logo

منظمة الأمم المتحدة ‘ الرجل المريض‘ في القرن الحادي والعشرين !

بقلم : المحامي زكي كمال
08-08-2022 07:56:52 اخر تحديث: 18-10-2022 08:00:22

لم تكن كلمة رئيس الوزراء الإسرائيليّ يائير لبيد، أمام الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة، خلال انعقادها في نيويورك نهاية أيلول 2022، بمثابة جديد يذكر، بل

 
المحامي زكي كمال

كانت بمثابة قديمٍ يُعاد، رغم حديثه الخجول عن حلّ الدولتين، وهو حديث لم يكن مشروطًا وخاليًا من الرصيد فحسب، بل إنه يتجاهل، وبشكل مقصود، أن الفلسطينيين حسموا أمرهم منذ العام 1993 عبر اتفاقيّات أوسلو التي سبقتها رسائل متبادلة بين الراحلين ياسر عرفات وإسحق رابين أكّد فيها ياسر عرفات اعتراف  منظمة التحرير بحقّ دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن، وأن المنظمة تقبل قراري مجلس الأمن رقمي 242 و338، مضيفًا أن المنظمة تلزم نفسها بعمليّة السلام في الشرق الأوسط وبالحلّ السلميّ للصراع بين الجانبين، وتعلن أن كل القضايا الأساسيّة المتعلّقة بالأوضاع الدائمة سوف يتم حلّها من خلال المفاوضات. ولذلك، سيتم تعديل الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ وملاءمته، بل قبل ذلك ومنذ العام 1988 بإعلان الاستقلال الفلسطينيّ الذي تضمّن الحديث عن إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة وفق ترسيم الخط الأخضر، وبالتالي لم يكن هناك أي مبرّر موضوعيّ في رأيي لمدى الاهتمام الإعلاميّ، وخاصّة الإسرائيليّ، بمضمونه وفحواه لولا توقيته عشية الانتخابات  البرلمانيّة الخامسة على التوالي التي تشهدها إسرائيل، والتي يصلها يائير لبيد لأول مرّة رئيسًا للوزراء حتى لو كان بديلًا لنفتالي بينيت الذي لم تطل ولايته، ويصلها غريمهما الأزليّ بنيامين نتنياهو لأوّل مرة منذ عقدين من مقاعد المعارضة محاوِلًا العودة إلى سدّة الحكم بعد أربع حملات انتخابيّة فشل في تحقيق الأغلبيّة البرلمانيّة فيها، وهو الأمر نفسه في حالة خطاب الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس، الذي لم يكن فيه جديد يقال، بل قديم يعاد خاصّة توجهه إلى المحافل الدوليّة، ومطالبة الأمم المتحدة بمنح الفلسطينيين مكانة العضو الدائم في الجمعيّة العموميّة، أي الاعتراف بالدولة الفلسطينية دولة كاملة العضوية، وليست بصفة مراقب كما هي اليوم ( يشاطرها الفاتيكان هذه المكانة).

