مصطفى عبد الفتاح - صورة شخصية
إنَّما هو دليل على خواء وفراغ فكري، وتخبط لا مبرر له، وبحث عن مناصب وليس مكاسب. والنِّقاش الحقيقي مُغيب وهو نقاش على الهوية، وقد غُيّب أو غاب بسبب المماحكات السياسية، واقتناص الفرص من أجل افتعال الخلافات والصراعات الفارغة، لمكاسب آنيَّة والتي شعبنا، وبسبب ما يعانيه من آفة العنف والتَّهميش والتَّجهيل، بغنى حقيقي عنها.
الاعتماد الكلي في نضال قياداتنا على ردود الفعل، على ما يجري من احداث أو مواقف عنصرية مُنفلتة مُتطرّفة ومتشنّجة عند اليمين الصهيوني، وهذا هام وضروري، ولكنَّها تبقى في خانة ردود الفعل، ولا ترقى الى ان تكون طريق نضالي، ورؤيا ومسار نضالي مرسوم ومدروس نابع من قناعة راسخة مُرتبطة ارتباطًا عضويًا بعمل وتصرفات صاحب الموقف، ومتجذّرة ونافذة لدى جماهير شعبنا الفلسطيني ويبقى رد الفعل مُجرد تعبير عن حالة، تنتهي بانتهاء الفعل.
انا لست غاضبًا ممَّا حدث من إنقسامات وإنهاء الوحدة المصلحية المشتركة بين الأحزاب السياسية في القائمة المشتركة، ولا أبالغ إن قلت أنَّني تمنَّيت ذلك، هذه الأحزاب إذا استثنينا الجبهة الديمقراطية كقوة متجذرة وعميقة جدًا في وعي وتاريخ شعبنا فإنَّها أحزاب توحَّدت حول مصلحة واحدة وهي عبور نسبة الحسم والوصول الى البرلمان، على حساب الموقف والمبدأ والطَّريق، فكانت المشتركة هي الحاضنة الطبيعية لهذه الأحزاب جميعًا.
كانت الجبهة الديمقراطية هي الام وهي البوصلة والموجه للجميع، هي الَّتي تلقت كل الضربات الموجعة التي حصلت، لأنها كانت في المقدمة وفي القيادة، وهي من لامها الجميع على أي خطأ، وربَّما سيعاقبها البعض في الانتخابات القادمة، ولذلك كان هناك خمول وركود في الحراك والعمل السياسي الميداني اليومي، وهذا انعكس سلبًا على الشارع في قرانا ومدننا.
هكذا توقَّفت جميع الأحزاب عن أداء دورها الوظيفي الطبيعي في التَّوعية والتَّثقيف السياسي والوطني وأصابها نوع من الشَّلل، وأصيب العمل الجماهيري والشعبي في الصَّميم بالشلل وانعدام وضوح الرؤيا والاركان أن شعبنا سيصوّت دون جهد لأنَّه لا خيار أمامه، والشعوب كما نعهدها تُمهل ولا تُهمل.
الادهى والامر في هذا المسار، انَّ الأحزاب السياسية المشتركة في اللحظة التي شعرت فيها بانها تملك شيئًا من القوّة، رفضت التوجه الأساس، في الموازنة بين الهوية القومية والوطنية والمدنية، الذي رسمت معالمه ولو بقلم رصاص، الجبهة الديمقراطية، شبَّت على الطَّوق وراحت تبحث عن طريق ونهج خاص بها، لتثبت قوتها، وتتموضع في مكان افضل في ترتيب القائمة المشتركة، وما افتعال الخصام وتحميل الجبهة عبأ ما ذهبوا اليه الا لذر الرماد في العيون وحرف مسار النقاش عن طريقه وإيجاد السبل للخروج من مأزق المشتركة الذي وضعوا أنفسهم فيه، مجبر أخاك لا بطل، والبحث عن خلاصهم وتوحيد صفوفهم.
