logo

مقال | عندما تحكم السياسة تصمُت المحاكم وحقوق الإنسان

بقلم : المحامي زكي كمال
09-12-2022 06:24:23 اخر تحديث: 09-12-2022 06:30:58

هي دون شك حالة خاصّة ومميزّة، تتقزّم فيها الأنباء العادية والمتواصلة، بل والمتسارعة حول مفاوضات ائتلافيّة هنا ولقاءات هناك، وحول قبول أحد الشركاء المحتملين بتلك الحقيبة أو هذه،


المحامي زكي كمال

كاملة أو منقوصة، أو مجزّأة بشكل اصطناعيّ لإرضاء نهم الشركاء اليمينيين المتطرفين، وهم بيضة القبّان في الحكومة الحاليّة، ومن يملكون شهادة ميلادها، أو شهادة وفاتها ودفنها. كما تتقلّص أهميّة الحديث عن تركيبة الحكومة من حيث الشخصيّات واشغال المناصب، وحتى من حيث التشريعات الآنيّة واللاحقة التي يمكن أن يكون اقتراح النائب الليكوديّ شلومو كارعي حول تغيير طريقة اختيار وانتخاب قضاة المحكمة العليا بمثابة "أول الغيث قطر"، أو "القادم أسوأ" وخاصّة مطالبته بإلغاء نهج "الأقدميّة، أو السنيوروتي" بالإنجليزيّة، ونقل صلاحية انتخابهم للبرلمان، بمعنى تحويل اختيار القضاة إلى شأن سياسيّ - كما هو الحال في حالة المحكمة العليا في الولايات المتحدة، وبفارق واحد أن كارعي يقترح أن لا تزيد ولاية القاضي رئيس المحكمة العليا عن 5 سنوات، بينما في الولايات المتحدة هو اختيار حتى الممات، لكنها وأقصد بما سبق نتائج الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة في إسرائيل تحمل أبعادًا تفوق في خطورتها في هذه الحالة، الجوانب والأبعاد البرلمانيّة والسياسيّة والحزبيّة للانتخابات في إسرائيل، رغم ما تعنيه من أهميّة، خاصّة وأنها أي النتائج واستنادًا إلى ما تعنيه تركيبة الحكومة القادمة، وما تنذر به تصريحات وتلميحات وتهديدات مركباتها، لا تقف عند حدّ تغيير البرلمان واستبدال الائتلاف، وانتقال السلطة ورئاسة الحكومة من يائير لبيد إلى بنيامين نتنياهو، وتغيير السياسات تجاه العرب، أو الأقليّات العرقيّة والدينيّة والأخرى في إسرائيل، بل إنها انتخابات تعني نقل إسرائيل من مرحلة إلى أخرى، وحرفها عن المسار الذي خطّه لها أولئك الذين بادروا إلى إقامتها وكتبوا، أو صاغوا وثيقة استقلالها وحدّدوا توجهاتها التي تنحو نحو العلمانيّة والتفكير الأوروبيّ ، وأقصد هنا انزلاق إسرائيل نحو التحوّل إلى دولة شريعة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، خاصّة في منطقة الشرق الوسط التي تعجّ منذ تسعينيات القرن الماضي بالحركات والتوجهات الأصوليّة، وتحوّلها إلى دولة لا يدور النقاش فيها حول إمكانية التوفيق بين كونها دولة يهوديّة من جهة ودولة ديمقراطية من جهة أخرى، فهي ليست كذلك، ولا حتى حول كونها دولة يهوديّة فهي ليست كذلك، بل إنها دولة لليهود فقط. وربما ليس كلهم، بل للمتدينين واليمينيين المسيحانيين الخلاصيين منهم، وهو أمر لم يتبادر إلى أذهان مؤسّسي الدولة وأذهان