وهي دعوة لا جديد فيها ولا طائل منها ولا فائدة من ورائها، لكنها تعبر عن استمرار حالة عدم فهم الساحة الدوليّة، فكيف يمكن التعويل على هيئة دوليّة يعترف القائمون عليها ومن رافق بداياتها وخباياها أن هدفها الأول والوحيد كان منع حرب عالميّة ثالثة، نوويّة كانت أم تقليديّة. وهي ربما نجحت في ذلك حتى الآن، ولكن بفضل لجم الدول العظمى، أو المالكة للأسلحة النوويّة نفسها بنفسها، ليعود خطر الحرب النوويّة مرة أخرى بسبب الحرب الأوكرانيّة الروسيّة، بينما فشلت في كافة القضايا الأخرى ومنها النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ والحرب العراقيّة والحرب في اليمن والحرب في سوريا، وكذلك الحرب الأهليّة في يوغسلافيا وأثيوبيا وغيرها، كما فشلت في منع المذابح في رواندا وغيرها. وليس ذلك فقط، بل شارك جنود "قوات حفظ السلام" التي أرسلتها الأمم المتحدة ، في ارتكاب فظائع خلافًا لمهامهم،  بمعنى ان الرئيس الفلسطيني يريد حل "مشكلة اليوم" بوسائل الأمس، بل أول الأمس التي عفا عليها الزمن، تمامًا كما عفا على الأمم المتحدة نفسها التي يصف البعض اجتماعات جمعيتها العموميّة، والتي تجمع سنويًا ولمدّة أسبوع رؤساء 193 من الدول الأعضاء ووفودهم، بأنها تحوّلت من "أسبوع سياسيّ " بامتياز  انتظره العالم على أحرّ من الجمر منتظرًا ما سيقوله الزعماء فيه خاصّة خلال الحرب الباردة التي انتقلت إلى قاعات الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، فتحدث خلالها الرئيس الكوبي فيدل كاسترو لمدّة 3 ساعات وأكثر وخلع نيكيتا خروتشوف الروسي نعله، وضرب به منصة ومنبر المتحدثين متحدّيًا الولايات المتحدة ومحاولات هيمنتها، إلى أسبوع سياحيّ بامتياز، ما يعزّزه الصور التي تكشف حجم مشتريات ومقتنيات بعض الزعماء، وخاصّة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي انتشرت صور مقتنياته من الهدايا والأدوات الكهربائيّة والتكنولوجيّة، والتي بلغت حمولة شاحنات صغيرة الحجم، ما يدفعني هنا  إلى القول وعلى وزن القول الشهير: "فيني فيدي فيتشي" وهي العبارة اللاتينية الشهيرة ومعناها "أتيتُ، فرأيتُ، فانتصرتُ" التي أطلقها الإمبراطور يوليوس قيصر في إحدى حروبه الشهيرة سنة 47 قبل الميلاد، وتعتبر أقصر خطبة في التاريخ، إن اجتماع الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة أصبح يندرج تحت شعار:" جئت ، تكلمت، فاكتفيت"، وهو ما تؤكده المعلومات الواردة  حول "بازار شرقي" تقوم بعض الدول الصغيرة فيه "ببيع حقّها في الكلام كلّه أو بعضه" أمام الأمم المتحدة ومدته 15 دقيقة لكلّ دولة، إلى دول أخرى يريد قادتها الحديث من على هذا المنبر، معنونين كلامهم إلى شعوبهم ومؤيديهم، أي إلى الرأي العام الداخليّ، كحالة يائير لبيد وقبله بنيامين نتنياهو بخطابه الشهير أمام الأمم المتحدة عشية الانتخابات وخطاباته أمام الكونغرس الأمريكي أيضًا حول إيران، وكذلك محمود عباس.


