صورة للتوضيح فقط - تصوير: arlindo71 - istock
نتعرّض جميعنا للّسعِ خلال نزهة في الطّبيعة، أو عند الدّخول إلى غرفة الجلوس، وهذه لسعة مزعجة وتؤدّي إلى الحكّ. بالإضافة إلى الإزعاج الّذي تسبّبه الحكّة، يمكن أن تكون اللسعة خطيرة أيضًا. يمكن أن يكون البعوض اللاسع حاملًا للفيروسات الّتي تسبّب الأمراض عند الإنسان، مثل فيروس حمّى الزيكا، أو فيروس حمّى الضّنك أو فيروس الحمّى الصفراء. لذلك هنالك أهميّة قصوى لتطوير وسائل ناجعة لصدّ البعوضيّات. أظهرت دراسة جديدة والّتي نُشِرت في المجلّة العلميّة Cell أنّ هذه المهمّة ليست سهلة على الإطلاق؛ لاّنّ نظام حاسّة الشمّ لدى البعوضيّات أكثر تعقيدًا ممّا كنّا نعتقد.
نظام حاسّة شمّ مدهشة
تحتاج إناث البعوض -الأنثى فقط هي الّتي تلسع- إلى أن تتغذّى على الدّم من أجل التّكاثر، والكثير منها تفضّل دم الإنسان لهذا الغرض. تتعرّف علينا البعوضيّات من خلال الرّائحة، أي من خلال المركّبات الكيميائيّة المنبعثة من أجسامنا. تشمل هذه المركّبات ثاني أكسيد الكربون الّذي ينبعث في عمليّة الزّفير، والكحول، والأمونيا، ومئات الجزيئيّات الأخرى الّتي تُنتج معًا رائحة جسم الإنسان.
تُميّز البعوضيّات المركّبات بمساعدة المجسّات وبمساعدة الأعضاء الحسّيّة الصغيرة المتواجدة بالقرب من الفكّ. ترتبط المركّبات بمستقبلات خاصّة موجودة على أسطح الخلايا العصبيّة داخل هذه الأعضاء. عندما يرتبط مركّب بالمستقبل الحيويّ المحدّد له، يتمّ إنشاء إشارة كهربائيّة تنتقل من الخليّة العصبيّة إلى منطقة علاج الرائحة الأوّليّة في دماغ البعوضة. تذهب المعلومات من هناك إلى مناطق أخرى في الدّماغ، والّتي ستتعرّف على المركّب. حتّى الآن، أكّد النّموذج المتعارف عليه لإدراك حاسّة الشمّ أنّ كلّ خليّة من الخلايا العصبيّة تُعبّر عن نوع واحد فقط من المستقبلات؛ ما يؤدّي في نهاية المطاف إلى اكتشاف مركّب واحد فقط. هناك افتراض آخر لهذا النّموذج وهو أنّ الإشارات من جميع الخلايا العصبيّة الّتي تستقطب نفس النّوع من الرائحة تتّحد مع نفس الكُبيبة (glomerulus) في منطقة المعالجة الأوّليّة. بكلمات أخرى، يصف النّموذج حالة "مستقبل واحد- خليّة واحدة- كُبيبة واحدة". أظهرت الدّراسات أنّ هذا النّموذج يصف بالفعل نظام حاسّة الشمّ لدى الحيوانات المختلفة مثل الذباب، والفئران، والعُثث وكذلك البشر.
وفقًا لهذا النموذج لحاسّة الشمّ، حاول الباحثون في دراسات سابقة إلحاق الضّرر في عمل المُستقبلات أو حذف عائلات كاملة من المستقبلات، معتقدين أنّ ذلك سيصعّب على البعوضيّات تشخيص البشر. لكن أظهرت نتائج هذه الدراسات، أنّ البعوضيّات كانت لا تزال قادرة على تشخيص البشر وَلَسعِهم رغم الأضرار الّتي لحقت في مستقبلاتها. وبالتالي، من الممكن أن يعمل جهاز حاسّة الشمّ لدى البعوضيّات بشكل مختلف عمّا كنّا نعتقد.
خليّة واحدة، مستقبلات متعدّدة
في هذه الدّراسة، قام باحثون من الولايات المتّحدة الأمريكيّة والسّويد وكندا بفحص بنية جهاز الشمّ عند البعوضيّات من نوع الزّاعجة المصريّة Aedes aegypti. هذه البعوضيّات، على عكس الحشرات الأخرى، لديها على الأقلّ ضعف عدد أنواع المستقبلات مقارنة بعدد أنواع الكُبيبة. تشير هذه الحقيقة إلى الاحتمال أنّ للبعوضيّات تنظيمًا مختلفًا لنظام الشمّ، من شأنه أن يفسّر قدرتها المثيرة لتشخيص الإنسان. لاختبار ذلك، قام الباحثون في البداية بتتبّع نمط الإشارات الّتي تتلقّاها كلّ كُبيبة، ووجدوا أنّ كلّ كُبيبة تتلقّى إشارات من عدةّ أنواع من المستقبلات. قام الباحثون بعد ذلك بفحص ما إذا كانت نفس الخليّة العصبيّة تعبّر عن عدّة أنواع من المستقبلات، أو إذا كانت كُبيبة واحدة تتلقّى إشارات من عدّة خلايا عصبيّة مختلفة، كلّ منها يعبّر عن نوع واحد من المستقبلات. من أجل هذا الفحص، قام الباحثون بصبغ كلّ من المستقبلات بلون فلوريّ مختلف، ووجدوا عددًا كبيرًا من الخلايا صُبِغت بأكثر من لون واحد. أي أنّ هذه الخلايا العصبيّة تعبّر عن عدّة أنواع مختلفة من المستقبلات. وأخيرًا، عرّض الباحثون الخلايا لمركّبات كيميائيّة مختلفة، وفحصوا أيًّا منها يتفاعل معها، وبالتالي وجدوا أنّ نفس الخلايا تفاعلت مع عدّة أنواع من المركّبات الكيميائيّة.
لذلك، خلافًا للنّموذج السّائد؛ فإنّ هذه البعوضيّات تحوي العديد من الخلايا الّتي تستشعر عدّة أنواع من الرّوائح، أي أنّها تتفاعل مع عدّة مركّبات مختلفة. يمكن أن تفسّر هذه النّتائج كيف تتمكّن هذه البعوضيّات من تشخيص البشر حتّى لو كانت خلاياها العصبيّة تفتقر إلى نوعٍ معيّن من المستقبلات.
وفقًا لإحدى الباحثات، ماج ينجر " يمكن أن تختلف الرّائحة عند اختلاف الأشخاص. ومن الممكن أن تسمح البُنية الشمّيّة عند البعوضيّات بتحديد وتشخيص البشر على الرغم من اختلاف الرائحة المنبعثة منهم". مثل هذا المبنى الشمّيّ- عبارة تصف عدّة مستقبلات مختلفة في نفس الخليّة- يقلّل من عدد الخلايا الّتي تحتاج إلى العمل لاكتشاف الهدف وتسهيل تشخيصه. يجب أن تَأخذ كلّ الوسائل الناجعة لصدّ البعوضيّات هذه التعقيدات بعين الاعتبار.
* نشر هذا المقال بالتعاون مع معهد " دافيدسون "