينا، على حاييم نحمان بيالك وجدِّه السموأل. ومنذ البداية انتصر النحل في دمنا على بعوض المستنقعات التي جفّفتها أناشيدُهم الركيكةُ التي حاولت أن تربّينا على حبّ استعبادنا، فلم نقبلْ إلّا العكسَ. إنّ عكسَ ما فيهم هو شرطُ المحافظة على هويّتنا: عرب، ولا نخجل. عرب ولا نرحل...
هل تتذكّر البداية؟
منذ البداية لم يكن نشاطُنا الثقافي يحاور نشاطَنا العلمي فقط، يعبّر عنه أو يستكملُه، بل كانت الكلمة هي الفعل، لا حدودَ بينهما، ولا حدودَ بين الجسد واللغة، وذلك ما جعل الأغنيةَ وطنًا وما جعل الوطنَ أغنية. ومنذ البداية، لم يكن نشاطُنا فرديّا إلّا في المظهر. هو النشيدُ الجماعيُّ الذي لا يزال مفتوحًا على البداية وعلى أفق الحريّة.
لذلك، فإنّ اتّحاد كتّابنا قائم، معنويّا، منذ البداية ولكن إعلانَ تأسيسه العلميّ، الآن، هو تتويجٌ لحاجاتنا الوطنيّة، في الداخل والخارج إلى بناء المؤسّسة، وإلى وحدة التمثيل الوطني على أكثر من مستوى. إنّه شكلٌ من أشكال تبلور الكيانيّة الفلسطينيّة بعد أربعين عامًا من النكبة ومقاومة الاحتلال الثقافي، وهو إعلانٌ عن انتصار ثقافة الضحيّة على ما تعرّضت له، من حروب الإلغاء والإبادة... إنّها دلالةٌ رائعة أن يتشكّل اتّحادُ كتّابنا في الداخل في مناخ نجاحنا في توحيد صفوفنا في الخارج...
واسمح لي، وأنا أشدّ على يديك، أن أدعوك إلى ترك باب الاتّحاد مفتوحًا على مصراعيه لكلّ من يخالفُكم الرأيَ والعقيدة، فلسنا في حاجة إلى ترف هذا الخلاف الذي لا يبرّر الدعوةَ المتسرّعة إلى إنشاء اتّحاد كتّاب بديل، وإلى مفاوضات توحيد، ومؤتمر جديد.
أما زال في وسع المحتلّ أن يحتلّ المزيدَ من قدرتنا على الفرح بالوليد الجديد؟ أما زال في وسع المحتلّ أن يُحيل أزمتَه علينا بحصان طروادة من هنا، وحمار مسّادة من هناك؟ لا، لا ..."
"لا فضّ فوك يا درويش..."، فتنظيم الحركة الثقافيّة هو النشيد الجماعيّ فعلًا... هو شكلّ من أشكال تبلور الكيانيّة الفلسطينيّة فعلًا... هو إعلان عن انتصار ثقافة الضحيّة على الإلغاء والإبادة فعلًا!!!
الوقفة الخامسة... والختام
وعود على بدء، والعود أحمدُ.
لسنا اليوم بأحسن من رعيلنا الأوّل ولا مسيرتنا الوطنيّة اليوم بأسهل، فالتحديّات لم تختلف جوهرًا وإن اختلفت شكلًا. العمل الأدبي الجمعيّ من خلال التنظيم الأدبيّ كان أيّام درويش وقبله وما زال هدفًا مقدّسًا في المسيرة الوطنيّة، والميدان الجمعيّ وافتراش الشوارع بدل الصوامع والأرائك، هو المطلوب. والكاتب والشاعر الذي ينأى بنفسه عن العمل التنظيميّ الجمعيّ لا يملك الحقّ الأخلاقيّ أن يطالب السياسيّين بعمل جمعيّ أو يلومهم على افتقاده.
فهنيئا للمفترش الشوارع... وهنيئًا لنا به!