لم يكن يائير لبيد بحاجة إلى منبر الجمعيّة العامّة لعرض مواقفه السياسية، لكنها فرصة مواتية عشية الانتخابات ، للحديث إلى الشعب في إسرائيل كرئيس للوزراء وزعيم دولة، من على منبر أمميّ، لم يتورع لبيد وغيره من القادة في إسرائيل منذ دافيد بن غوريون الذي أطلق عبارة "الأمم المتحدة فارغة المضمون"، أو مندوب إسرائيل حاييم هرتسوغ الذي مزّق قرار الجمعية العامّة الذي وازى بين الصهيونيّة والعنصريّة عام 1975، كما مزّق سفير إسرائيل الحالي غلعاد أردان قرارها (مجلس حقوق الإنسان) في أكتوبر 2021 واصفًا إياه بأنه معادٍ للساميّة،  على مهاجمته واصفين إياه بالانحياز وعدم الموضوعيّة، لكنّها غاية تبرر الوسيلة، فالعالم العربيّ ومعه الفلسطينيون ما زالوا، دون غيرهم وأكثر من غيرهم، يقيمون لقرارات الأمم المتحدة والشرعيّة الدوليّة وزنًا، تسليمًا بالغيب أحيانًا وجمودًا في الماضي أحيانًا أخرى، ويأسًا وقنوطًا وتسليمًا مرات أخرى بأنهم لن ينجحوا لأسباب يعرفونها أكثر من غيرهم، بتجنيد دعم عالميّ يمكِّنُهم من اتخاذ قرارات دوليّة، أو حتى قرارات ملزمة في مجلس الأمن الذي تشلّه حقوق النقض "الفيتو"، وبالتالي يكتفون بمنصّة تعتبر قراراتها مجرد توصيات غير ملزمة تراكمت في إدراج التاريخ المغبَرَّة. من المؤكد فشل الأمم المتحدة في إرساء السلام الدوليّ، وتحصيل حقوق الشعوب الضعيفة، وحلّ القضايا الدوليّة الحساسة، وعدم قدرتها على القيام بالدور الرئيسيّ، الذي تأسست من أجله في أعقاب الحرب العالميّة الثانية، وهو منع حرب عالمية ثالثة، نوويةً كانت أم تقليديّة، كما قلنا، فلعبت الأمم المتحدة دورًا مباشرًا في حلّ أكبر وأخطر مواجهة شهدناها خلال الـ75 عاما الماضية، وهي أزمة الصواريخ الكوبيّة، كما قال ستيفن شليزنغر، مؤلف كتاب "آكت أوف كرييشن"  الذي صدر عام 2004 عن تأسيس الأمم المتحدة. ويظهر هذا العجز بشكل فاضح في أزمات الشرق الأوسط، حيث يعتبر مراقبون أن تفاقم مشاكل المنطقة منذ 2011 مهّد لكتابة شهادة وفاة هذه المؤسسة التي أصبحت "الرجل المريض للقرن الحادي والعشرين"، ما يثير مجددًا التساؤل عمّا إذا كان هناك مبرر لوجودها كمنظمة أمميّة في عالم أحادي القطب، وفي حالة يشكّل فيها تضارب مصالح القوى الكبرى في العالم، ومواجهة الأمم المتحدة لعدد هائل من الأزمات التي يصعب حلّها في كثير من الأحيان   أهمّ أسباب عجز المنظمة الدولية عن القيام بما هو منتظر منها.

