المحامي زكي كمال
أو مشهدا يدمج من حيث الأداء بين السياسة التي تحتّم تبادل الأدوار بين المعارضة والائتلاف بما يشكّل نهاية حقبة "حكومة التغيير" وبداية حقبة حكومة اليمين مضمونًا وفحوى. والمسرح الذي "يلزِم" كلّ طرف بالقيام بدوره، بحيث " يحترم" الخاسر الحسم الديمقراطيّ واختيارات المواطنين ويبارك للفائز نصره المبين مشيرًا إلى أنّ الحكومات تتغيّر، لكنّ الدولة باقية بمصالح مواطنيها المشتركة، ويحترم الرابحون مشاركة الخاسرين في اللعبة الديمقراطيّة وتقبّلهم الحسم، ويتعهّدون بالعمل لمصلحة الدولة بكافّة مواطنيها ولحماية مصالحهم المشتركة، ( هل هي نفس المصالح التي تحدّث عنها الخاسرون؟)، انطلقت منتصف هذا الأسبوع أعمال البرلمان الإسرائيليّ الجديد المنبثق عن نتائج الانتخابات الأخيرة التي أجريت في الأوّل من نوفمبر تشرين الثاني 2022، والتي أفرزت ائتلافًا يمينيًّا متطرّفًا مسيحانيًّا مكوّناته الكاهانيّة والليكود والحريديم، سيفسح المجال أمام تشكيل حكومة تتبنّى أجندة خلاصيّة يحذِّر معارضوها من أنّها ستحرق الأخضر واليابس. ويقول مؤيّدوها أنّها المنقذ المخلّص من شرور اليسار والإسلاميّين والعرب، إيذانًا ببدء حقبة جديدة حاول كافّة الفرقاء فيها، وبحكم البروتوكول، ارتداء قناع الديمقراطيّة وقبول الحسم عشيّة انطلاقها على الأقلّ، دون أن ينجحوا في ذلك. فالحقيقة أقوى من كافّة الأقنعة، فحال الخاسرين من اليسار والمركز والعرب، تنطبق عليه تفاصيل نموذج "كيوبلر روس" المعروف باسم "مراحل الحزن الخمس" ، والذي تنقسم فيه مراحل الهزيمة والخسارة والحداد المترتّب على ذلك إلى خمس مراحل هي: الإنكار (عدّم التصديق)، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والتقبّل، وأقصد هنا تقبّل الواقع الجديد الذي تتعاظم فيه قوّة وتأثير الكاهانيّة والعنصريّة بينما تختفي عن الساحة البرلمانيّة، ولأوّل مرّة منذ عقود حركة "ميرتس" ولأوّل مرّة منذ تسعينيّات القرن الماضي التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ. أمّا حال الفائزين، فتنطبق عليه مراحل تشكّل النقيض، وهي النشوة والشعور بالقوّة المفرطة ومحاولة ترجمتها إلى مكاسب على أرض الواقع، والصراع على مواقع التأثير، ومحاولة تجميل الواقع وإخفاء العيوب، مع الإشارة إلى أنّ كيوبلر روس، يشير إلى أنّه مقابل مراحل الحزن أو الحِداد الخمس سابقة الذكر، هناك ستّ خطوات أو "ستّة خطوط" بإمكانها أن تمكّن " الحزانى" من تجاوز حزنهم، وهي صياغة أو صناعة مضمون للخسارة ومنحها المعنى الصحيح، والتخلّي عن محاولة السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه، أو بكلمات أخرى الكفّ عن محاولة تبرير ما لا يمكن تبريره، أو البحث عن المنطق وسط ضباب اللا منطق، والعمل على صياغة ووضع هويّة جديدة ومحتلنة فور الخسارة، أو بعدها انطلاقًا من الإيمان بأنّ الهويّة السابقة التي كانت واضحة منذ عقود، بل ربّما طيلة عقود بحاجة إلى توضيح وتجديد، كي تلائم المستجدّات بعيدًا عن التكلّس والجمود، والتكيُّف مع الحياة الجديدة أو المرحلة الجديدة بمشاعرها المختلطة، ورسم خطوط جديدة للعلاقة مع أولئك الذين فقدنا ثقتهم أو تخلّوا عنّا، وصياغة أمل جديد.
