صور من خلود فوراني سرية - نادي حيفا الثقافي
لكن المعجزة التي تعنيني هنا، هي المعجزة الإحصائية، أقصد أني أعيش شرطا فلسطينيا ممزقا تحت براثن النظام الصهيوني الذي من المفروض أن يُقتَل في حدود ما احتله عام ١٩٤٨، رجل فلسطيني كل ثالث يوم (وبالتأكيد ثمة وتيرة قتل أعلى لو أضفنا ما أحتل من فلسطين عام ١٩٦٧). نحن إذن أمام حوت يتخلى عن مهمته الأصلية (في أوروبا) في حفظ الأمن والأمان لجميع القاطنين فيه (ضد الموت ظلما)، غير أن هذا الحوت (وللتوضيح، أقصد الدولة) يقوم بمهمته المحلية هنا (أي الصهيونية) الواقعة بامتياز، حين يفاضل بين البشر فيجعل من الدم اليهودي أغلى من الدم اللا-يهودي.
وبالتالي نأتي طلبة ومحاضرين للجامعات من حوت الدولة إلى حوت الأكاديميا التي تلتهم الطلبة الفلسطينيين أيضا لربما جسدا أحيانا، ولكن غالبا ما فكرا، طالما كانت بوصلتها أو عمادها هي معارف غربية غير قادرة على مخاطبة المعارف الأهلية ها هنا. وبين الحوتين هذين على الأقل كانت "دفيئتنا" وهو ملعقتنا – ملعقة الحرية – التي مدها لنا بجوده المعهود معهد فان لير حين أستضاف مجموعة من الطلبة الفلسطينيين ليبحثوا عن سبل انعتاقهم فكرا وفعلا من جوف الحيتان المحيطة بهم.
فالكتاب الذي بين أياديكم مبني على حوارات، شهادات ومقارنات نأمل أن تتيح لقرائها سبيلا بل سبلا يتحد فيها فعلا الفكر والتحرر حتى نلج محيطات ولربما صحاري المعرفة كما يليق بنا، أهل هذه الأرض لا كما يشاء لنا مغتصبونا، أرضا وفكرا. في هذا الكتاب ثمة أكثر من نبره نبوية واحدة ووحيدة: قد تعتقدون أن يونس هو المحرك الوحيد لاستعارة تسكن عنوان الكتاب" في جوف الحوت" فنعود، كما يونس عاد، وهو بوصلتنا إلى مدننا وما تبقى من قرانا (غيتوهاتنا هي العبارة الأدق عموما) لنتذكر حقيقة وجودنا هنا كأهل البلد، وإن أنكر المهاجرون إليه ذلك.
ولكن وللمفارقة، النبرة النبوية التي ترافق هذا الكتاب هي من أصوات يوسف وموسى أيضا. أما نبرة يوسف تسمع في الكتاب لأنه ورغم ظلمة الجب (جوف الحوت الذي عاشه) وصل يوسف وفي عقر دار الفرعون لأعلى المناصب ولم ينس أهله (بل لربما زل حين فضلهم عن المصريين) والنبرة الأخيرة هي نبرة موسى الذي عاش في رغد قصر الفرعون (جوف الحوت الذي عاشه) ولم ينس أن يؤَمِّن مخرجا لأهله وهو القائل:
أما نحن في كتابنا هذا، وبمساعدة فان لير الذي قدم لنا ملعقة ما من الحرية لا تتاح لنا عموما في الجامعة الإسرائيلية،
وبسبب جهد المشاركين في الدفيئة جميعا نقول عبر الصوت الموسوي من خلال كتابنا: فلنبق ها هنا، جسدا وفكرا مهما طال تيهنا، فلنمنح جذورنا القدرة لأن تخوض في الأعماق، فالثرى هنا ثروتنا وثريانا كلنا، والأرض هنا تتسع لجميع أهلها (مهما اختلفت دياناتهم وألسنتهم وبشرتهم ومشاربهم)، جاء من جاء، وأتى من أتى من الغرباء، كما يدل علينا أسمنا تماما – أهل فلسطين. فاذهبوا إذن وأقرأوا هذا الكتاب، ناقشوه، تجادلوا فيه، علكم تدركون حيتانكم وتصلون شطآن من العلوم لم ترسوا فيها بعد، وعلكم أيضا تخرجون منها إلى "بحار" من المعارف لم تبحروا فيها بعد.
خاتمة، حين أسأل عن مصدر العنوان "في جوف الحوت" فلا يسعفني ولا يسعني إلا أن أجيب على طريقة قصاص الأثر – والأثر هو ما تأتى لي في النثر وفي الشعر من دلالات الباحثين عن فلسطين: فها هو غسان كنفاني يهدي روايته القصيرة "ما تبقى لكم" لخالد الذي "ما زال يعود" على حد تعبيره، وأعود فعلا إلى شعر محمود درويش فأسمعه عائدا يسأل "لماذا تركت الحصان وحيدا؟ فيجيب: "السنابل مثقلة، والمناجل مهملة وبلاد تبتعد الأن عن بابها النبوي." في الصعيد الشخصي، هنا أرى محاولة لأحفظ لفلسطين علاقة عضوية عشتها مع جدتي لأمي التي أخذتننا، كما يبدو لي كعهد جداتنا عموما، عبر حياتها إلى هذا "الباب النبوي" وبالتالي ثمة محاولة، لا أكثر، في هذا الكتاب لأن يبقى هذا الباب – الباب النبوي – كما سماه درويش منفتحا لا موصدا أمام كل الباحثين والباحثات عن المعرفة الأصيلة في فلسطين، في أرض البدايات والنهايات. والأنبياء كما قال "هم جميعا أهلي" (في حجر كنعاني في البحر الميت) فلنأخذ من قصة يونس (يونان أو يونة) وعيا أي وطنا نقرأ من خلاله حاضرنا وماضينا ومستقبلا. هذه هي دعوة الكتاب، كمحاولة للتفكر في وجودنا في جوفه و في ما بعده، من خلال إنصاتنا وإصغائنا بالذات لتلك الأصوات، التي يكاد أن يغلق الباب في وجهها، أصوات الأنبياء، حتى في هذه الأرض الغارقة في حيتانها.
( مداخلة حول كتاب "في جوف الحوت" للبروفيسور خالد جمال فوراني ألقيت في أمسية إشهار الكتاب في نادي حيفا الثقافي )