" ضرب عصفورين بحجر واحد"
خطاب رئيس حكومة إسرائيل يائير لبيد الذي قال فيه أن الاتفاق على أساس دولتين هو الحلّ الأمثل لأمن إسرائيل واقتصادها، دون أن ينسى أن يشترطه بأن يتنازل الفلسطينيون عن العنف، وبأن تكون الدولة الفلسطينية المستقبليّة مُحبّة للسلام وأن تلقي سلاحها، بعدها لن تكون هناك قيود. وليس ذلك فقط، بل إنه توجه للفلسطينيين قائلا "ألقوا أسلحتكم، وأثبتوا لنا أن حركتَي حماس والجهاد الإسلاميتين لن تسيطرا على الدولة الفلسطينيّة التي تريدون إقامتها، ألقوا سلاحكم وسيحلّ السلام"، جاء " لضرب عصفورين بحجر واحد"، أولهما ليس من باب الأهميّة للبيد ربما، ضمان تأييد الرئيس الأمريكي، جو بايدن، والإدارة الأمريكيّة الجديدة (تمامًا كما كانت خطابات نتنياهو أمام الجمعيّة العامّة في عهد إدارة ترامب تتحدث عن رفض حلّ الدولتين، بل الرغبة في الضم – تماهيًا مع موقف إدارة ترامب ومساعديه كوشنير وغرينبلات والسفير اليهوديّ اليميني ديفيد فريدمان)، أي أن الخطاب يتساوق مع التوافق المعلن مع موقف الإدارة الأمريكيّة بالحفاظ على إمكانيّة حلّ الدولتين، وثانيهما أن مضمون الخطاب جاء بالأساس لأغراض انتخابيّة داخليّة، فلبيد يريد عرض نفسه بديلًا لبنيامين نتنياهو الذي قرر ضم الضفة الغربيّة وغور الأردن، وخيارًا يختلف عن بيني غانتس الذي اتحد مع جدعون ساعر الذي يرفض إقامة دولة فلسطينيّة، وأنه يريد أن يقول: "أنا مختلف أريد حل النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ  وتغيير الوضع القائم، أما غيري  من المرشحين فهم سيان لا فرق بينهما"، وبالتالي يمكن الجزم بأن الخطاب لم يأت مفاجئًا للحلبة الحزبيّة في إسرائيل، التي اعتبرته جزءًا من محاولات لبيد تحريك المعركة الانتخابيّة الداخليّة، فهو اتبع الطريقة الإسرائيليّة المعهودة التي تقول نعم، ثم تردف ذلك بشروط تجعل الـ "نعم" مستحيلًا من جهة، وتضمن إلقاء مسؤوليّة هذه الاستحالة على الطرف الآخر، وهو الضعيف كالطرف الفلسطينيّ في هذه الحالة، انطلاقًا من إيمان إسرائيل أنها أكثر قدرةً على شرح موقفها وإقناع العالم به، عبر منظمات اللوبي اليهوديّ في أمريكا وغيرها من الدول كبريطانيا وألمانيا التي زارها محمود عباس مؤخّرًا مخلّفًا أزمة سياسية كبيرة وعارمة معها، إضافة إلى ما أثبتته التجربة التاريخيّة والسياسيّة من أن الفلسطينيين يرتكبون الخطأ تلو الآخر في توجههم إلى دول العالم، وهي التي فقدوا تأييد بعضها بعد اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل والدول الخليجية قبل عامين، ناهيك عن أن الفلسطينيين، وكما أكّد خطاب الرئيس عباس يواصلون نهج عدم المبادرة والاكتفاء بالشكوى والتذمّر والتنديد، وموقع المُدافِع عن النفس أو حتى المتهم، الذي يستخدم أدوات عفا عليها الزمن، تمامًا كما كان منذ نحو مئة عام، حيث لم يبادر الفلسطينيّون بأنفسهم إلى أي اقتراح للحلّ، ربما باستثناء اتفاقيّة المبادئ، أو اتفاق أوسلو باسمه المعروف، فالحكم الذاتيّ الذي رفضوه نهاية سبعينيّات القرن الماضي، كان ضمن مبادرة سلام مصريّة، ومبادرة السلام العربيّة كانت كما اسمها عربيّة، أو سعوديّة تحديدًا، وفوق ذلك تعتمد إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة – كما فعلت إدارة ترامب في قضية صفقة القرن-على أن الفلسطينيين سيرفضون كافة اقتراحات التسوية ما يصبّ دائمًا في مصلحة إسرائيل، وأنهم سيفوتون كافّة الفرص، لتوفير حياة كريمة لمواطنيهم سواء في قطاع غزة الذي تدفّقت إليه التبرعات بالمليارات، دون أن يتم استخدامها لإقامة المرافق الحياتيّة والاقتصاديّة، بل بقي الفقر والعوز هناك على حاله، وهو الأمر بالنسبة للمليارات، أو عشراتها من أموال الدول المانحة التي وصلت السلطة الفلسطينيّة (الضفة الغربيّة)، دون أن يبدو لها أثر على حياة المواطنين، ودون أن تتمخض عن تحسين ظروفهم، وزيادة استقلالهم الاقتصاديّ.
 
