سليمان سعد أبو ستة - صورة شخصية
والنية لها أربعة معانٍ رئيسية نرصدها في هذا المقام، ليتضح هدفنا الذي نسعى إليه.
النية بمعنى القصد، كأن يقف المسلم للصلاة فينوي أن يصلي العصر أربع ركعات، فنيته هنا قصده أن يصلي العصر وليس الظهر أو العشاء، ورغم أن النية مقرها القلب؛ إلا ذلك القصد قد يكون ظاهرا للناس، يفهمونه من سلوكه، فإذا رأوا رجلاً يسرع السير وقت الصلاة ناحية المسجد، يفهمون أن نيته الذهاب إلى المسجد للصلاة، وقد تكون النية بهذا المعنى خفية، كمن يسير وقت الصلاة متجها إلى المسجد؛ ليتوهم الناس ذهابه إليه، بينما نيته التوجه لمكان آخر خفي.
وهذا القصد قد يكون خالصا لوجه الله تعالى لا شريك له، فهنا يأتي مفهوم النية بمعنى الإخلاص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها، أوْ إلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ" "صحيح البخاري"، فمن هاجر من أجل الله تقبل الله عمله، ومن هاجر لأهداف أخرى لا يتقبل الله منه شيئاً.
والمعنى الثالث للنية هو تحويل العمل الدنيوي العادي إلى عبادة يتقرب بها المؤمن إلى ربه، يبتغي به مرضاته سبحانه وتعالى، فكل النساء تصنع الطعام لزوجها وأطفالها، لكنها قد تفعل ذلك كواجب اجتماعي فقط لا يخطر في بالها أنه لله تعالى، وقد تفعل ذلك كعبادة تستحضر نية واحدة من أجل الله تعالى أو مجموعة من النوايا، فهي تفعل ذلك لتدخل السرور عليهم، ومن أعظم الأعمال أن تدخل على الناس السرور، وهي تفعل ذلك من أجل يتفرغوا لعمل صالح كطلب العلم مثلا، وهي بذلك تساعدهم على التقرب من الله تعالى، ولها في هذا نصيب كبير من الأجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فَمِ امْرَأَتِكَ" "صحيح البخاري".
وكل الموظفين يذهبون إلى أعمالهم ويخدمون عموم المواطنين بذلك، لكن هنالك فارق بين من يفعل ذلك لمجرد تأدية واجب، وبين من يفعله خدمة للناس ابتغاء وجه الله، وفي خدمتهم أجر كبير، وإتقانا للعمل وفي هذا أجر كبير، ولتيسير حياتهم، والرفق بهم، وذلك واجب شرعي مفروض.
وكذلك من يساهم في تطوير واقع الأمة في الصناعة أو الزراعة أو الاقتصاد ابتغاء وجه الله تعالى، ومحاربة الجهل والمرض والتخلف والظلم والاستبداد من أجله تعالى.
والواجب على المسلم العاقل أن يعمل على أن يكون عمله كله عبادة يتقرب بها إلى الله، حتى نومه ويقظته، وأكله وشربه، وذهابه وإيابه، وحبه وكرهه، فحياته كلها عبادة لله، "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، فكل خير يفعله المؤمن ابتغاء وجه الله عبادة عظيمة.
أما المعنى الرابع للنية فهو القرار المستقبلي الجازم بفعل خير ابتغاء وجه الله تعالى وإن كانت الظروف الحالية لا تسمح بفعله، فهو هدف في سبيل الله يعمل لتحقيقه المؤمن ويحرص عليه ويجتهد في تحقيقه، وقد تكون تلك النية في الشر، وعندئذ يحاسب عليها الإنسان وإن لم يفعلها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بسَيْفَيْهِما فَالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ قُلتُ (أي راوي الحديث: أبو بكرة نفيع بن الحارث): يا رَسولَ اللَّهِ، هذا القَاتِلُ، فَما بَالُ المَقْتُولِ؟ قالَ: إنَّه كانَ حَرِيصًا علَى قَتْلِ صَاحِبِهِ" صحيح البخاري.
وهذا معنى عظيم قد قصّر فيه المسلمون تقصيرا كبيرا، فمن منا نيته أن ينفق في سبيل الله مليار دولار، أو أن يصنع طائرة، أو يبني مدرسة متقدمة، أو يؤسس مركز أبحاث يخدم مصالح الأمة، أو يكون من كبار علماء الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء، أو ينشر المعرفة السياسية العميقة بين المسلمين، أو يكون أحد كبار المخترعين، أو المبرمجين لتطوير أمته، أو أن ينشر أفكار الخير بين الملايين من المسلمين، أو أن يساهم في تأسيس نظام قضائي مستقل، أو بناء أحسن نظام صحي، أو تأسيس دولة حرة ترفع لواء الإيمان وكرامة الإنسان، وتحارب الفقر والجهل والتخلف.
وقد يكون الإنسان شاعرا باستحالة فعل ذلك، لكنه يكافح من أجل تحقيقه لما يتطلع إليه من أجر عظيم، مدركا أنه نجح فاز فوزا عظيما، وأنه إذا لم ينجح وقد فعل ما عليه من محاولات لتحقيق نيته كان من الفائزين أيضاً، فهو مبعوث على نيته تلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ يُبْعَثُونَ علَى نِيَّاتِهِمْ" صحيح البخاري.
وهنا قد يسأل سائل: وهل الأمر سهل إلى هذا الحد، والجواب: أنه لابد أن يحرص على نيته كحرص ذلك الرجل على قتله صاحبه في الحديث سابق الذكر، ولابد أن يأخذ بالأسباب، ويدعو ربه ويتضرع إليه أن يمكنه من نيته التي يريد، فإن فعل ذلك كان فائزا، كما قال النبي مبينا شيئا من ذلك: "لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا، فَسَلَّطَهُ علَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، وآخَرُ آتاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهو يَقْضِي بها ويُعَلِّمُها" (صحيح البخاري) أي لا يتمنين أحد أن يكون مكان أحد إلا في هذين العملين الصالحين، وأمثالهما من الصالحات العظيمة، التي تساهم في نهضة الأمة، وإسعاد الإنسان.