الشيخ مأمون مطاوع - صورة شخصية
والعناية والمحبة والعطف وعلينا ان نوفرها لهم واستشارة أهل العلم والأطباء في التخفيف عنهم"
بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يصادف العاشر من الشهر الحالي ارتأيت ان أشارككم بما جاء من فلسفة الإسلام في التعامل مع مرضى الحالات النفسية. بداية: الانسان هو اسمى مخلوقات الله تعالى وقد فضله على جميع مخلوقاته واختصه بمزايا انفرد بها وهي مزية العقل والتفكير والمنطق, والخوف والسعادة. وجعله بطبعه وفطرته مدنيا يسكن بجماعات وبذلك تساهم مدنيته في بناء الحضارة والتعاون لتحقيق الغايات. وغرس فينا المشاعر والرحمة اتجاه جنسنا واتجاه غيرنا من المخلوقات. قال الله تعالى: ( وجعل بينكم مودة ورحمة ) الروم 21.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام : "من لا يرحم لا يُرحم" رواه البخاري.
قال النبي الكريم: "جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ في الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذلكَ الجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الخَلَائِقُ، حتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عن وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ " رواه مسلم .
فانظر الى صور الرحمة اتجاه المخلوقات الأخرى والرحمة عليها: قال النبي عليه الصلاة والسلام " بيْنَا رَجُلٌ بطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عليه العَطَشُ، فَوَجَدَ بئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقالَ الرَّجُلُ: لقَدْ بَلَغَ هذا الكَلْبَ مِنَ العَطَشِ مِثْلُ الذي كانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ البِئْرَ فَمَلَا خُفَّهُ مَاءً، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وإنَّ لَنَا في البَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقالَ: في كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ. رواه البخاري.
مما سقناه من جملة الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يتبين لنا حجم وقيمة الرحمة التي ينبغي علينا ان نحملها بين اضلعنا وفي حنايا الافئدة وخلجات الفكر والنفس. هذا مع غير العاقل من الحيوان والطير, فكيف ذلك بين بني البشر او بين اهل المجتمع الواحد او اهل البيت الواحد ؟
فكلما كانت تجليات الرحمة والعطف بمستوى افضل بين الناس كلما شعرنا بالسعادة والبركة اكثر, وكلما رضينا عن انفسنا اكثر. فقال النبي عليه الصلاة والسلام " مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " رواه البخاري.
نظر الإسلام الى الانسان نظرة التكريم فجعل حوله ما يحميه من العبث للحفاظ على كينونته ومقامه وقنن مقاصد عليا تحمي حركته وحريته, وتلك تعتبر قانون انساني اساس وهي: الحفاظ على الدين , والنفس, والعقل , والعرض, والمال. وتلك هي الضروريات الخمس والمقاصد الخمس العليا التي ينبغي ان نحفظها ولا نضيعها وتكون ضمن أولى الأولويات. ومن هنا نقول ان المس بأحد هذه الضروريات يستوجب القصاص او مقاضاة من يتعرض لها اتجاه غيره من الناس. لكن ربما تكون هنالك احداث او نوازل ليس للناس فيها دخل او سلطة لمنعها او تغييرها, ومنها الموت او الجنون او المرض النفسي او نوازل سماوية اذهبت الممتلكات. فتلك يتلقاها الانسان المؤمن والرحيم والمستسلم لقضاء الله تعالى بكل رضى وصبر عليها, بل ويتعامل معها وكأنها نوع من الحياة الطبيعية. طبعا هنالك من الناس من يجزعون ويتأففون ويتعاملوا مع تلك النوازل والحالات وكأنها مصائب وانتكاسات حياتية لا يمكنهم العيش والتعامل معها. ومن ذلك: محور موضوعنا وهو المرضى النفسيين او ذوي الاحتياجات الخاصة النفسيين مثل: امراض الصرع, والاكتئاب, والانفصام, وحالات الهلوسة, والتفكير غير المنطقي, وحالات العصبية المفرطة. وكلها بمجملها تحت خانة المرض النفسي.