ما قيل سابقًا بالنسبة للخاسرين هو المهمّ في هذه المرحلة، انطلاقًا من الإيمان المطلق بأنّ الانتخابات الأخيرة رغم قسوتها ودروسها وعبرها التي على الأحزاب في معسكر الخاسرين تعلّمها، وأوّلها أنّ العمل الجماعيّ هو السبيل إلى النجاح، وأنّ التعاون عبر التغاضي عن الفوارق لمرحلة ما ليس ضعفًا، بل إنّه دليل قوّة ونضوج فكريّ وسياسيّ وشخصيّ للقادة، وأنّ القول الدارج وربما الممجوج أحيانًا بأنّ السياسة هي فنّ الممكن لا يعني فقط انتهاج أسلوب الفذلكة والدهاء، بل إنّه يعني أنّ على المشاركين في اللعبة السياسيّة بذل كافّة الجهود لجعل اللا ممكن ممكنًا . وهو ما فعله بنيامين نتنياهو في حالتين هما توحيد صفوف الصهيونيّة الدينيّة، بقائديها الرسميّ بتسلئيل سموتريتش، والفعليّ ايتمار بن غفير، وكذلك توحيد اليهود الحريديم (المتديّنين المتزمّتين) من أصول غربيّة وتحديدًا يهدوت هتوراة وديغل هتوراة رغم الخلافات بين هذين الشقّيّن، وهو ما فشلت فيه قوى اليسار والمركز والوسط، واستخلاص العبر بانتظار الانتخابات القادمة بعد 4 سنوات أو أقلّ، انطلاقًا من قول كلاريسا بنكولا، المؤلّفة أمريكيّة الجنسيّة ذات الأصول المكسيكيّة والإسبانيّة وكذلك المجرية بالتبنّي، في كتابها "نساء يركضن مع الذئاب"، عندما خاطبت السيّدات الراغبات في إحداث التغيير: "هناك دائمًا المزيد من الفرص للتصحيح، لصياغة حياتنا بالطرق التي نستحقّ أن نعيش بها. لا تبدّدي وقتك تلعنين الفشل. إنّ الفشل مُعَلّمٌ أعظم من النجاح". وهو قول ينطبق بالكامل على حال أحزاب معسكر اليسار والوسط والمركز أو " كتلة لا لبيبي" والأحزاب العربيّة دون استثناء والتي عليها وفقًا للقول سابق الذكر استخدام الهزيمة المرحليّة في الانتخابات والقلق على مصير الدولة ومواطنيها، خاصّة اليهود العقلانيّين والمتنوّرين والمواطنين العرب، كمحفّز إيجابيّ دون الجلوس في البيت والتقوقع حزنًا وجمودًا ومراجعة بل ربما اختلاق السيناريوهات المرعبة والمقلقة والسوداويّة، وأسوأ من ذلك بدلًا من تنمية وتعزيز مشاعر الكراهية والإقصاء تجاه فئات أخرى، هي في الطرف الفائز، والاستعاضة عن ذلك بمزيد من التنظيم والاستعداد للمعارك القادمة واستخلاص العبر، ومحاولة وضع تصوّر مستقبليّ للعمل المشترك والمدروس وهو المطلوب بشكل خاصّ من الأحزاب العربيّة خاصّة والمواطنين العرب عامّة وهم أكثر المتضرّرين وأوّل المتضرّرين، وأقول هذا رغم ما سبق وأشرت إليه في مقالٍ سابق، من مسؤوليّة جزئيّة يتحمّلونها لنتائج الانتخابات الأخيرة وقبلها للوصول إلى انتخابات خامسة كانت معالمها واضحة ونتائجها كذلك، فالمواطنون العرب هنا وفي هذه الحالة وجراء الصدمة الكبرى التي أحدثتها نتائج الانتخابات والتي جعلتهم وعلى ضوء التركيبة البادية للحكومة القادمة يشعرون ربما بالقلق اليوميّ وربّما حتى الخطر الوجوديّ، عليهم الحذر من الإفراط في حالة الصدمة، كي لا تنطبق عليهم حالة شرحها الخبير النفسيّ ويليام ريفرس (william rivers) الذي عالج الجنود المصابين بصدمة الحرب أو بهلع القتال، خلال الحرب العالميّة الأولى واكتشف أنّ أكثرهم حدّةً وأقلّهم تماثلًا أو قابليّة للشفاء هم أولئك الذين تواجدوا داخل مناطيد المراقبة لتحرّكات العدوّ، لكنّهم