والدليل على ذلك اعتمادهم المستمرّ على مداخيل عملهم في إسرائيل بكل ما يعنيه ويحمله ذلك من معانٍ وأبعاد خاصّة في الفترات المتوترة، أي أن لبيد يُخلي إسرائيل من المسؤوليّة عن عبء إثبات رغبتها في السلام، ويلقيها على الفلسطينيين دون غيرهم، وهو ما دعا مراقبين سياسيين إسرائيليين  ومنهم في اليسار، إلى  القول إنّ خطاب لبيد الذي أعرب فيه عن تأييده لحلّ الدولتين مقابل إلقاء الفلسطينيين لسلاحهم، لم يتعد محاولة لتمييز نفسه عن زعيم حزب "المعسكر الرسميّ- همحنيه همملختي بالعبريّة" الجنرال بيني غانتس، لا سيما أنّ لبيد لم يقدم أي شيء عمليّ، أو مبادرة فعليّة لتحقيق اّدعائه بتأييد حلّ الدولتين، بل إنه حمَّل الفلسطينيين مسؤولية مواصلة إسرائيل احتلالهم  تمامًا، كما حملت غولدا مئير رئيسة الوزراء السابقة الأمهات الفلسطينيّات والعربيّات مسؤوليّة إصابة أبنائهن برصاص الجيش الإسرائيليّ، أو حتى مقتلهم ، قائلةً:" عندما يأتي السلام لن نسامح العرب على أنهم أجبرونا على قتل أبنائهم"!!! ، في محاولة كرّرها لبيد لتكريس رواية إسرائيليّة تعتمد أن القوي هو من يحدّد بداية الرواية، وبالتالي عرض لبيد معادلة ورواية تحمّل الفلسطينيين وخاصّة في غزة مسؤولية الحصار الذي يعانونه ومسؤوليّة فقرهم، فإسرائيل تريد لهم جنة على الأرض، لكنهم يرفضون فيقول: "سألوا في هذه البناية أكثر من مرة لماذا لا نرفع القيود عن غزة. نحن مستعدون للقيام بذلك صباح غد. نحن مستعدون للقيام بأكثر من ذلك. أقول من هنا لأهالي عزة – نحن مستعدون أن نساعدكم في بناء حياة أفضل واقتصاد. عرضنا خطة شاملة لإعادة إعمار غزة. لنا شرط واحد فقط: توقفوا عن إطلاق الصواريخ على أطفالنا. ضعوا سلاحكم أرضا، ولن تكون هناك قيود. ضعوا سلاحكم أرضا وأعيدوا ابنينا الأسيرين هدار وأورون رحمهما الله والشابين المحتجزين، أفيرا مانغستو، وهشام السيد الحيين وسنبني معا اقتصادكم". وهذا الطرح الذي يقبله العالم ويسوِّغه إعلام مجند وتأييد أمريكي غير مشروط وغير محدود ودعم أوروبيّ سيتواصل طالما واصلت إسرائيل تذكية شعور أوروبا بالذنب جراء الكارثة النازيّة. وهذا الطرح يؤكّد أن إسرائيل على قناعة بأن الرفض الفلسطينيّ لأيّ حلّ، أو طرح هو الذي يمنح إسرائيل الرأي العالمي لصالحها مؤكّدة بأنه على مدار المئة سنة الأخيرة لم يقبل الفلسطينيون بأي حلّ !!!.