كيف نظر الإسلام لهذه الشريحة ؟ وكيفية التعامل معها ؟
الأول: نظر الإسلام اليهم أولا كبشر لهم حق العيش بكرامة وسعادة ورعاية خاصة بل وجعل لمن يعتني بهم اجر وثواب عند الله تعالى وهم مرضى بنوع مختلف, فالمرض أنواع كما ذكرنا, والصبر عليه وعليهم كمصابون من الايمان لقول الله تعالى ( واصبر على ما اصابك ان ذلك من عزم الأمور ) لقمان 17. وقال تعالى ( والصابرين في الباساء والضراء ) البقرة 177. وقال تعالى ( ربي الذي يطعمني ويسقين واذا مرضتُ فهو يشفين ) الشعراء 80. النظرة العامة بالضبط كاي انسان آخر نزل به مصاب , ومن منا يأمن ان يبقى سليم ومعافى في كل حين ؟
الثاني: اما التعامل معهم فيجب ان يكون تعامل وعناية خاصة وذلك لحاجتهم لتلك العناية فهم على أحوال فربما اقعدهم المرض عن السير وقضاء الحاجة, وربما ان احدهم ابكم , او ضرير , او اصم , او مريضا نفسيا لا يدري ما يفعل او لا يملك العقل الكافي لتمييز الصواب من الخطأ او الخير من الشر, او يتصرف دون وعي بسبب ذهاب عقله او بسبب حالته النفسية. فالله تعالى لم يكلف انسان فوق طاقته البدنية والعقلية فقال تعالى: ( لا يكلف الله نفسا الا وسعها ) البقرة 286. وقال ( ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ) النور 61. فالله تعالى الذي ابتلاهم بذلك المرض قد رفع عنهم الحرج في تصرفاتهم ! فكيف بك انت أيها الانسان ؟ واذا كانت الاحداث التي سقناها من احاديث شريفة عن التعامل مع غير العاقل من الحيوانات , وكيفية الادب الأخلاقي الديني الرحماني معها , اليس من باب أولى العطف على الانسان العاجز بأنواع العجز وخاصة المريض النفسي الذي يعتبر عندها بشر غير عاقل وغير مدرك لأفعاله ؟!؟ . نعم هو من باب أولى .اسمع قول ابنُ عَبَّاسٍ لأحد الصحابة قال: ألَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قَالَ: هذِه المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ؛ أتَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ، وإنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجَنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أنْ يُعَافِيَكِ، فَقَالَتْ: أصْبِرُ، فَقَالَتْ: إنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لي ألَّا أتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا " رواه البخاري . انظر الى الرقي الإنساني في التعامل معها , فلم يهملها النبي حاشاه وانما علمنا الرحمة معها . المرض ليس بأمر يستحى ويتوارى منه او من المريض ذاته , فكل انسان ربما يبتلى بالمرض او العجز بعد الكبر الذي يصيب البعض بالخرف فيتصرف كالذي ذهب عقله ! هل نهملهم او نحبسهم في غرف لا يراهم بها احد فيزيد مرضهم وتزيد احزانهم كما نسمع ونرى في حالات بعيدة عن كل إنسانية ! لماذا نستحي منهم امام الغير ؟ فلربما يكونون مصدرا للسعادة في الدارين وليسوا مصدر تعاسة ونوع من الحرج امام الغير . اين نحن من حديث النبي الذي اوردناه "من لا يرحم لا يرحم " ؟ هم اكثر الناس حاجة الى رعاية وعناية ومحبة وعطف بسبب حالتهم وضعفهم . اليسوا كالاطفال الصغار في السنوات الأولى ؟ من منا حبس او اخفى صغيره ؟! لكن نعم البعض يخفي اباه او امه او ابنه او اخاه في غيابات الغرف النائية او المشافي التي يبتعد فيها عن احب الناس اليه واكثر من يُنتظر منهم المساعدة والرعاية . على كل واحد منا ان يقيس المسألة على نفسه هل يرضى ان يُهمل لو حدث معه حالة ومرض نفسي غير حياته؟ فإذا امرنا بالرحمة مع الحيوان فكيف هي مع الانسان ؟ جاءت تعاليم الدين بأكمله تقوم على الاعتقاد بوحدانية الله تعالى ثم على علاج النفوس البشرية من امراضها الباطنية النفسية فقال تعالى: (فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج 46 .فانظر الى كم مرضى النفوس الذين يحتاجون الى رعاية روحية ونفسية!