غالبية مواطنيها، لكنه كما يبدو تحوّل من وهم أو خوف عشوائيّ غير واضحة معالمه، إلى حقيقة واقعة، بل كابوس يؤرّق مضاجع نصف مواطني الدولة، ودول أخرى في العالم وفي الجوار، يتمثّل في تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة يهوديّة، أو دولة ظلاميّة أصوليّة متطرّفة تسودها العنصريّة والتفرقة وظلم الأقليات، والسعي إلى الحرب الدينيّة التي لا تُبقي ولا تذر، يقودها سياسيون وأحزاب آمنت منذ سنوات، بل عقود بأن دولة اسرائيل العلمانيّة والديمقراطيّة هي ليست الدولة التي تريدها، بل إنها تريد تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة بعد سنوات طويلة أجبروا خلالها الحكومات المتعاقبة بفضل قوّتهم السياسية على احترام الشريعة الدينيّة، واستغلوا الدولة لدعم مشاريعهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة. لكن الغريب، بل المخيف هذه المرة أنَّ القوى الدينيّة، التي وضعت نصب أعينها تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة، هي القوى الدينيّة الصهيونيّة التي أخذت طابعًا معتدلًا، في العقود الأولى لقيام الدولة. لكنْ إذا أمعنَّا النظر جيّدًا نصل إلى خلاصة مفادها أنَّه من المنطقيّ أنْ تطرح الصهيونيّة الدينيّة بالذات مثل هذه المهمّات، لأنَّ الدولة بالنسبة إليها هي مقدمة مجيء المخلّص. وللدولة معان دينية أكثر منها سياسية، وبالتالي تحدّدها التوراة التي "تحافظ على شعب إسرائيل". ومن هنا يمكن بسهولة إطلاق اسم السلفيّة على الحركات الصهيونيّة الدينيّة التي لا تكتفي بربط الدين بالدولة فعليًّا وواقعيًّا، بل إنها تعلن اليوم رسميًّا أن الدين والدولة لم ينفصلا بالنسبة إلى هذه الحركات، التي ما زالت تنتظر قيام الدولة اليهوديّة التوراتيّة، لتصبح إسرائيل ليست دولة يهوديّة، وإنَّما دولة اليهود، في أفضل تأكيد على خطورة وجود، أو تضافر مواقف وتوجّهات وأغلبيّة قوميّة متطرّفة تلتقي مع اتجاهات دينيّة سلفيّة متطرّفة مستخدمة المصطلحات والمفاهيم والتعابير نفسها، أو بكلمات أخرى، ألم تشهد إسرائيل أصلًا عمليّة علمنة حقيقيّة وجوهريّة في جوهر المفاهيم، وأنَّ الصراع الذي جرى مع بدايات الصهيونيّة، والذي ما زلنا نشهد تشعّباته حتى الآن بين الصهيونية والمتدينين اليهود، لم ينجح في الفصل بين الأمة والدين أو بين الدين والدولة، أو بين المواطنة والدولة ، خاصّة وأنه حتى اليوم في إسرائيل، خلافًا للدول القوميّة الأخرى (state nation) لا تتطابق الأمّة مع المواطنة، فليس كلّ مواطن إسرائيليّ جزءًا من "الأمة الإسرائيليّة" التي لا تعترف المؤسّسة الرسميّة أصلًا بوجودها، وبما أن أكثريّة السكان في إسرائيل هم يهود ينتمون إلى الأمَّة اليهوديّة، فإن النقاش الجاري في إسرائيل حاليًّا هو فقط بشأن ما إذا كانت إسرائيل دولة اليهود أم دولة يهوديّة، أي دولة ذات طابع دينيّ يهوديّ.

