logo

مقال | الفرق الشاسع بين إعلان الدولة وبناء الدولة

بقلم : المحامي زكي كمال
21-10-2022 02:21:24 اخر تحديث: 21-10-2022 02:38:55

هما نوعان من الأحداث تشهدهما دول العالم المختلفة، لكنّ الفارق بينهما هو الفارق بين الدولة القويّة والديمقراطيّة وبين الدول الضعيفة، أو تلك الآيلة


تصوير بانيت

 إلى السقوط والانهيار، أولهما تغيير السلطة بشكل ديمقراطيّ، حتى وإن كان بوتيرة سريعة، كما كان الحال في إيطاليا، وكما هو الحال في السنوات الثلاث الأخيرة في إسرائيل التي تشهد انتخابات برلمانيّة خامسة قد لا تكون الأخيرة، دون حسم واضح
. وهو واحد من سمات الدولة الديمقراطيّة والقويّة والمتماسكة حتى الآن، وثانيهما تغيير مبنى الدولة كلما تغيّرت السلطة خاصّةً، وإن هذا التغيير لا يتم بشكل ديمقراطيّ، ولا بقرار داخليّ، بل بتدخّلات خدمةً لأهداف جهات خارجيّة، وعادة ما تتغيّر معها طبيعة الدولة وتوجّهاتها، كما حدث في إيران بعد انهيار نظام الشاه محمد رضا بهلوي، وصعود الثورة الخمينيّة، وغيرها من الحالات، وهو ما يثير مرّة أخرى، وكلّ مرّةٍ من جديد السؤال الأزليّ حول أسباب ودوافع ومبرّرات البون الشاسع بين الأمرين سابقي الذكر، وأسباب وجود الأول في دولة دون غيرها، أو وجود النوع الثاني من الأحداث في منطقة دون غيرها وأكثر من غيرها، بمعنى التساؤل حول المنظومة، أو المقوّمات التي تجعل دولة ما قوية ومؤثّرة دون غيرها، ودول أخرى ضعيفة ربما في نفس المنطقة، وهو سؤال لا بدّ من طرحه في هذا الزمن حيث الكثير من المناطق في العالم  تعاني معظم دولها حالة ضعف دائمة، بحيث تتغيّر الدولة كلّها بتوجّهاتها وسياساتها ومواقفها وتطلّعاتها كلّما تغيّر الحاكم، وذلك وسط تكرار أحداث تدفع الدولة نحو الضعف، وأبرزها الحروب والصدامات الدينيّة والقبائليّة والطائفيّة، فيما يبدع قادة هذه الدول في الوقت نفسه، في خلق آليّات واستراتيجيّات النجاة ويطيلون مدّة بقائهم في سدّة الحكم4، أو بالأساس بشكل غير ديمقراطيّ، وليس وفق إرادة الشعوب، بل فوق إرادتها، ويضمنون عمل المؤسّسات ضمن مستويات منخفضة، وإن لم تكن بالضرورة كافية فيستمر الضعف، فيما يتم تجنّب الفشل وتفادي الانهيار، بينما تنعم قلّة قليلة من الدول بالهدوء والاستقرار السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والإنسانيّ، ويتم فيها تغيير السلطات عبر الطرق الديمقراطيّة، ومنها في الشرق الوسط ، المملكة الأردنيّة الهاشميّة، والتي تشهد منذ استقلالها عام 1946، او الإعلان عن الثورة العربيّة الكبرى بقيادة الشريف حسين، عام 1921، استقرارًا مردّه  انتخابات ديمقراطيّة برلمانيّة تشارك فيها كتل برلمانيّة مختلفة، تختلف في المواقف والطروحات، لكنها تتّفق على أمر واحدٍ وهو أن مصلحة الدولة ككلّ، وكمؤسسة تحكم العلاقات بين مواطنيها هي الأهم، إضافة إلى إسرائيل التي تشكّل حالةً خاصة منذ تأسيسها عام 1948، يتم فيها استبدال السلطة وتغيير أحزابها ورؤسائها وتوجّهاتها عبر انتخابات، تنتهي رغم الفوارق الأيديولوجيّة والدينيّة، ورغم الصراعات والنزاعات الداخليّة وسنعود إليها لاحقًا، إلى حسم ديمقراطيّ يعني أن الدولة ماضية قدمًا رغم زوال مؤسسيها وقادتها ومنظّريها وغيرهم من الرموز والشخصيّات التي يؤدّي زوالها في بعض الدول الضعيفة إلى تفكّكها وربما انهيارها

