المحامي يحيى دهامشة رئيس المكتب السياسي للحركة الإسلامية والأمين العام للقائمة العربية الموحدة - صورة شخصية
بدأ مشوار الفشل في الفكر الاشتراكيّ منذ بدايته، واستمر فيما بعد في المنظومة الحركيّة سواءً بشكلها الشموليّ أم الديموقراطيّ (أقصد بالشّكل الديموقراطيّ الأحزابَ اليساريّة في الأنظمة الديموقراطيّة) وحتى بناء الدّول. ففي كلّ محطّة من محطّات الفكر الاشتراكيّ كان هناك تعامل كارثيّ مع العلم والمفاهيم العلميّة وحتى في نظريّة المعرفة التي اعتمدوها، وهي أحد الأسباب الرئيسية لقصورهم في إدراك الواقع (لكن هذه سيُخصص لها مقالة مستقلّة).
الاعتماد المغلوط على مفهوم الحركة في الفيزياء
لم يدرك الاشتراكيّون أنّ هناك فرقًا شاسعًا بين مفهوم الحركة في الفيزياء ومفهوم الحركة في التّاريخ. فـ"الحركة" في الفيزياء و"الحركة" في التاريخ عبارة عن اشتراك لفظيّ لا أكثر. أو قُلْ هو استعمال مجازيّ لكلمة "حركة" انتقل من الفيزياء إلى التّاريخ من خلال استعمالات اللّغة. فمفهوم الحركة في الفيزياء عبارة عن انتقال الأجسام من موقع إلى آخر، وهو لا يشبه بأيّ حال من الأحوال حركة التّاريخ، أو قُلْ تتابع الأحداث التّاريخيّة عند البشر. فما يُقصد بحركة التّاريخ هو تعبير عن تغيير في بنية الأنظمة الاجتماعيّة والمؤسّسات البشريّة، وهذا ليس انتقالًا من مكان إلى آخر في الفضاء، أو تغيرًا نسبيًا في المسافة بين الأجرام.
فقيام الدّول وانهيارها، وتطوّر الأدوات والمؤسّسات البشريّة عبارة عن تغيّر في البنية تُحدثه العديد من القوى والمؤثّرات، بعضها معلوم وبعضها ليس كذلك، ولا يمكن حصر هذه القوى المؤثّرة واختزالها في مجتمع كامل ليعبّر لنا عن "حركة" هذا المجتمع، ناهيك عن تطوّر المجتمع البشريّ بشكل عام.
لذلك، لا يمكن للبشر إدراك قوانين تطوّر اجتماعيّ ما من خلال تتبّع "حركة التّاريخ"، أسوة بتتبّع الحركة للأجسام والأجرام السّماويّة. ولا يمكن استنتاج قوانين في علم الاجتماع كما فعل نيوتن بخصوص قوانين الحركة في الفيزياء.
نتاج آخر لفشلهم، هو عدم قدرتهم على التمييز بين القانون كمفهوم، وبين "الوجهة". فما كان يعبّر عنه الاشتراكيون كقوانين اجتماعية، هو عبارة عن وجهات معينة لتغيّرات اجتماعيّة وليست قوانين كالقوانين العلميّة في الفيزياء.
فادّعاء وجود وجهة معيّنة للتّاريخ أو لتغيّر ما في مجتمع معيّن، ليست تتابعًا يمكن من خلاله زعم وجود قانون. فـ"الوجهة" من هذا الباب هي زعم وجود حقيقة معيّنة، بينما القانون ليس كذلك، بل أمر يختلف تمامًا.
اعتماد المفاهيم الخاطئة في علم الأحياء
إضافة إلى اللّغط في الفيزياء، استمر الاشتراكيّون في استعمال علم الأحياء لبناء نظريّاتهم الاجتماعيّة. فقد ذكرنا في المقالة السّابقة استعمالهم لنظريّة التطوّر الجنينيّ وتوظيفها في علم الاجتماع من خلال المنظومة التاريخانيّة (راجع المقالة السّابقة). وهنا علينا أولًا توضيح مفهومين مختلفين في علم الأحياء:
نظريّة التّناظر الجنينيّ: وهي نظريّة تتعلق بتطوّر المخلوقات وفق المعلومات المخزّنة في الجينات داخل الخليّة. وكما ذكرنا في المقالة السّابقة فقد فقدت هذه النّظريّة وزنها خلال القرن العشرين.
علم تطوّر السّلالات: وهو العلم الذي يدرس تاريخ التّطوّر لجنس معيّن أو لعرق.