كانوا الأقلّ حماية والأكثر عرضة للإصابة، فهم مكشوفون للعدو ولا قدرة لهم على الردّ بإطلاق النار، أو حتّى الهرب أو التحرّك من أماكنهم، وبالتالي الأكثر عرضة للخطر والأكثر شعورًا بقلة الحيلة والعجز. وهو ما على المواطنين العرب الحذر من التماهي معه أو تقمّص هذا الشعور ، بل عليهم أن يتجنّبوا الشعور بالعجز وقلّة الحيلة وبأنّه لا إمكانيّة لهم لعمل شيء أو تغيير الواقع خاصّة وأنّ مقابلهم قوى أكبر وأقوى، لأنّ هذا الشعور وعلاوة على كونه هدّامًا للروح والنفس فإنّه خاطئ ومغلوط، فإمكانيّات العمل البرلمانيّ والشعبيّ والقضائيّ موجودة وإن كانت ربّما أقلّ وربّما أصعب، ناهيك عن أنّه يجب تمنّي أن لا يسارع المشرّعون الجدد إلى سنّ قوانين غير ديمقراطيّة ومعادية للعرب، وعنصريّة بامتياز، أي أنّه يحظر على المواطنين العرب أن يحوّلوا أنفسهم بأنفسهم إلى "هدف ثابت" لمن يريد المسّ بهم لمجرّد كونهم عربًا.
" العودة إلى الجذور"
من السهل سنّ القوانين عنصريّة ومعادية كانت أم لا، لكنّ تغيير المجتمع بكامله أصعب بكثير، وأقصد هنا أنّه من السهل سنّ القوانين التي تزيد مثلًا من الميزانيّات المخصّصة للمواطنين العرب، لكن من الصعب تغيير مواقف مجتمع يهوديّ بكامله تجاه العرب والعكس صحيح. فمن السهل سنّ قوانين بأكثريّة ائتلافيّة تنتهج، بل تشرعن التمييز ضدّ العرب، لكن من الصعب تغيير كلّ المجتمع الإسرائيليّ بذلك الاتجاه، فلا يمكن لقانون عنصريّ سنّه مشرّعون أن يحوِّل أيّ مجتمع إلى عنصريّ بالكامل والعكس صحيح، وبالتالي فإحدى النتائج للسقطة المدوّية لأحزاب اليسار، وخاصة "ميرتس" يجب أن تكون العودة إلى الجذور، وزيادة وتعزيز العلاقات السياسيّة والشخصيّة مع هيئات ومواطنين عربًا داخل إسرائيل ومنظّمات وهيئات فلسطينيّة بما يعيد الشأن السياسيّ والاحتلال إلى مركز الاهتمام، أو حتى تشكيل حزب عربيّ يهوديّ حقيقيّ تسوده الشراكة. وليس كما هو الحال اليوم، حزب يهوديّ صهيونيّ ينتخب مرشّحًا عربيًّا، أو مرشّحًا يهوديًّا في حزب عربيّ يرفع راية الشراكة العربيّة اليهوديّة، ما يشكّل إنتاجًا لحالة جديدة تنهض من الخسارة بجسم جديد قابل للحياة يعيد لمؤيّديه شغفهم، في مواجهة الوضع الجديد الذي تكون فيه الصهيونيّة المتديّنة الكاهانيّة والعنصريّة صاحبة القول الفصل، خاصّة على ضوء ضعف وحاجة نتنياهو من حيث محاكمته واستعداده لمنح الشركاء كلّ ما يريدون بما في ذلك رفع الهبات المخصّصة للحريديم، والتي تمنعهم عمليًّا من مجرّد التفكير في الاندماج في سوق العمل وإبقائهم فقراء وجهلة (دون أن يستفيدوا من عبر الماضي وتجارب الشعوب الأخرى التي أثبتت أن الاعتماد على الهبات الماليّة الحكوميّة، أو الخارجيّة هو السبيل إلى فقر دائم، كما في عدّة دول عربيّة وإلى لجوء وعجز وقهر دائم، كما في حالة الأونروا واللاجئين الفلسطينيين)، وتشريع فقرة أو قانون التغلّب على المحكمة العليا، والتي تتيح للبرلمان بأغلبيّة عادية إلغاء قرارات المحكمة خاصّة تلك التي قد لا تتّفق ومواقف الشركاء في الائتلاف كقانون التجنيد، أو باسمه الدبلوماسيّ "قانون المساواة في تقاسم الأعباء"، أو قوانين أخرى لا يريدها إيتمار بن غفير، ولا بتسلئيل سموتريتش، ولا الحاخامات الذين "خرجوا عن نطاق