وقبل الخوض في تفاصيل المشاريع والمخطّطات السياسيّة للحكومة القادمة، وأهمّها ربما شرعنة المستوطنات عامّة والبؤر الاستيطانيّة العشوائيّة والوظائفيّة الوزاريّة، وخاصّة منح الوزير المتطرف دينيًا وسياسيًا بتسلئيل سموتريتش مسؤولية تحديد وتقرير ما سيحدث في الضفة الغربيّة، وتعيين المسؤولين عن الإدارة المدنيّة، وهي الذراع الحاكم للضفة الغربيّة، وتأتمر حاليًّا بأوامر قائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيليّ، ما يعني أنّه سيحوّل هذا المنصب من الخانة العسكريّة بلباس مدنيّ إلى الخانة السياسيّة، والسيطرة التامة على حياة يوميّة لنحو مليوني فلسطينيّ، بما في ذلك الميزانيات وإمكانيات العمل ومشاريع البنى التحتيّة وغيرها، وما يرافق ذلك من أخطار الصدام مع المواطنين الفلسطينيين من جهة، والسلطة الفلسطينيّة من جهة أخرى، فإنه من الضروري القول إن احتمالات تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة متطرّفة، بل أصولية عبر حزبين متدينين متطرفين يمينيين يؤمنان بشريعة التوراة وموقفهما المعادي للعرب والفلسطينيين وكلّ ما هو غير يهوديّ، خاصةً وأنهما ( الحزبان) سوف يسيطران عمليًّا على مقاليد الحكم في إسرائيل، خاصّة وأن بنيامين نتنياهو مجبر على إرضائهما وتلبية مطالبهما كافّة ، هي لأول وهلة نتيجة واضحة للانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، لكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك فقط، بل إنها نتاج عمل وتخطيط وتصرّفات مدروسة ومرسومة منذ عقود طويلة، كان مفكرو وحاخامو اليمين الديني الاستيطانيّ المتطرّف قد رسموها بدّقة ونفّذوها بحنكة وصولًا إلى هذا اليوم، وهو ما يكشفه كتاب صدر حديثًا في إسرائيل بعنوان "الثورة الثالثة.. مبادئ العقيدة الخلاصيّة الساعية إلى تحويل إسرائيل إلى دولة يهوديّة تكون التوراة دستورها"، للباحث والحقوقي يائير نهوراي، جاء فيه أن هذا المسعى يتألف من ثلاث خطوات، أو ثلاث ثورات في عرف اليهود الأرثوذكس وتأثيرهم داخل صفوف الحركة الصهيونيّة، بعد أن كانوا في بداية طريقها، من أشدّ المعارضين لها ولإقامة وطن قومي لليهود. ويقول الكتاب أن الصهيونيّة الدينيّة ومعها الأحزاب الأرثوذكسية والمتزمتون أي الحريديم يعيشون اليوم المرحلة الثالثة من الثورة، كما يقول الحاخام إيلي سدان، مؤسّس المعاهد التمهيديّة التي تجهز الشبان المنتمين إلى الصهيونيّة الدينيّة للخدمة الإلزاميّة في صفوف الجيش الإسرائيليّ، والحائز على "جائزة الدولة الإسرائيليّة" عام 2018 عندما كان نفتالي بينيت يتولى منصب وزير التربية والتعليم في حكومة بنيامين نتنياهو الرابعة، وتتلخّص "الثورة الثالثة" التي يعمل سدان على الدفع بها في تعزيز سيطرة أتباع الصهيونيّة الدينيّة على مختلف مؤسّسات الدولة وتضييق الخناق على العلمانيّين، والأهمّ ترويج أن "التوراة هي دستور إسرائيل، بل الحمض النووي للدولة اليهوديّة"، علمًا أن نفتالي بينيت نفسه كان أعرب عام 2017 عن رغبته بأن تستند إسرائيل إلى الأساس اليهوديّ، وأن تعيد تصميم المجتمع الإسرائيليّ وفقًا للصورة الحاليّة للصهيونيّة، ما دفع أحد المحلّلين إلى التحذير: "أعط الدين المجال للسيطرة، وأعطه جيشًا، وستحصل على وحشٍ"، وهو ما يخشاه كثيرون. أما الثورة الأولى فجاءت بعد اقتناع الحاخامين والمتدينين اليهود أن الاستيطان اليهوديّ في أرض إسرائيل هو بداية الخلاص، وأن الهجرة إلى فلسطين ولاحقًا إلى