هذا السؤال ربما يعتبره البعض فلسفيًّا ونظريًّا لكنّه على النقيض من ذلك، فهو سؤال يتعلّق بالنظريّات السياسيّة التي تحاول وضع الإصبع على قائمة المقوّمات، أو المكوّنات لبناء دولة مستقلّة وقويّة ديمقراطيّة، أم ملكيّة ديمقراطيّة، أو غيرها. وهو سؤال حول الدولة ونشأتها وطبيعتها ووظائفها، أشغل المفكرين والخبراء السياسيّين والذين أجمعوا على أن استراتيجيّة بناء الدولة، لا بدّ أن تبدأ على أكثر من مسار في وقت واحد، أولها هو بناء الإنسان، وهو من الضروريّات والمستلزمات الهامة وثانيها المسار السياسيّ، إذ لا بدّ من إحداث إصلاح حقيقيّ وجذريّ لتعزيز التوجّهات الديمقراطيّة، والتي تؤمن أن الحفاظ على هويّة الدولة، يقترن بعملية بناء الأمّة، وهي عمليّة دعم التكامل القوميّ الوطنيّ عبر إنشاء مؤسّسات قوميّة وطنيّة مشتركة تؤكّد وحدة الهدف والمصير، وأن إشكاليّة بناء الدولة لدى العديد من الدول الضعيفة تكمن في ضعف الحكم والإدارة والتنظيم، وضعف المؤسسات وعجز الدولة عن بناء المجتمع، ورأب التصَّدع بين السلطة والمجتمع من خلال التنمية البشريّة والسياسيّة الصحيحة وتقوية المؤسّسات القائمة، وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتيّ.

قوّة الدولة تكمن في قدرتها المؤسساتيّة والإداريّة على وضع السياسات وسن الأنظمة والقوانين، ووضعها موضع التنفيذ، لأنّ قوّة الدولة تقاس بمدى كفاءة وفعاليّة وقدرة مؤسّساتها على أداء وظائفها، والأهداف المختلفة المنوطة بها في الحاضر، وتلك الأهداف المستقبليّة، والتي لا يمكن لها أن تكون آنيّة، بل مدروسة ووفق خطط واضحة، فعمليّة بناء الدولة المستقرّة والقوية تقوم على ثلاثة أسس رئيسيّة وهي العامل الأمنيّ، والسياسيّ والاقتصاديّ، وإن بناء الدول بالأساس يجب أن يعني نهاية، أو حلّ النزاعات بين المجموعات المختلفة الإثنيّة، أو الدينيّة، وعلى أساس ذلك لا يمكن أن يتم بناء الدولة دون ضمان الاستقرار الأمنيّ، فعلى أساسه تتحقّق الأسس الأخرى، كعنصر الاستقرار السياسيّ والمشاركة السياسيّة، وعندها يُفسح المجال أمام التنمية الاقتصاديّة والرفاهية على مستوى الفرد والمجتمع.

 

