يوسف أبو جعفر - صورة شخصية
ولذلك أشعر بسعادة غير اعتيادية خصوصًا عند سقوط زخات المطر الأولى، لها رائحة خاصة، رائحة خليط التراب مع الماء أجمل في أنفي من كل روائح عطور العالم، فهي الإعلان عن مولد حياة ودورة جديدة في العالم، أعرف خريف بلادنا وخصوصًا في الجنوب، يكاد الغبار يصبح السيد إلا أن حبات المطر الأولى تسيطر على كل الغبار وبدون ضجيج، تأخذنا نحو جمال الخريف الممزوج بزخات البركة القادمة من السماء.
المطر يجلو الأرض ينظفها يبين لنا بسهولة عوراتنا، فترى الشوارع بعد المطر الأول بين نظيفة وبين مملؤة ببرك الشتاء الصغيرة التي نتجت عن إنسداد مصارف المياه.
لكن يبقى المطر رائعًا، في طفولتنا امتلكنا حرية أكبر، كنا نخرج تحت المطر بدون خجل أو خوف، نبتل بل وبلهجتنا الدارجة كنا نقول نغرق في المطر، كانت أمهاتنا أقصى ما يفعلنه هو تغيير ملابسنا المبللة وإجلاسنا بجانب الموقدة، حيث رائحة الدخان تصبح عطر البدوي، فتدخل داخل مسامات جسد الشخص فيتمدد بفعل الرائحة والحرارة، لقد كانت الموقدة عبارة عن حطب يشعل في منتصف بيت الشعر ثم تحولت إلى كانون يملأ بالحطب، وفي السنوات الأخيرة أدخلنا إلى عالم البداوة المواقد الحديثة، تلك التي نستمتع بحرارتها ولا نَشُمُ رائحتها، ما عادت رائحة دخان النار عطرًا ، بل نهرب ونخشى أن تتسرب إلى ملابسنا وأجسادنا هذه الرائحة.
المدينة لا تستلطف رائحة الدخان، وتخشى حبات المطر الأولى لأنها تكشف ضعفها وعدم جهوزيتها، ونحن استسلمنا لهذا القدر.
جيل لا تدمع عيونه بسهولة
رُبما هناك تعليل وسبب حقيقي صحي للابتعاد عن دخان النار، ولكن الحقيقة أن شظف العيش والجهد المبذول لإشعال النار وتحمل رائحتها أخرج لنا جيلًا لا تدمع عيونه بسهولة، ولا يخاف السقوط على الأرض في وحل الشتاء وأمهات في نظرهن إبتسامة الطفل وهو يرتجف حول النار بسعادة أنه بعد قليل سيخرج محاربًا فوحل الشتاء ما هو إلا تدريب للقادم من الأيام.
ليس حنينًا للماضي، لكن الحقيقة هي أن الأوقات الصعبة تصنع مجتمعًا قويًا وأوقات الرخاء تنتج مجتمع أقرب نحو الميوعة منه نحو الرقي. ومجتمعاتنا العربية اليوم من النقب حتى الجليل، ومن المغرب العربي حتى الخليج هي تحت هذه المنظومة، فابناء شظف العيش أقدر على الصمود في وجه العواصف، وهم أقرب للواقع وهم أصحاب الأحلام الكبيرة.
رجال لا يخافون التجربة
السؤال المهم كيف نسيطر على هذه الحالة، كيف نؤكد لأنفسنا في زمن الرخاء حالة من التوازن فيها يتعود أبناء المدينة دخان النار ووحل الشتاء، كيف نضمن لأنفسنا رجالًا لا يخافون التجربة لأن داخلهم جوهرٌ لن يتزعزع بروائح عطور ميلانو.
أولئك الذين يولدون وفي أفواههم ملاعق من ذهب هم أحرص الناس على أن يمر أولادهم مراحل شظف عيش فتجدهم يعيشون بأقل من مستوى أقرانهم من الشباب، ولا تشعر للحظة أن هذا الشاب أو تلك الفتاة ولد لعائلة غنية، لقد شاهدت بأم عيني شباب إحدى العائلات التي تمتلك اقتصادًا هائلًا بمفهوم عالمي ومحلي يتجولون في إحدى قرى النقب، نظرت جيدًا إلى لباسهم، أبسط ما يكون، دون وجود أي ماركة عالمية وأحذيتهم كذلك، جلسوا القرفصاء على فراش التراب يعلوه، كان الإصغاء لكل كلمة كبير وتدرك ذلك من عمق الأسئلة التي يواجهونك بها، يومها شعرت أن كثير من أبناء العرب ما كان ليجلس هكذا، ولربما تأفف من المكان الذي يعلوه التراب( فالتراب هنا جزء من الحياة) نظرت إلى أولادنا وأحفادنا ماذا يلبسون وكيف نغالي في مظهرهم ونترك الجوهر.
أدرك تمامًا أننا أمام التحدي الكبير، ولكن وبكل بساطة أمام الجيل الحالي الذي يحلم بملابس وسيارات وطعام في مكان مشهور لن يأخذنا بعيدًا.
وحتى نلتقي، رائحة دخان الموقد يغسلها الماء والصابون، ووحل الشتاء العالق كذلك، سوى أن ما يبقى بعدهما هو الجوهر الذي يصنع جيلًا قويًا متماسكًا، أخشى عليكم من شتاء قادم ووحل كثير، يصمد فيه فقط أولئك الذين عاشوا الشظف، أخشى أن نستمر في استهلاك كل الموديلات التي يصنعها الأغنياء للفقراء، فإن لم نصحو مؤكد أننا بحاجة عندها إلى فيضان لينظف كل مصارف المياة مما علق فيها من قاذورات، وليس من بينها دخان الموقدة.