إسرائيل هي بمثابة فريضة على جميع اليهود في العالم. وأن الصهيونيّة جزءٌ من "خطّة إلهية" موجّهة من أعلى، ولذا فهي ليست إلحادًا برغم أن من يقودونها هم علمانيّون، أما "الثورة الثانية" فحدثت بعد حرب 1967، وبعد احتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء، حيث أقيمت حركة غوش إيمونيم، وبدأت عملية الاستيطان في الأراضي المحتلة. وإثر ذلك، تحوّل هذا التيار من حركة تسير في فلك حزب العمل إلى حركة تجرّ وراءها رؤساء حكومات، لتطبيق فكرة الاستيطان في أرض إسرائيل الكاملة، وصولًا إلى حالة تعيشها إسرائيل اليوم قوامها سيطرة أتباع التيار الصهيونيّ - الدينيّ دفّة القيادة في سلك الجيش والشرطة والمخابرات والموساد والتربية والتعليم، وإقامة مؤسسات تعليميّة ودينيّة خاصّة بهم، وتولوا مناصب حاخامي المدن، وكان ذلك أحيانًا على حساب الحريديم. وبعد أن أسّسوا مدارس دينية ثانويّة ومعاهد دينيّة تمهيديّة للخدمة العسكريّة، أصبح حضورهم وتأثيرهم العام يتّسع على نحو كبير. ويعود أحد أسباب اتساع تأثير الصهيونيّة الدينيّة في الحيّز العام الإسرائيلي إلى تزايد انخراط شبانها في الجيش، وبالأساس، في وحدات النخبة القتاليّة.

"حكومة توراتيّة بامتياز"
ما قلته سابقًا يعني أن الحكومة القادمة ستكون حكومة توراتيّة بامتياز بكلّ ما يعنيه ذلك من تسييس للدين، أو "تديين" للسياسة والجيش، وتحويل كافّة مقدرات الدولة، إلى وسيلة لتحقيق أجندات يمينيّة دينيّة أصوليّة تغبن الأقليات، وكذلك اليهود اليساريين، وأولئك الذين هاجروا الى إسرائيل بحكم قانون العودة الذي يطالب أقطاب الحكومة القادمة بتغييره وتعديله، ومنع من كان جدّه يهوديّا وليس جدته يهوديّة، أو منع أبناء" الجيل الثالث" من الهجرة إلى إسرائيل ومعظمهم من روسيا ودول أوروبا الشرقيّة وكلّهم من العلمانيين الأوروبيّين الذين يرفضون سيطرة الحاخامات، ويريدون حياة لا تفرض فيها القيود على تحركاتهم أيام السبت، ولا يتم فرض تعاليم الديانة اليهوديّة الأرثوذكسية عليهم، ويعترفون بسلطة القانون وليس سلطة التوراة رغم خلافاتهم مع المحكمة العليا، ما يعني تحويل الدولة تدريجيًّا إلى دولة يمينيّة متدينة متطرّفة بأغلبية يهوديّة - شرقيّة متطرّفة قادمة من الدول العربيّة يميلون إلى المحافظة والتدين، وقبول حكم القائد الواحد وينشدون ويغنون في كلّ مناسبة "نتنياهو هو الملك"، يمقتون سلطة القضاء، ويعتمدون نهج التصويت العشائريّ، بل القبليّ، ويريدون قضاءً يخدم التوجّهات السياسيّة والأجندات التي تعتمد القوة والعنف، بل المزيد من القوة والعنف وبالتالي يعتبرون- كما شلومو كارعي ودافيد أمسالم وأمير اوحانا وميري ريغف، أول المنادين بتحطيم محكمة العدل العليا والجهاز القضائيّ، واعتباره يساريًّا يريد قلب نظام الحكم وتغيير هويّة الدولة، وهي تعديلات يراها كثيرون خطيرة، ويحذرون من تبعاتها على الديمقراطيّة التي يحذرون أنها قد تنهار، وقد تصبح ضعيفة في مواجهة حكومة يمينيّة، ولن تتمكّن من منعها من اتخاذ قرارات سياسيّة وأخرى متطرّفة. وفي هذا القول بعض الصحّة فالجهاز القضائيّ القوي يشكّل عمادًا أو عمودًا من أعمدة الديمقراطيّة، لكنّه وكما تشير وتؤكّد الأمثلة التاريخيّة المتعدّدة والكثيرة في مختلف دول العالم وبضمنها إسرائيل، ليس هي تلك السلطة التي تُحدِث التغييرات الجوهريّة، فالديمقراطيّة الإسرائيليّة أقيمت، أو قامت بقرار سياسيّ، وليس بقرار قضائيّ، أما الحكم العسكريّ الذي