" مقوّمات الدولة القويّة والمستقرّة"
ما قلته سابقًا وإلى حدّ كبير ينطبق، بشكل خاصّ، على دولة إسرائيل رغم المآخذ على سيرورتها، فهي دولة مكوّنة من مجموعات يهوديّة وصلت من مختلف دول العالم، من شرقها حتى غربها ومن شمالها حتى جنوبها، من أوروبا وأمريكا وأفريقيا والدول العربيّة، أي مجموعات ما يفرقها من اختلافات فئويّة وداخليّة وثقافيّة وحضاريّة، أكثر بكثير ممّا يجمعها جماعيًّا وقوميًّا وسياسيًّا، لكنها اليوم، بل منذ ولادتها تمتلك مقوّمات الدولة السياسيّة والاقتصاديّة والتقنيّة والعسكريّة ، ومقوّمات الدولة القويّة والمستقرّة، وهي التواجد بالتساوي في جميع أقاليمها ومناطقها واستقلاليّة الجهات الحكوميّة الفاعلة عن تلك غير الحكوميّة، وممارسة السلطة بطريقة مستقلة وديمقراطية وفرض سيادة القانون على كامل مناطقها، وامتلاكها  القدرة على تنفيذ طموحاتها، تمامًا كما تمتلك مقومات الدولة القادرة على توحيد شعبها ووقف كل صراعاته ونزاعاته الداخلية، فهي التي اعتبرها مؤسّسوها ابتداءً من بنيامين زئيف هرتسل، بوتقة ينصهر فيها الجميع يوحّدهم العامل المشترك، وهو انتماؤهم إلى الدولة وإلى اليهوديّة كعامل قوميّ ربما وليس دينيًّا، وقيامها بتوزيع الخدمات على كافّة فئات الشعب بنوعٍ من المساواة على الأَقلّ في بداية عهدها وعقودها الأولى، وقدرتها على تغيير السلطات بشكل رسميّ وديمقراطيّ ومتفق عليه، وجعلها التنمية والتطوّر الاجتماعيّ هدفًا أساسيًّا ورئيسيًّا، ما يشكّل، وللأسف، نقيض ما يجري في عدد من دول لا تتّبع الوسائل الانتخابيّة والبرلمانيّة لاستبدال الحكم ونقل السلطات، فالأمنيات لا تبني دولًا، ولا الشعارات، بل تبنيها مشاريع وطنيّة عمادها عقود اجتماعيّة ومؤسّسات دستوريّة، وقانون سيّد الجميع، وبيئة سياسيّة تعدديّة شفّافة ومساءلة دون مهادنة، وقضاء مستقلّ، وإعلام حرّ، وتعاون مع مؤسّسات المجتمع المدنيّ.