الدين"، ووصلوا مرحلة السياسة والمطالبة بمنح المرشّح الفلانيّ ( بتسلئيل سموتريتش) الوزارة الفلانيّة ( وزارة الأمن)، ومواجهة حالة تسود فيها القوة والغطرسة بدل السلام الداخليّ والتفاهم، أو بكلمات أدقّ حالة على إسرائيل أن تحسم فيها أمرها وموقفها من السؤال حول ما إذا كانت الجنسيّة، أو المواطنة الإسرائيليّة المدنيّة ستكون صاحبة الغلبة والتفوق على العنصريّة واليهوديّة، أي انتهاء عهد الأحزاب الدينيّة اليهوديّة الصهيونيّة التي التقت فيها حقوق الإنسان، أو الحقوق المدنية للمواطنين كافّة، وعمليّة حماية دولة إسرائيل وبناء قوّتها (حزب المفدال- الحزب المتدين الوطنيّ)، والتي استبدلتها أحزاب تحمل مواقف متطرّفة تدعي ملكية أرض إسرائيل التاريخيّة، وليس إسرائيل والضفة الغربية فقط، بل مناطق إضافيّة يقول بعض المطالبين بها إنها تشمل الأردن وربما سوريا ومصر وغيرها، وهي المواقف والأفكار التي وجدت لها أرضًا خصبة بعد حرب حزيران عام 1967وحرب يوم الغفران، والتي ساد في مرحلة ما منها الخطر الوجوديّ على دولة إسرائيل، ليكون الردّ على ذلك تعزيز التوجّهات الخلاصيّة المسيحانيّة العنصريّة التي ربّت أجيالًا من طلبة المعاهد الدينيّة وفق مبدأ الفوقيّة اليهوديّة، أو الدولة لليهود فقط، وليس الدولة اليهوديّة الديمقراطيّة وبالتأكيد ليس الدولة الديمقراطيّة. وهي مواقف استغلّها ايتمار بن غفير لخلق الروابط والعلاقات بين جمهورين ومجموعتين أولهما الشبان اليمينيّين في الضواحي التي أيدت الليكود سابقًا، وثانيهما المجموعات العنصريّة وربما الخارجة على القانون التي تقدّس مواقف وآراء الحاخام مئير كهانا العنصريّة التي تطالب بإقصاء وطرد العرب، والحاخام دوف ليئور قائد المستوطنين مؤلّف كتاب" توراة الملك" الذي يجيز للمستوطنين قتل كلّ طفل فلسطينيّ لئلا يكبر، ليصبح مسلّحًا فلسطينيًّا يريد مقاومة الاحتلال، والحاخام المتطرّف يتسحاك غينزبورغ، والحاخام المشهور أبراهام يتسحاك هكوهين (الحاخام كوك)، الذي نقل عنه قوله إنّ "الفرق بين اليهوديّ وغير اليهوديّ أكبر من الفارق بين اليهوديّ والبهائم"، رغم أنه لم يعيد تكراره وهذا قول يؤكّد العنصريّة ومشاعر الفوقيّة الدينيّة اليهوديّة تجاه كلّ ما أو من هو غير يهوديّ. وهو ما ستشهده أو قد تشهده إسرائيل في ظلّ الحكومة الجديدة، التي وصفت بعض وسائل الإعلام يوم انتخابها وتنصيبها بأنه يوم أسود في تاريخها، محذّرة من أنّ إسرائيل قد أصبحت أكثر تطرفًا على نحو مرعب خلال السنوات الأخيرة. وأن كلّ الأمور التي جرى التحذير من احتمال وقوعها في السابق تحدث الآن أمام أنظار الجميع، إذ أُضفيت الشرعيّة على الكاهانيّة والكراهية والعنصريّة التي باتت منتشرة في أوساط الشعب في إسرائيل، والتي تعني تحويل إسرائيل من تجسيد للفكرة الصهيونيّة بإقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ إلى مشروع تسوده العنصريّة والتطرّف وفكرة تفوّق اليهود، وذلك على خطى الحاخام اليهودي المتطرّف مئير كهانا الذي يقتدي به بن غفير الذي أصبح الآن ثالث أكبر قوة سياسية في إسرائيل، وفاز في الانتخابات متقدّمًا على حزب المعسكر الرسميّ، الذي يقوده رئيسان سابقان لأركان الجيش الإسرائيليّ هما بيني غانتس وغادي أيزنكوت.