خضع له المواطنون العرب في إسرائيل منذ 1948 وحتى 1966 فقد تم رفعه بقرار سياسيّ، أو قرار اتخذه السياسيون وليس القضاة، وكذلك قرار الاعتراف ولو جزئيًّا وبشكل خجول بمسؤوليّتها عن مجزرة كفر قاسم فاتخذه سياسيّ وهو شمعون بيرس الذي اعتذر عن المجزرة، وليس قرار المحكمة العليا، وهو الأمر في الولايات المتحدة فعهد العبوديّة والتفرقة العنصريّة، وحرمان الملونين من حقوقهم الأساسيّة وإنهاء عهد الفوقيّة البيضاء، هو قرار سياسيّ اتخذه أبراهام لينكولن وليس الجهاز القضائيّ، وإنهاء عهد الأبارتهايد في جنوب أفريقيا هو قرار الراحل فريدريك دي كليرك والسياسيين هناك، ومنهم نيلسون مانديلا، والقوانين الاجتماعيّة ومنها قوانين الضمان الاجتماعيّ وحقوق الأقليّات ومساواة النساء، وقرار التمثيل الملائم للمواطنين العرب هي قرارات اتخذها سياسيون وليس المحاكم، وكذلك قانون إعفاء المواطنين العرب من الخدمة العسكريّة من جهة، وقرارات إعفاء تلاميذ المعاهد الدينيّة اليهود من الخدمة واستبدالها بدراسة التوراة، كلها قرارات سياسيّة. ومن هنا فإن السياسيين هم من يتخذ القرارات المصيريّة، ومن يحدّد السياسات المحليّة والإقليميّة، ما يعني أن الأساس الأول للديمقراطيّة هو سياسيّ جماهيريّ، أما المحكمة، أو الجهاز القضائيّ فله إذا ما كان مستقلًّا وقويًّا فله دور هام في ضمان المساواة، مع التذكير بأن محكمة العدل العليا في إسرائيل هي من أدخل مئير كهانا الأب الروحي لإيتمار بن غفير، ومؤسّس حركة " كاخ" العنصريّة، إلى الكنيست الإسرائيليّ في ثمانينيّات القرن الماضي، وهي من أدخل وارثيه من حركة" عوتسماه يهوديت – القوة اليهودية" إلى الكنيست في الانتخابات الأخيرة وقبل الأخيرة.

" تجنيد قوى موازية أو مضادة"
ما قلته هنا لا يعني أن الديمقراطيّة الإسرائيليّة ليست في خطر، بل إنها كذلك لكن مواجهة هذا الخطر لن تكون ولا يمكن أن تكون بواسطة المحاكم، أو الجهاز القضائيّ وحده، بل إن مواجهة خطر محدق بالديمقراطية يجب أن يتم عبر تجنيد قوى موازية، أو مضادة تنشط سياسيًّا واجتماعيًّا وجماهيريًّا بطريقة مدروسة ومكثّفة ومتواصلة تضع لنفسها أهدافًا يمكن تحقيقها دون الاعتقاد خطأً أن المستشار القضائيّ والجهاز القضائيّ هم المخلص المنقذ الوحيد، وهو ليس كذلك فمؤسسو الدولة وكلهم من العلمانيّين والغربيّين الأشكناز "مهدوا "بشكل أو بآخر لما يحدث اليوم عبر عدم سعيهم إلى الفصل عبر تشريعات واضحة تفصل بين الدين والدولة، ودستور يضمن المساواة المدنيّة ويمنع التفرقة والإكراه الدينيّ ، ولأنهم خضعوا لإملاءات الأحزاب المتدينة، وامتنعوا عن إدراج مبدأ المساواة ضمن القوانين وصولًا إلى سن قوانين تكرّس التفرقة والفوقيّة اليهوديّة، ومنها قانون القوميّة وقانون منع لم الشمل الذي يمنع فلسطينيين وفلسطينيّات من طرفي الخط الأخضر من الزواج لدواعٍ أمنية مقابل قانون العودة الذي يسمح لكلّ يهوديّ، أو لمن كانت جدّته، أو جدّه يهوديّا بالقدوم إلى إسرائيل والحصول على حقوق مواطنة كاملة غير منقوصة، وصولًا إلى يوم يريد اليمين والمتدينيون تحويل إسرائيل فيه من دولة ديمقراطيّة علمانيّة متنوّرة إلى دولة ملكيّة توراتيّة ظلاميّة سياستها بعد 55 عامًا من احتلال الضفة الغربية تعتمد دوس حقوق المواطنين الفلسطينييّن واستنفاذ مقدراتهم واستغلال مواردهم الطبيعيّة خدمة لفوقيّة دينيّة قوميّة يهوديّة ومملكة توراتية أساسها، كما يعتقدون أنها تنفيذ للأوامر الإلهية .