في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن ما سبق ينعكس في سياسة أربعة من قياديي دولة إسرائيل، أوّلهم زئيف بنيامين هرتسل، وهو واضع الأسس النظريّة لإقامة دولة اليهود، والذي وضع القواعد لبنائها، وفي النهاية أرض فلسطين بدلًا من أوغندا، أو منطقة أخرى، وهو الذي ولد في بودابست العام 1860 لأب ثريّ قدّم لابنه الدعم الماليّ والمعنويّ في كافّة نشاطاته، وتلقّى تربية وتنشئة ألمانيّة من جهة والدته، والتحق بكليّة الحقوق ونال الدكتوراه في القانون، وأخذ يعمل في المرافعات في إحدى محاكم النمسا، ثم قدّم استقالته، وانتقل إلى الكتابة الصحافيّة كمراسل لإحدى الصحف النمساويّة في باريس. دخل عالم السياسة والتقى الشخصيات البارزة التي كانت تلعب أدوارها السياسية، وأقام معها علاقات وديّة، بحكم مهنته الصحافيّة، وكانت قضية الضابط اليهوديّ درايفوس في فرنسا نقطة تحوّل في حياته، إذ أصبح أكثر اطّلاعًا ومعرفة بالمشكلة اليهوديّة، وانتشار مظاهر اللاسامية في أوروبا. وهذا الوضع دفعه إلى القيام بسلسلة من اللقاءات مع زعماء اليهود لإيجاد حلول مناسبة ومخارج للمشكلة اليهوديّة. فكان لقاؤه العام 1895 مع البارون هيرش، ولم يتمخّض هذا اللقاء عن فائدة. والتقى مع أحد أفراد عائلة روتشيلد والنتيجة مشابهة، وقام بنشر كتابه "دولة اليهود" في  فيينا عام 1896 والذي أحدث ضجّة كبيرة وجدلًا واسعًا في الأوساط اليهوديّة. وهنا نجح هرتسل في ضمان دعم تيّارات وأفراد أخذوا بالانضمام إليه وقدموا له الدعم اللازم في سبيل عقد أول مؤتمر صهيوني في بازل، وهو المؤتمر الذي رسم مصير القضية اليهوديّة، فركّز جهوده على الالتقاء مع الزعماء السياسيّين في العالم بشكل مباشر ودون وسطاء، ووجّه عنايته إلى التقاء القيصر الألمانيّ فيلهلم الثاني والسلطان العثمانيّ عبد الحميد الثاني مستفيدًا من التقارب السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ العثمانيّ - الألمانيّ. وانتهز فرصة إعلان القيصر الألمانيّ فيلهلم الثاني نيّته زيارة العاصمة العثمانيّة إسطنبول وفلسطين، فقام مستشار القيصر وصديق هرتسل بترتيب لقاء له مع القيصر في إسطنبول، وطلب هرتسل في لقائه مع القيصر أن يضمن له موافقة السلطان العثمانيّ بالسماح لليهود الاستيطان في فلسطين وإقامة حكم ذاتيّ، ثمّ نجح وحدّد لقاء مجدّدًا بينهما في فلسطين في مستوطنة "مكفيه يسرائيل"، ثم في القدس، حيث قدّم هرتسل ومؤيّدوه مشروعًا مفصّلًا للقيصر الألمانيّ، والذي قدم بدوره جوابًا بأن الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتحقيق. كما نجح في العام 1901 بعد سلسلة من الجهود أن يلتقي بالسلطان العثمانيّ عبد الحميد الثاني، حيث طلب منه منحه امتيازًا يسمح لليهود بالهجرة والاستيطان في فلسطين، وألمح السلطان عن حاجته لسدّ عجز خزينة سلطنته، وتابع هرتسل مساعيه لدى السلطات العثمانيّة واستُدعي بعد تسعة أشهر إلى إسطنبول حيث قام بإجراء سلسلة من المباحثات مع السلطان، وكان اقتراح الصدر الأعظم أن يدفع اليهود ديون السلطنة مقابل نيلهم امتيازًا لاستغلال مناجم في الدولة العثمانيّة، وأن يسمح لليهود في الاستيطان في كلّ مكان من السلطنة العثمانيّة ما عدا فلسطين. من هنا توجه إلى بريطانيا بعد فشل كلّ محاولاته مع ألمانيا وتركيا. وكان هدفه من هذا التوجّه الحصول على امتياز من بريطانيا لتوطين اليهود في قبرص، أو شبه جزيرة سيناء بشكّل مؤقت، ريثما تُحلّ القضية اليهوديّة جذريًّا، فوافق وزير المستعمرات البريطانيّ تشمبرلين على توطين اليهود في منطقة العريش شمالي سيناء. ولقد قوبل هذا الاقتراح بموافقة واسعة وكبيرة من الأوساط الصهيونيّة، لأن العريش قريبة من فلسطين، ورغم ذلك فقد كانت زيارة واحدة إلى فلسطين كافية ليتحوّل حلمه بإقامة وطن لليهود إلى فكرة بلورها ورسم خطوطها في كتابه وعرضها في المؤتمر اليهوديّ الأول لتنتهي بوفاته عام 1904، مرحلة التخطيط، وتبدأ مرحلة التنفيذ مع الزعماء اليهود الذين تبعوه وتلوه  ومنهم زئيف جابوتنسكي الأب الروحيّ للحركة الإصلاحيّة اليهوديّة اليمينيّة، والتي أنبتت الليكود اليوم، والذي قاده بعده مناحيم بيغن، وهو الذي آمن أن الدولة تقوم على أسس واضحة هي القوة العسكريّة، والقوة الاقتصاديّة والصناعات التكنولوجيّة. وذلك انطلاقًا من إيمانه أن "الشعوب العربيّة والدول العربيّة لن تقبل بوجود إسرائيل في الشرق الأوسط إلا بعد أن تتيقن هذه الدول أنه لم يعد بإمكانها هزم إسرائيل وإبادتها، أي بعد أن ترفع هذه الدول الراية البيضاء عسكريًّا"، وتلاه دافيد بن غوريون رئيس الوزراء الأول في إسرائيل، والذي اعتبر أن مهمّته الأساسيّة هي إنهاء "التشرّد اليهوديّبعد "ألفي عام"، ولم ينحرف أبدًا عن هذا الهدف، فقد كان يعتقد أن الهجرة هي التي أبقت الحركة الصهيونيّة قائمة، لأن اليهود كانوا أقلية في فلسطين في ذلك الوقت،  ومن أجل خلق وطن قوميّ يهوديّ ديمقراطيّ، كانت هناك حاجة لمزيد من الهجرة، عليه القيام بتوزيعها جغرافيًّا في كافة المناطق، فانشغل بإقناع اليهود بالسكن في منطقة النقب ضمن خطة "إحياء القفر" التي كان من طلائعييها حتى أنه أقام منزله في مستوطنة " سديه بوكير" ، في محاولة لتواجد جغرافيّ يتلوه تواجد أمني يمنع احتلال أراضٍ إسرائيليّة في أيّ حرب قادمة، فقد كان  بن غوريون ومنذ عام 1945، مقتنعًا بأن شبح الحرب مع الدول العربيّة يلوح في الأفق رغم أنّ القليلين وافقوه هذا الرأي، ولم يخشَ اتخاذ قرارات حسّاسة عندما انطوت على مخاطر ومنها قبول التعويضات الألمانيّة كما بنى قوة إسرائيل العسكريّة، واشترى الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا، ويقال بدعم الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، والغوّاصات من فرنسا والتي تم "تهريبها" سرًّا من ميناء شيربورغ الفرنسيّ، وغير ذلك من الخطوات التي ساهمت في تعزيز قوة إسرائيل العسكريّة.