كان من المفروض أن يوحي هذا التَّطور على السَّاحة السياسية إلى نُضج سياسي ووطني لاجتياز حالة التَّخبط والتَّشرذم والجمود في العمل التي وصلت اليها قيادات شعبنا في الفترة السابقة من الانتخابات البرلمانية، وبدل أن تكون الانتخابات رافعة وقوة تعبئة جماهيرية ، بالشعارات الوطنية وترسيخ الهوية والاسس التي يجب ان يرتكز عليها شعبنا والقيم والاخلاقيات التي يجب ان نظهرها، ونذوتها لابنائنا ولشعبنا ، فقد ذهبت هذه القيادات تلهث خلف القشور وتقدم للناس حالة من النزاع المفتعل وحالة من التخوين وشعارات لا رصيد لها، وحالة من التَّمسكن من أجل استدرار عواطف الناس بدل مخاطبة العقول والهدف الأوَّل هو الوصول .
من يتمعَّن في القوائم الثلاث التي تشكَّلت، بعد تجربة المشتركة، يقينًا سيعي ويعرف عمق الازمة الَّتي يتخبط فيها شعبنا الفلسطيني وفي صلبها وأساسها قضية هويته الوطنية والنموذج الأفضل الذي عليه أن يتَّخذه في طريق نضاله، وكانت الجبهة الديمقراطية ومركباتها هي صمام الأمان في الحفاظ على مركبات هويتنا الثلاث، القومية العربية، الوطنية الفلسطينية، والمدنية الاسرائيلية، مع إعطاء كل هوية حقها او ما تستحقه من جهد من اجل تحقيقها تحقيقا عادلا والحفاظ عليها، وقد تاهت الجبهة في صراعها على الهوية المدنية وتحصيل الحقوق وقيادة الكتلة البرلمانية الثالثة بحجمها في الكنيست، تحت اسم المشتركة، من أجل تحصيل الحقوق والوصول إلى المساواة والميزانيات وغيرها، فأغفلت الهوية القومية والوطنية، أو على اعتبار أنَّها وصلت وعي ووجدان المواطن، وخاصة أنَّ الساحة السياسية وبعد الأركان على المشتركة ودورها اهملت هذه الهويات حتى ظنَّ البعض قاصدًا أو لم يقصد، أنَّ بالإمكان التَّنازل عنها نهائيًا، والتَّعامل مع شعبنا الفلسطيني على انَّه مُجرد مُجتمع لا رابط، ولا تاريخ، ولا حضارة ولا حتى لغة تجمعه وتوحده، انَّما أفراد واشخاص يعيشون في الدَّولة على الفُتات، أو مِنَّة من الشعب الآخر، وهذا ما فعلته عمليًا الموحَّدة، فسقطت في الهاوية وقلَّصت دورها وفكرها ومواقفها في العمل للحصول على الفتات الذي لم تحصل عليه.
بعد انفصال الموحَّدة عن المشتركة في الانتخابات السابقة وسلوكها الغريب بالتَّخلي النهائي والتام عن هويتها الوطنية والقومية، والتمسّك المُفرط بهويَّتها المدنية، واعتبار نضالها البرلماني هو سر وجودها ومركز ورمز قوتها وبقائها، وسلوكها التفريطي عن الثوابت الأساسية لبقائنا كشعب أدى الى تجريدها من كلّ القيم حتى بدون الفتات او ما يدعى الميزانيات، فأصبحت مثل مصيفين الغور بالعراء، لم يكسبوا شعبهم، ولم يكسبوا مصالحهم من الشَّعب الاخر.
في هذا الجو القاتم الذي عاشته الأحزاب السياسية تتخبَّط في وحل السياسة الإسرائيلية التي لا تقيم وزنًا لاحد غير شعبهم، كان من المفروض تعميق العلاقة وتوطيدها وتجذيرها بين الأحزاب التي شكَّلت المشتركة، مقابل الموحدة وطرحها التفريطي المُهادن، وحتى دخولها إلى الائتلاف الحكومي لتصبح جزءًا من السياسة الإسرائيلية ومن القرارات الجائرة ضد مصالح شعبنا، بل جزءًا من جلادي شعبنا، فراحت المشتركة تعمل على اظهار أخطاء الموحدة ونقاشها، وكذلك مقارعة سياسة اليمين المتطرف أمثال بن غفير واسقاط نتنياهو وغيرها من مواضع مفروغ منها بالعداء لشعبنا، بدل وضع استراتيجية عمل على تثقيف وتوعية المواطن، ليتجنب الانزلاق الى هاوية الموحدة .