ولم يكن الشأن الفلسطينّي الوحيد الذي أراد لبيد فيه تكريس الرواية الإسرائيليّة، فإيران وشأنها النووي كانت ماثلة خاصّة على ضوء المدّ والجزر الذي رافق المفاوضات الرامية، لتوقيع اتفاق نووي جديد بين إيران والولايات المتحدة، التي كانت انسحبت منه عام 2016، استجابة لرغبة بنيامين نتنياهو، والرواية الإسرائيليّة التي صوَرَّت إيران على أنها دولة يمكن إخضاعها بعقوبات اقتصاديّة، ليتضح عكس ذلك تمامًا، ليجد لبيد نفسه أمام منبر يمكنه الحديث عبره إلى الإسرائيليين من مؤيدين ومعارضين ومتردّدين محاولًا إقناعهم أن نتنياهو ليس الوحيد القادر على مواجهة إيران، وأن انتخابه، أي لبيد لرئاسة الحكومة القادمة لن يشكّل خطرًا على إسرائيل بعكس ما يحاول نتنياهو ومن تبعه من اليمين تسويقه، بل إن انتخاب لبيد وخاصّة على ضوء توافق الرؤى بينه وبين الإدارة الأمريكية الحالية، يضمن تبني الإدارة الأمريكيّة موقف إسرائيل من الشأن الفلسطينيّ،  كما يضمن مواجهة إيران حتى عسكريًّا. ومن هنا جاء قوله في هذا الصدد إن على المجتمع الدوليّ أن يستخدم القوة العسكريّة إذا طوّرت إيران أسلحة نووية، ويندرج ذلك ضمن حملة دبلوماسيّة تقودها إسرائيل سعيًا لإقناع الولايات المتحدة وقوى أوروبيّة أساسيّة على غرار بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بعدم إحياء الاتفاق الدوليّ المبرم في العام 2015 بين الدول الكبرى وإيران حول برنامجها  النووي، علمًا أن مسؤولين عدّة  يستبعدون إمكانيّة التوصّل إلى اتفاق جديد بين ايران وأمريكا، قبل منتصف تشرين الثاني القريب  على أقرب تقدير، وقد سعى لبيد لاستخدام المهلة هذه لدفع الدول الغربيّة إلى اتّباع مواقف أكثر تشدّدًا في المفاوضات مع إيران محاوِلًا كسب النقاط الانتخابيّة والسياسيّة، فالانتخابات الإسرائيلية لا تدور على المواقف الأيديولوجيّة، بل على كيفية تسويق المواقف وشراء القناعات وربما الذمم إعلاميًّا وعبر التصريحات.

" سلام إسرائيليّ المقاس والتفاصيل"
هكذا هي السياسة الإسرائيليّة التي قال عنها هنري كيسينجر:" دولة اسرائيل لا تمتلك سياسة خارجيّة وأن كل خطواتها تشتق من السياسة الداخليّة".  ومن هنا فإن خطاب لبيد في الجمعيّة العموميّة للأُمم ألمتحدة كان داخليًا بامتياز بل انتخابيًا بامتياز، فكانت كلماته مختارة بدقة وعناية، فهو لم يقبل بدولة فلسطينيّة، بل اشترط ذلك بشروط مستحيلة تجعله في حِلٍ من موقفه ومن المسؤوليّة عمّا سيحدث على أرض الواقع، فإسرائيل تريد السلام كما تراه هي، سلام إسرائيليّ المقاس والتفاصيل على وزن القول المعروف : "باكس أميركانا"، ناهيك عن أن لبيد واثق من أن الحالة السياسيّة الدوليّة، وتضاؤل الدعم للشأن الفلسطيني سيدفع الفلسطينيين إلى مواقف تعتبرها إسرائيل وأمريكا متشدّدة، وبالتالي رافضة لعمليّة السلام، كما كانت تصريحاته انتخابيّة وربما اختار لبيد نيويورك نقطة لانطلاق حملته الانتخابيّة، وكأَن الطريق إلى بلفور تبدأ من مقر الأمم المتحدة، وأن نيويورك هي المحطة الأولى نحو منصب رئيس الوزراء، وما إيران والفلسطينيون إلا زركشات وزينة تمنح لبيد النقاط الانتخابيّة، عملًا بالقول إن السياسة تعني أن تقطع الوعود، دون أن تتعهد بتنفيذها.. وهكذا هو مصير الدولة الفلسطينيّة التي يؤيدها لبيد... دولة مع وقف التنفيذ، بل دولة مصيرها الأكيد عدم التنفيذ. ...

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان:
 [email protected].