 

"الحلم الصهيونيّ"
وعودة إلى ما سبق، فالمقوّم الفكري هو مقوّم أساسيّ في بناء الدولة، وهذا يشمل محاولة بناء وصياغة "رواية حضاريّة وثقافيّة" تجمع كافّة شرائح المجتمع والدولة قوامها الكتاب والمسرح والسينما والصحافة والإبداع وغيرها، وكلّها عوامل تساهم في بناء الرواية القوميّة والوطنيّة، وهذا كان دور اللغة العبريّة التي تم إحياؤها في فلسطين بعد أن اندثرت أو كادت تندثر، واستبدلتها  في أوروبا لغة " الييديش" انطلاقًا من إيمان الحركات المتدينة اليهوديّة أن اللغة العبريّة هي لغة الكتاب المقدس، أي التوراة أو العهد القديم، وبالتالي من المحظور أن يتكلّمها العامّة، لكن إليعيزر بن يهودا (1858-1922) رفض ذلك معتبرًا أن "هناك ثلاثة أشياء محفورة بأَحرف من ذهب على راية القوميّة : وطن، لغة قوميّة، تراث وثقافة قوميّة.   ومن هنا كان الرائد الحقيقيّ في عمليّة إحياء اللغة العبريّة الحديثة، إذ ساهمت نشاطاته في هذا المجال في نشوء الهويّة الصهيونيّة التي تم توظيفها لبناء رواية قوميّة ورابط قوميّ يضمّ مختلف الطوائف اليهوديّة، وذلك تمهيدًا لتحقيق "الحلم الصهيونيّ" الهادف لأنشاء دولة يهوديّة في فلسطين. وهكذا فإن إحياء اللغة لم يكن وسيلة لخلق وسيلة للحديث والتواصل فقط، بل كان جزءًا من حالة ساهمت في نشوء الايديولوجية وتأسيس الدولة اليهودية ،حتى انه حيث  نُقَّلَ عنه قوله بأنه "لا وطن بدون لغة ولا لغة بدون وطن"، فعمل جاهدًا على تحويلها من مجرّد لغة مكتوبة خاّصة بالطقوس الدينيّة إلى لغة تستعمل في الحياة اليوميّة، لتصبح لغة اليهود القوميّة، إسوة باللغات القوميّة للشعوب الأوروبيّة المختلفة، مؤكّدًا أن إحياء اللغة العبريّة سيكون بمثابة المؤشر على أن بعث الأمة اليهوديّة بات وشيكًا، ولن يتأخر أكثر، وهكذا أصبحت اللغة العبريّة  تشكّل رمزًا للهويّة الصهيونيّة، وعامل وحدة لغويّ للمهاجرين اليهود الذين يتدفّقون على فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر متّخذين منها لغة موحّدة قادرة على تجميع الشتات اليهوديّ، ثم توظيفها في التعبير عن الشخصيّة القوميّة اليهوديّة، بكلّ ما تحمله من دلالات، إضافة إلى أنه من بين  أهداف إحياء اللغة العبريّة أيضًا حماية اليهود من خطر الاندماج والانصهار في المجتمعات التي يعيشون فيها نتيجة فقدانهم لغة الأجداد، فتجدهم اليوم فيما بينهم يتكلّمون اللغة العبريّة، حتى لو كانوا يعيشون في الولايات المتحدة، أو غيرهم باعتبار ضمانها وصيانتها صيانة للتراث والقوميّة والوطن، بخلاف دولٍ وشعوب ضعيفة  تعتبر استخدام اللغة الأجنبيّة ونسيان لغة الأم دليل رقيّ وتطوّر. كما أصبحت لغة التعليم الرسميّة في المدارس واللغة الرسميّة في البلاد الى جانب اللغة العربيّة حتى تم سنّ قانون القوميّة عام 2018، واليوم تكتمل هذه الصورة في ما ورد في الكتاب الجديد لبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيليّ سابقًا الذي قال فيه إن الدولة القويّة والمستقرّة إنما تقف على أرجل ثلاث هي القوة التكنولوجيّة، والقوة الاقتصاديّة اللتين تجعلان من الرجل الثالثة قائمة وموجودة وهي القوة العسكريّة. ويضيف أن هذه المقومات الثلاثة هي التي مكّنت إسرائيل من الصمود ومواصلة وجودها حتى اليوم دون أن تكون إحداها على حساب الأخرى، فالاقتصاد والتكنولوجيا هما "قوة ناعمة" لا يمكنها أن تضمن الأمن،  ولا أن تنتصر على الأعداء، حتى أنه يقول إن مفتاح السلام والتطور هو الدمج الصحيح والمناسب بين القوة الناعمة  الثقافيّة والديمقراطيّة الاقتصاديّة والتكنولوجيّة، والقوة "الصلبة" وهي القوة العسكريّة، وبالتالي فإن القوة الصلبة يجب أن تشمل مواصلة الدفاع عن الوطن، ومنع قوى الظلام حتى وإن امتلكت الاقتصاد والتكنولوجيا، من امتلاك القوة العسكريّة، وهو ما تفعله إسرائيل في الشأن النوويّ الإيرانيّ على حدّ قوله، ناهيك عن أن نتنياهو يؤكّد أن اتفاقيّات السلام مع الدول العربيّة بما فيها اتفاقيّات أبراهام، ما كانت لتخرج إلى الوجود لولا امتلكت إسرائيل المقوّمات الثلاثة سابقة الذكر، في تجسيد لقول زئيف جابوتنسكي، والده ومصدره الروحي أنه مع العرب يمكن خوض الحرب، وليس السلام وذلك حتى يقتنعوا أن إسرائيل قويّة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وعسكريًّا فينشدون قربها والسلام معها، عملًا بالقول:" إذا لم تتمكّن من هزيمته فعليك مصالحته".