كان التّاريخانيّون يخلطون بين المفهومين أعلاه، فكانوا ينظرون إلى علم تطوّر السّلالات على أنّه يعمل كنظريّة التّطور الجنينيّ (بخلاف البيولوجيّين الذين لم يروا الأمرين سيّان، وكانوا يميّزون بين هذين المفهومين دون الخلط بينهما)، وكانوا من خلال إسقاط نظريّة التّطور الجنينيّ على علم تطوّر السلالات يدّعون إمكانيّة قراءة المستقبل وفهم مآلاته بشكلٍ "علمي وعقلانيّ"- كما اعتدنا على سماعهم يردّدون-.
أدّى التّعامل مع المجتمعات البشريّة والمؤسّسات الاجتماعيّة ككائنات عضويّة إلى اختزاليّة لعدّة مركّبات وقوى في جسم واحد، قد يكون المجتمع، أو طبقة محدّدة، أو دولة، أو مجموعة دول. ومن خلال هذه الاختزاليّة، رأوا أنّ المهمّة هي تكريس الأفراد وبناؤهم من جديد، من أجل أن يتلاءموا مع المجتمع المثاليّ الذي يُسعى إلى بنائه. فالمجتمع المثاليّ هو الكائن العضويّ المُتوجّب صنعه، وفي سبيل هذا الكائن العضويّ المثاليّ، يمكن البطش بالفرد وسحقه وتدميره. من هنا كان التّساهل في استعمال الأنظمة الشّمولية لأدوات البطش والإبادة التي يندى لها الجبين في القرن العشرين.
فبحسب الإحصاءات المتواضعة وغير المبالغ فيها في أقلّ تقدير، راح ضحيّة النّظام السوفياتي في عهد ستالين ما يزيد على 40 مليون إنسان. وفي الصّين راح ضحيّة نظام "ماو تسي تونغ" ما لا يقلّ عن 50 مليون صينيّ. أمّا في كمبوديا، فقد تمّت إبادة ثلث الشّعب الكمبودي في سبيل الوصول إلى الدّولة المثاليّة الّتي يصبو إليها الجنس البشريّ، والأمثلة تزيد.
وكما التّعامل بهذا المفهوم الشّموليّ داخليًّا، كذلك تعامل هذا الفكر على المستوى الخارجيّ بنفس المنطق الشّموليّ، الأمر الذي يمكن لمسه بوضوح عند أحزاب اليسار الاشتراكيّ في مجتمعنا؛ فكلّ الدّول الغربيّة الرأسماليّة بقواها العظمى المختلفة، ومصالحها المتضادّة، وتركيباتها المتنوّعة جدًا يمكن اختزالها في عبارة - "الإمبرياليّة". ومن ثمّ يتمّ التّعامل مع هذه "الإمبرياليّة" على أنّها كائن عضويّ واحد، يفكّر بعقل واحد، ويعمل كجسم واحد، وفيه يتمّ اختزال كوارث المجتمعات الأخرى ومصائبها، حيث يتمّ تحميله المسؤوليّة الكاملة لكلّ ما يحدث لها، ومن بعدها يتمّ التّنظير (بعبثيّة مرّة أخرى وبثقة لا حدود لها) كيف على هذه المجتمعات أن تتصرّف و"تناضل" من أجل أن تنتصر على هذا الكائن العضويّ.
طبعًا لستُ هنا مدافعًا عن الإمبرياليّة. فالمفهوم قائم وموجود، وهو يعبّر عن سياسة تعتمدها الدّول لبسط سيطرتها على شعوب أضعف منها واستغلالها، ولكنّي بالتّأكيد لا أتعامل مع هذا المفهوم على أنّه كائن عضويّ يعبّر عن الدّول الرّأسماليّة الغربيّة كجسم واحد.
في الخلاصة، فإنّ منظومة الفكر الاشتراكيّ وقدرتها على اختزال قوى ومؤسّسات اجتماعيّة مختلفة في إطار جسم واحد، ومن ثمّ التّعامل مع هذا الجسم مقابل أجسام أخرى وفق المنظومة الجدليّة الّتي أسّسوها، هو من الأمور التي تجعل هذه الفئة السّياسيّة لا تجيد التّعامل مع الواقع، وتخطئ في كلّ مرّة تدّعي أنّها استوعبته، والأمر لا ينتهي هنا؛ فإنّ نفس هذه المنظومة، هي أيضًا التي تعطي لهذه الفئة قدرة دائمة ورهيبة على تبرير فشلها خلال عملها السّياسيّ. وهذا ما سنتطرق إليه عندما نتحدّث عن فشل المنظومة الجدليّة ذاتها.