"صياغة معادلة جديدة"
قلت إن السياسيين هم من يحدّدون وجهة الأمور، ومن يتخذون القرارات سواء كان ذلك على صعيد العلاقات داخل الدول، أو بينها وعلى كافة الصعد الإقليميّة والعالميّة، أما السلطة القضائيّة فإنها تلك التي تمنح "الغطاء والمبرر القانونيّ لذلك". ويأبى الواقع إلا أن يثبت ذلك في حالتين آنيتين، أولهما "ردّ" محكمة أمريكيّة هذا الأسبوع التماسًا على قرار وزارة العدل الأمريكية والإدارة الأمريكية كلّها، تبرئة ساحة ولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان من المسؤوليّة، أو حتى إمكانيّة المساءلة، حول اغتيال الصحفي أمريكيّ الجنسيّة جمال خاشقجي في القنصليّة السعوديّة في تركيا وتبرير ذلك بأنه يتمتع "بحصانة دبلوماسيّة تامّة وجوهريّة". وهي نفس الإدارة التي توعّدته بالمحاسبة خلال حملة جو بايدن الانتخابيّة، وهو قرار قضائيّ كان أكثر من متوقّع فالسياسيون الديمقراطيّون هنا "حدّدوا وجهة العلاقة مع محمد بن سلمان لأسباب سياسيّة واقتصاديّة" ، وما على المحاكم إلا توفير الفتوى القضائيّة لذلك، وثانيهما هو المونديال الحالي في قطر، والذي سبقته حملات انتقادات واسعة قضائيّة بالأساس دارت حول أوضاع العمال الأجانب، وهضم حقوقهم والتسبّب بوفاة المئات منهم خلال أعمال بناء الملاعب التي احتضنت مباريات المونديال، ناهيك عن حملات شنّتها هيئات قضائيّة وحتى بعض الدول حول المونديال الحالي وطريقة فوز قطر بشرف تنظيمه، وما رافق ذلك من شبهات للفساد الماليّ، إضافة إلى الحملات الحقوقيّة ضد قطر على خلفيّة مواقفها من المثليّين مثلًا، وكلّها حملات اعتقد كثيرون أنها ستجد تعبيرًا عنها في مشاركة المنتخبات في المونديال حتى دار الحديث عن احتمال مقاطعة بعضها وخاصّة الأوروبيّة وتحديدًا الدنمارك وربما ألمانيا للمونديال الذي بلغت تكاليفه قرابة 250 مليارد دولار ( وهنا المثال الأفضل والأنصع للنفاق السياسيّ الأوروبيّ والعالميّ والإسرائيليّ فالدعوة لمقاطعة قطر مسموحة ودعمها واجب، أما دعم منظمات تدعو لمقاطعة إسرائيل لاحتلالها الضفة الغربية وسلب حقوق الفلسطينيين ومنها منظمات الـ BDS فممنوعة بل محرَّمة)، ليتضح على أرض الواقع أن المونديال تحوّل إلى مزار للسياسيين خاصّة من العالم العربيّ وأفريقيا ووزراء من دول أوروبيّة كالبرتغال وغيرها، وأن السياسة، وأعني هنا العلاقات بين قطر ودول العالم بما فيها أمريكا (ولنفس الاعتبارات التي سقتها في قضية محمد بن سلمان) وأوروبا ، بكل أبعادها الدبلوماسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة وغيرها هي التي سادت وتَسيَّدت، فقطر بأموالها الطائلة تمكّنت من صياغة معادلة جديدة أصبح