الفارق بين ما سبق عن دولة إسرائيل، ورغم انتقاداتي التي لا تنتهي لسياساتها، وما فيها من تمييز وعنصريّة وإقصاء للغير خاصّةً إذا كان مختلفًا قوميًّا ودينيًّا، وربما ما تشهده في السنوات الأخيرة من إقصاء خاصّة من قبل اليمين والمستوطنين، لكلّ ما هو مختلف حتى لو كان سياسيًّا وحزبيًّا وعقائديًّا، ما ينذر ربما بصدامات داخليّة إذا خفتت التهديدات والأخطار الخارجيّة، هو الفارق بين دولة تم بناؤها بشكل مدروس، وواصلت صيانة نظامها الصحيح من استبدال للسلطة بشكل سلميّ وتطوير القواسم المشتركة حتى لو كان بعضها مصطنعًا، ولغاية في نفس يعقوب كإنكار النكبة، واعتبار أن هذه البلاد كانت فارغة خالية خاوية أو بالإنجليزيّة " نو مان لاند No Man Land"  ، ومن ثم تكريسها وصيانتها وبناء القوة الاقتصاديّة والتكنولوجيّة والعسكريّة. وفوق كلّ ذلك توزيع السكان على كافّة أمصار ومناطق البلاد بعكس دول تسودها مساحات شاسعة غير مأهولة، وتنعدم فيها العدالة وتوزيع الثروات وسيادة القانون حتى أن السلطات الرسميّة تتخلّى عن دورها في مناطق معيّنة منها لصالح جهات غير حكوميّة تحاول سدّ الفراغ الذي خلقته السلطات الرسميّة في كافّة المجالات كالتعليم والبنية التحتيّة والصحّة والرفاه وغيرها، ما يفسح المجال أمام تدخّلات أجنبيّة، ويخلق حالة خطيرة مفادها أن دور هذه الجهات غير الحكوميّة ونشاطها قد يتوقف فجأة، كالأونروا على سبيل المثال، أو صيانة وإقامة البنى التحتيّة وعمليّات التثقيف الصحيّ في بعض الدول،  والتي تتم بتمويل أوروبيّ أو أمريكيّ، وبالتالي فإن ما يصيب الدول الضعيفة وغير المستقرة هو نتاج بناء غير صحيح وتجاهل لمقوّمات بناء الدولة، أو الاعتماد على عنصر واحدٍ دون غيره كالنفط في دول الخليج، دون تطوير قوة عسكريّة

[email protected]استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات لـ
لمزيد من مقالات اضغط هنا