" غسيل دماغ على أساس دينيّ "
في هذا الأسبوع الذي يعقد البرلمان الإسرائيليّ فيه جلسته الأولى، وقبل أن تتضح التشكيلة، أو التركيبة الشخصيّة للحكومة القادمة، أي قبل توزيع الحقائب الوزاريّة والمناصب رسميًّا، ما زال الوقت مبكّرًا للحديث بشكّل مؤكّد عن سياسة الحكومة القادمة، لكن عودة نتنياهو لرئاسة الوزراء تحقّقت. ومن الواضح أنّه سيتمكّن من خلال ائتلافه من تنفيذ مخطّطه ضد الديمقراطيّة الإسرائيليّة، وليس ذلك فقط، بل إنه من الواضح أن إسرائيل تعيش من اليوم عهدًا تحوّلت فيه أراء كانت منبوذة ومرفوضة في البرلمان كمواقف الحاخام العنصري كهانا إلى مواقف يتبنّاها وزراء يطالبون علنًا بوزارات منها الأمن الداخليّ، ولا يتورّعون عن إعلان نيّتهم تغيير تعليمات إطلاق النار على المشبوهين (العرب طبعًا)، أو تهديد نواب عرب في البرلمان بإبعادهم وطردهم إلى سوريا وغزة، أو اعتقالهم والزجّ بهم في السجن لمجرّد امتلاكهم مواقف لا تتفق والصهيونيّة. وتطالب إسرائيل بالانسحاب من الضفّة الغربيّة المحتلّة، التي يعتبرها الكاهانيّون والمستوطنون ملكًا لليهود، وهي معتقدات بسيطة وواضحة يتم غرسها في رؤوس وأذهان الشبيبة اليهوديّة في إسرائيل، وإقناعهم أنها السبيل إلى خلاصهم من أعدائهم، وإلى العيش برغد وسلام وطمأنينة، عبر غسيل دماغ على أساس دينيّ يمكن وصفه بأنه استبدال للواقع بالغيبيّات والشعارات الدينيّة واستبدال للسياسة بشعارات متديّنة توراتيّة تؤدي إلى مواقف متصلّبة غير قابلة للنقاش، ترفض أيّ حوار سياسيّ، وتقدّس مواقف التطرّف التي تنطلق من إيمان مطلق بصدقها من جهة، وخطورة كلّ طرح مغاير من جهة أخرى، بل إنها ترى كلّ طرح مغاير أو محاولة لمناقشتها خطرًا وجوديًّا، وربما خطيئة لا تغتفر. وبالتالي فإن إسرائيل ما بعد انتخابات الأول من نوفمبر 2022 ستكون دولة تخلي الصهيونيّة كحركة علمانيّة أوروبيّة الساحة فيها لدولة لليهود فقط يسودها التطرّف القوميّ والدينيّ شعارها :" إذا كنا باسم الدين اليهوديّ وتعاليم التوراة نحتلّ ونتوسّع ونتطوّر ونقوى ونتغلّب على الآخرين فهذا دليل على أننا في الطريق الصحيح وأننا نفعل ما يمليه علينا الله وفق التوراة، أي أننا نتصرف باسم الله وكما يريد منا" وهذه مواقف خطيرة تمنع أي محاولة، أو إمكانيّة لمراجعة الذات والنقد الذاتيّ وترفض أيّ نقاش، أو محاولة للحوار والمساومة، دون اعتبار لكون إسرائيل تعيش منذ قيامها بفعل تأييد دول العالم وشرعنتها من دول أوروبيّة متحضّرة ومتنوّرة تريد الديمقراطيّة والمساواة، وهو عكس ما يبدو أن إسرائيل ستشهده قريبًا.