الاقتصاد فيها الركن الأساسيّ للعلاقات الدبلوماسيّة قبل القضاء والعدل وغيره، فهي الدولة الصغيرة مساحةً وسكانًا، تكشف زيف الادّعاءات، أو "الصراخ حول العدل والإنصاف"، ففي حين تنتقدها الدول الأوروبيّة، ها هي نفس الدول تقيم مع قطر علاقات تبادل تجاريّ واقتصاديّ بمئات مليارات الدولارات، عبر صندوق الاستثمار القطريّ الذي اشترى عقارات بنحو نصف تريليون دولار، كما يسيطر على مصارف منها دويتش بانك، ويملك أسهمًا في مطار هيثرو في بريطانيا وشركة بريتيش إيرويز، وشركات نفط روسيّة وشركة فولكسفاغن وشركة " سيمنس" وشركة السيارات" بورش" وغيرها وغيرها إضافة إلى استثمارات في الرياضة في مقدمتها شراء فريق باريس سان جيرمان ونجومه الكبار ليونيل ميسي وكيليان إمبابي ونيمار. كل هذا إضافة إلى صفقات بيع الغاز والنفط وخاّصة الغاز، إذ تعتبر قطر إحدى أكبر الدول المصدرة للغاز بعد توقيعها على صفقة لبيع الغاز للصين مدتها 27 سنة، وهي أكبر مصدِّر للغاز إلى بريطانيا، وألمانيا بحاجة ماسّة إلى الغاز القطريّ، وكذلك الدول الأوروبيّة الأخرى/ ومنها النرويج التي هدّد منتخبها واتحاد كرة القدم فيها بمقاطعة المونديال في حال تأهل منتخبه، لكنّ الحكومة النرويجيّة تملك اتفاقيّة تجارة حرّة مع قطر، إضافة إلى استثمارات نرويجيّة بقيمة 9 مليارات من الدولارات في شركات نفط وغاز قطريّة.
رغم ما سبق فإنني أؤكد هنا أن قطر استثمرت 250 مليار دولار للحصول على "اعتراف وتقدير دوليّ وشرعنة" لم تكن أصلًا بحاجة إليها، فالمال والاقتصاد هما المحرّك اليوم لسياسات الدول وأساس علاقاتها، أما حقوق الإنسان فهي شماعة تعلّق عليها بعض الدول انتقاداتها، ناهيك عن السؤال هنا، هل يعني تنظيم المونديال في قطر أن الدول العربيّة أصبحت قادرة على الوقوف في صف واحدٍ مع الدول الأوروبيّة؟ وهل تنظيم المونديال في الدوحة هو إنجاز لكلّ العالم العربيّ والإسلاميّ في مواجهة الغرب الذي يحاول الانتقاص من قيمة الشرق وإلزامه بتبني مفاهيم لا يقبلها، أو فرض آراء مرفوضة خاصّة في قضية المثليين والمشروبات الكحوليّة؟ وهل هو إنجاز رياضيّ، خاصّة وأن منتخب قطر كان أول المغادرين بعد ثلاث هزائم متتالية؟ وكلها أسئلة يجب طرحها بصراحة رغم الفرح والسرور والانبهار بتنظيم المونديال في قطر وصعود منتخب المغرب وانتصار السعوديّة على الأرجنتين.
الخلاصة واضحة، وهي أن السياسيين هم من يحدّدون وجهة المسيرة، والسياسة هي التي تحسم الأمور، أما القضاء وحقوق الإنسان فهي عوامل مساعدة في أفضل الأحوال وزركشات سياسيّة في معظم الأحيان، ومونديال قطر خير شاهد على ذلك.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]