رأى التَّجمع الصّورة واضحة، وقرأ الخارطة السياسية بتمعن، معظم كوادره كانت نائمة ومغيبة في المشتركة، وتقف على الحياد بسبب مواقف بعض قياداتهم المعادية للجبهة ونهجها السياسي بالأساس، ومن المشتركة بشكل عام التي الغت دورهم وتميزهم السياسي وبقوا في الظل يبحثون عن فرصة، والبعض بسبب موقفه الرافض للعمل البرلماني.
في اوّل فرصة مواتية، وبعد أن ظنوا انَّهم لوحدهم يستطيعون الوصول، وحتى لو من باب التجربة، وقد عماهم أيضًا سطوع نجم سامي أبو شحادة في الصحافة، واستغلال مكانته في طرح موقف التَّجمع دون أن يُلطّخ نفسه بالسياسة العامة، أو التَّفاعل التَّام مع العمل الميداني، فعمل على إقامة هالة شخصية من حوله، حتى أصبح التصويت عندهم لسامي وليس للتجمع، وبذلك إعادة بعض الكوادر التي وقفت على الحياد ولم تحرك ساكنًا في الانتخابات السابقة. هكذا وبتخطيط مُسبق بطرح طريق ثالث بديلًا، وقبل افتعال قضية تسجيل الأحزاب، رأى البعض ان الوقت قد حان، فقفز التجمع من المركب موليًا الادبار
استغل التجمع الموقف قبل أن تتوتر العلاقات مع المشتركة، طرح الطريق الثالث وهو بذلك يطرح بديلًا يتخلى فيه كليًا عن الهوية ثلاثية الرؤوس بهوية دولة كل مواطنيها، التي تبدوا كالمدينة الفاضلة عند افلاطون.
ظن التجمع ان استعداء الجبهة والمشتركة بافتعال خلاف معها، وكأنها تريد مسح التجمع عن الخارطة السياسية، قد يكسبه جولة انتخابية، وضربة قاضية للمشتركة، ويبرز خياره الثالث، ويجمع الناس من حوله، مما اثار نقاشًا سطحيًا لا طائل منه، وحال انتهاء هذه الزوبعة عاد العقل والمنطق إلى الجميع وفُهمت القضية انها زوبعة في فنجان، وقضية انفصال نهائي للخروج إلى طريق ثالث. يبدوا أنَّ هذا الانفصال، وهذا النَّهج، ومن الاحصائيات والتقارير الانتخابية سيودي إلى خسارة فادحة يدفع ثمنها الجميع.
مما لا شك فيه انَّنا كشعب اصلاني متجذِّر، وكمجوعة سكانية متجانسة فانَّ مُركب هويتنا ليس خيارًا وليس قرارًا انما هو واقع لم نختره ولا نستطيع الفكاك منه أو التخلي عنه او حتى عن جزء منه، ونحن لا نريد، ما دام هذا هو واقعنا وحالنا الذي نعيشه.
ان الثقافة الجامعة والموحدة والموجهة للكل الفلسطيني هي الضّمان الأول لتوجيه البوصلة، وتحديد المسار الوطني والاجتماعي المُوحّد، فليس خافيًا علينا هذا التفكك الاجتماعي والاسري، والتَّشرذم الانتمائي الضَّيق، وبالتالي انهيار لبعض القيم الأخلاقية التي كنا حافظنا عليها، مما يستدعي العمل الواعي على استنهاض الهمم وترتيب البيت بخلق أجواءٍ ثقافيةٍ مشجعة وداعمة لقوى المُجتمع الخلَّاقة.