" أضغاث الأحلام"
وعودة إلى المواطنين العرب، فعليهم لمواجهة الوضع الجديد دراسة الواقع بجديّة، وقراءة تفاصيله ومفرداته والنظر إليه نظرة ثاقبة دون الانجرار إلى سيناريوهات الكوارث والسوداويّة، ودون تبني مواقف تقول إن "كل شيء قد انهار، أو بالعامية خِرْبَت الدنيا" ، بل علينا اليوم وصاعدًا كعرب أن ندرك أن علينا أن نعيش في واقع معين وحالة غير مثاليّة مع مواصلة النضال أمام تحديات أكبر للتأثير على هذا الواقع، وتغييره وتحسينه، وذلك لضمان إبقاء جزء على الأقلّ من أحلام الكاهانييّن والمسيحانيّين ضمن خانة الأحلام أو أضغاث الأحلام، مع تأكيد ثقتي أن الممارسة الديمقراطيّة في إسرائيل بكلّ مساوئها ستنتصر على أحلام الفئات الخلاصِيّة المسيحانيّة فيها وأن للدولة العميقة ( Deep State ) دورًا في الحسم بين الخيارين: المسيحانيّة والعنصريّة الدينيّة والقوميّة والفوقيّة العرقيّة، أو العيش بسلام داخليّ في الدولة بين مختلف فئاتها وخاصّة العرب واليهود والعيش بسلام مع الجوار ، وذلك بعد أن يدرك أولئك المسيحانيون أن العرب في إسرائيل والمنطقة لن يختفوا من تلقاء أنفسهم، وأنه لا يمكن لنصف الشعب اليهوديّ أن يحكم النصف الآخر، وأن يتجاهل وجوده ومتطلباته، وكأنه لا شيء. وباختصار أومن أن الديمقراطيّة الإسرائيليّة بكلّ مساوئها لن تسمح للمسيحانيّة والعنصريّة القوميّة أن تحرق الأخضر واليابس، وبالتالي فإن اختبار الحكومة الجديدة سيكون، أو سيتمحور حول ما إذا كانت ستجيد فهم حقيقة وجود فارق كبير بين الواقع وحيثياته وبين الأحلام وغيبيّاتها، وفهم الفارق بين حقيقة السماح بتفوّهات وتصريحات تذكرنا بأنظمة حكم ظلاميّة ومظلمة ودكتاتوريّة، وبين أن تتحوّل إسرائيل إلى دولة فاشيّة ودكتاتوريّة وظلاميّة، يشنّ فيها بتسلئيل سموتريتش وغيره ربما من الليكود أيضًا حربًا شعواء على الجهاز القضائيّ، لا تهدف إلى ترميمه (وهو بحاجة إلى ترميم)، بل إلى تقويضه إن لم يكن ترويضه وإخضاعه، بدعم من اليهود المتدينين الحريديم من أصول شرقيّة، والذين أصبحوا يمينيين متطرّفين يدعمون الأحزاب اليمينيّة المتزمّتة والعنصريّة، خلافًا أو بعكس تعليمات حاخاميهم وقيادتهم الدينيّة التي اعتمدت الاعتدال وتقديس الحياة ورفضت أيّ خطوة، بل ربّما حرَّمتها، إذا كانت قد تؤدّي إلى حرب ومواجهة مع الدول والشعوب المجاورة وبالتالي حرَّم قادتها في السابق، ومنهم الحاخام عوفاديا يوسف (والذي كان اسمه في مصر عبدالله يوسف) وغيره دخول منطقة الحرم القدسيّ الشريف والمسجد الأقصى، وقالوا إن حياة الإنسان أكثر أهميّة من الأرض فأجازوا اتفاقيات السلام ، بخلاف المتدينين اليهود من أصول أوروبيّة، ومنهم بتسلئيل سموتريتش الذي يعيش منذ ولادته في مستوطنات ووسط بيئة متطرّفة فوقيّة ترفض رؤية الآخر الفلسطينيّ، واعتباره إنسانًا له الحقّ في المسكن والملبس بل الحق في الحياة. وهو ما ينقلني إلى أوضاع المواطنين العرب في النقب، والذين يواجهون تحريض اليمين وحزب إيتمار بن غفير الذي يريد اليوم حقيبة الأمن الداخلّي ويرفع إلى جانب مسدسه، شعار "إعادة السيطرة والحوكمة في النقب"، ويطالب بزيادة الملكات في الشرطة بعدّة آلاف معتقدًا أن إعادة السيطرة وفرض القانون يمكن أن يتم بالقوة، أو ربما بمزيد من القوة، التي سيمارسها أفراد الشرطة بأوامر وزيرهم ضد المواطنين العرب البدو، والذين ما زال عشرات الألاف منهم يقيمون في قرى غير معترف بها، أو دون عناوين رسميّة، لأن السلطات الرسميّة تسجلهم بأسماء قبائلهم، وليس قراهم غير الموجودة أصلًا، وبالتالي يمكنها بجرّة قلم اعتبارهم، أو محاولة اعتبارهم "معتدين على أراضي الدولة"، وهم عمليًّا لا يتلقون الخدمات حتى أن 20% فقط من أطفالهم يتواجدون في الحضانات والأطر التعليميّة، ناهيك عن نسبة تسرّب هي الأعلى في إسرائيل وتبلغ 24%، متناسيًا أن المشكلة الأساسية في القرى والبلدات البدويّة هي انعدام مصادر المعيشة، وأماكن العمل، وانعدام المناطق الصناعيّة والخدمات البلديّة والاستثمارات الحكوميّة، وعدم وجود إمكانيّات وأماكن سكن. أضف إلى ذلك سياسة هدم المنازل بحجة إقامتها دون تراخيص، وانعدام الخدمات الحكوميّة الأساسيّة كمكاتب التأمين الوطنيّ، ومكاتب مصلحة الاستخدام والتشغيل ومحطات الإطفاء والشرطة والعيادات الطبيّة، وتدهور أوضاع المدارس وجهاز التعليم. وبالتالي فإن الانفلات الأمنيّ، وانعدام الحوكمة هما نتيجة حتميّة للفراغ الحاصل، وليس خيارًا للمواطنين يفضّلونه على إمكانيّات الحياة الهادئة والرغيدة، ما يعني أن المواطنين البدو وممثّليهم لن يعارضوا، بل ربما سيرحبون برغبة بن غفير زيادة أعداد أفراد الشرطة، لكن المثير للقلق هو ربما محاولته بالقوة الشرطيّة مواجهة مظاهر العنف في البلدات البدويّة، دون التطرق إلى الأسباب سابقة الذكر ومعالجتها، أي محاولة معالجة ظواهر المرض (الانشغال بالقشور والشعارات)، دون معالجة أسبابه الحقيقيّة ( الانشغال بالأسباب والمسبّبات وإزالتها). فالعنف وخرق النظام في هذه الحالة هو نتيجة انسداد الأفق وانعدام الأمل وإمكانيات العيش الطبيعيّ والمقبول، ونتيجة لتمييز حكوميّ متواصل هناك من يؤكّد كونه متعمّدًا ومرسومًا بسياسة واضحة.
ختامًا، لا بدّ من القول وباختصار إن إسرائيل تدخل مع حكومتها الجديدة عهدًا جديدًا يسوده الغموض، وتلفه المخاوف من تصفية حسابات حقوقيّة وعرقيّة وقضائيّة أسبابها سياسيّة تتلخّص في الرغبة في تحرير بنيامين نتنياهو من عبْء المساءلة القضائيّة، أو جر إسرائيل إلى حروب دينيّة وعرقيّة من منطلقات أساسها القوة والفوقيّة، ومن اعتبار أن النجاح يجعل اليمين متكبرًا ومتغطرسًا، ومن الجهة الأخرى فإن ذلك يستوجب من الخاسرين أن يتعلموا من فشلهم عملًا بقول زيغ زاجلر المؤلف ومحاضر التنمية البشريّة الأمريكيّ: " إذا تعلمت من فشلك فهذا يعني أنك لم تفشل أبدًا"، أو القول الشهير للممثل الأمريكي الشهير ويل سميث:" إذا كان النجاح يجعلك متكبرًّا فأنت لم تنجح أبدًا، وإذا كان الفشل يجعلك أكثر تصميمًا فأنت لم تفشل أبدًا".
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected].