صورة للتوضيح فقط - تصوير: shironosov iStock
ومفيدة إذا تم تفجير طاقاتها القصوى في مسارات نافعة، بينما تتحول إلى عبء دافع للتقهقر إذا تزاحمت على بوابات فعل ضيقة، حيث تقود إلى تدافع قد يكون قاتلا، أو مؤذيا على الأقل، أو تتحول إلى غثاء لا قيمة له بفعل تواكل شخص على شخص وفريق على فريق، لتكون النتيجة صفراً يعجز الكل عن تحديد المسؤول الحقيقي عنه، رغم أن الاتهامات المتبادلة بتلك المسؤولية قد تملأ سمع الدنيا كلها، بصراخها المحروم من أي جزء معقول من الإنصات أو التفهم، كما قد تكون صفرا بحكم العُجب الطارد لشعور القلق الإيجابي، الذي يعد بدوره أحد أهم أسباب الحرص على نجاح العمل، والتدقيق في مختلف حلقاته لضمان نتيجة حاسمة، حيث الخاسرة فناء كلي، أو ذل كاسر، أو ألم مُحطِّم.
كانت تلك مقدمة ضرورية للتنبيه على سبل الاستفادة من جمهرة المؤيدين الكثر للقضية الفلسطينية في عشرات الدول على امتداد هذا العالم، والاستفادة حاضرة دون شك، لكنها مجرد قطرة من بحر يمكن أن يكون هادرا؛ لو أُحسن توظيف الجهود المستعدة للعمل، وكان استعدادها حقيقيا، لديه القدرة على التحول إلى فعل منهجي مثابر، بعيدا عن ردات الفعل العابرة، والمزاجية التي تتسارع وتيرة فعلها حينا حتى تكاد تُهلك صاحبها، وتتباطئ أحيانا حتى تكاد تكون جامدة، وهو ما يعني بالضرورة زحفا إلى الخلف، بحكم سير المشاريع المعادية إلى الأمام دون توقف.
وأول لافتة لابد من الانتباه إليها من قبل كل مؤيد راغب في الإسناد الفعلي لتلك القضية المقدسة هي أنه لا مجال لتحقيق ذلك ما لم تكن قويا، فالضعيف -رغم حسن نيته وإخلاصه الكبير- عبء دائم، لا قدرة له على نصرة نفسه، قبل أن ينصر من يحب ويهوى، ولا أعني بتلك القوة، ما يفهمه الناس للوهلة الأولى عند ذكرها، فلا هي سلاح، ولا عضلات، ولا قدرة على البطش، فرغم أهمية ذلك النوع من القوة إذا استُخدم لنصرة المظلوم ومواجهة الظالم، إلا أننا نقصد بالقوة القدرة على تحقيق الهدف.
فكل صاحب هدف لا يقدر على تحقيقه، ولا يحاول امتلاك القدرة على ذلك، مضيع لوقته، وطاقته النفسية، قبل أن يضيع أوقات الآخرين في وعود لن يكون تحقيقها ممكنا بحال من الأحوال، وتلك القدرة تختلف باختلاف الهدف، فمن كانت غايته نصرة القضية الفلسطينية بالمال، تتمحور قوته في قدرته على الاستثمار الناجح، وجمع المال، والاحتفاظ به، والقدرة على إيصاله لليد التي تستحق، واستحقاقها لا يعني الحاجة، بقدر ما يعني القدرة على توظيفها في موقعها الذي تكون فيه أكثر نفعا من أي موقع سواه.
والمال محرك أساسي دون شك، وكل الزهديات التي قد نتغنى بها صادقين أو خادعين أو مخدوعين لا يمكن أن تلُغي أهمية المال لحركة تحرر، ذلك أن المال بالنسبة إليها رصاصة قاتلة لعدو، أو قذيفة مدمرة لدبابة، أو صاروخ مسقط لطائرة، أو مُسيَّرة مهاجمة لعدو، أو كاشفة عن شيء من أسراره، فهو الحياة للمقاتل في ميدان القتال، والدرع الحامي لظهره حيث لا عيش لمن يعيلهم إلا بالمال، ومن هنا كان الحصار المالي للفعل المقاوم أحد أركان الفعل المعادي، تظافر عليه كل حلفاء الكيان وخدمه، وجعلوه مُنظَّما لأبعد حد ممكن، الأمر الذي يستوجب فعلا ماليا عبقريا قادرا على الوصول لميدان المواجهة دون مصادرة أو تأخير، وتلك مهمة رجال المال والأعمال بالدرجة الأساسية.
ومن كانت غايته نصرة القضية الفلسطينية بالعلم، لن ينجح في تلك المهمة ما لم يكن عالماً قديراً، فعبقري واحد أكثر تأثيرا من عشرة "أنصاف عباقرة"، وفلسطين بأمس الحاجة إلى نصرة علمية واسعة، فهي بحاجة إلى عالم السياسة البارع ليشرح للناس حقيقة حكايتها، وينير للعاملين سبل تجاوز الشِّراك الساعية للفتك بهم وبها، وبحاجة إلى عالم الدين البارع في تحشيد الناس حولها، وفي توجيههم لكيف يكونون الأكثر قدرة على الفعل لصالحها، عبر تنوير العقول بفقه يستمد من عصر النبوة المبارك نوره المبين، بعيداً عن ظلمات التخلف التي سادت في عصور الظلام اللاحقة.
وبحاجة إلى رجل القانون الذي يحارب على جبهة المحاكم الدولية والإنسانية، مخاطبا مواطني الغرب باللغة التي يفهمون، مدركا أن المصالح أقوى من القانون، لكن كشف تلك الحقيقة أمام الناس مهم في حصار القتلة في مكانهم اللائق بهم، بعيدا عن ادعاء الديمقراطية والإنسانية الكاذبة.
وبحاجة إلى الطبيب الذي يعالج جرحى نيران الاحتلال بكفاءة تقلص أعداد الشهداء، وتقلل آثار الجراح، وتُسرع عودة المصاب إلى ميدان الفعل المقاوم، كما أنها بحاجة الكيمائي الذي يساهم في تطوير أدوات قتالها الفاعل، وكذلك الفيزيائي والمهندس وعالم الأحياء، وما تلك إلا أمثلة لنماذج كثيرة لا غنى عنها لنطور أدوات مواجهة منظومات السلاح الغربي المتطور، ونصنع منظوماتنا القديرة، ولو رويدا رويدا، وما نموذج التونسي محمد الزواري، إلا قدوة لكل صاحب علم راغب في النصرة والتأييد.
أحد المجالات المهمة التي يمكن من خلالها المساهمة في نصرة القضية الفلسطينية، وهي ميدان المعركة على الوعي، فمنطلق الفعل الراشد للإنسان وعي صائب، يتحول إلى فكر ناضج، يقود ولا يُقاد، وليس لكل صاحب شيء من الرشد عذر في ترك التوعية بهذه القضية إذا كان لها محبا، وبها متعلقا، ويمكن للتوعية أن تجد مساراتها في المدرسة لمن كان معلما، وفي المسجد لمن كان خطيبا، وفي مواقع التواصل لمن كان ناشطا، وفي عالم الفيديو لمن كان بارعاً، وفي ميدان القصة والرواية والشعر لمن كان له في الأدب حظا، وفي الرسم والفن التشكيلي لمن كان ذا خيال وقدرة، وفي المنزل لكل أم أو أب يسعى أو تسعى لربط أولادها بقضية سامية، ومشروع عظيم.
وهذا الفعل التوعوي ينبغي أن يقفز إلى الأمام خطوة بالغة الأهمية بتحوله إلى فعل إعلامي دائم، يحضر في شاشة التلفاز، وأثير الإذاعة، وصفحات التواصل، والمواقع الإخبارية، وصفحات الجرائد، ليكون نصيراً عند الحاجة إلى النصرة، ومعاديا للخصوم، إذا ما نطقوا زوراً، أو حاولوا تزييف الحقيقة، وهي التي طالما زُيفت عندما لم تجد نصيراً قادرا على تحطيم الأكاذيب التي لا تكل ولا تتعب من محاولة حجبها، والإعلام بحاجة إلى خبرة كبيرة، لكنه قبل الخبرة بحاجة إلى المال، وهو ما نحتاجه لكل شيء، لكنه ميدان النجاح لا يتفوق فيه إلا من بادر فسبق، واجتهد وتعب.
من المجالات المهمة التي يمكن أن تكون حاضرة التأثير تكوين العلاقات الهادفة لنصرة هذه القضية، واستثمارها في فعل رشيد، يساهم في تحقيق ما سبق ذكره، وتحويله إلى منظومات عمل منظمة، تنطلق من فعل مؤسسي، لا مجرد حماسة عابرة، سرعان ما تذوب في بحر من الأولويات العاجلة أو الملحة، والعلاقات لها موقعها المتقدم في كل نجاح وتميز، وما نجح كثير من الناجحين إلا لأنها كانت أحد أهم أسلحتهم، وما فشل كثير من الفاشلين إلا بسبب جهلهم بقدراتها وإمكاناتها.
ومن العلاقات يتولد النفوذ، وإمكانية الضغط والتأثير، خاصة أولئك الفاعلين في أحزاب وجماعات ومنظمات، يُمكن دفعها لتكون فاعلة في نصرة قضية فلسطين، ورائدة في خدمتها، وميدان العلاقات يتسع كل من سبق ذكرهم، فعالم الدين أو الحياة له علاقات واسعة، وتأثير كبير، والإعلامي الناجح له أيضا علاقاته القوية، ورجل الأعمال، والناشط على مواقع التواصل، وهكذا.
كل ما سبق مجرد إشارات، يمكن أن ننسج حولها كثيراً من الأفعال الراشدة في خدمة قضية مباركة، لكن لا عذر لأحد من مئات ملايين المسلمين والعرب أن يزعم الحب والتأييد، دون فعل مؤثر ينفع الصديق ويضر العدو، لا عذر لمحب أن يزعم أنه عاجز عن الفعل، فميدانه واسع واسع، لكن ليس لأحد أن يُعطي وهو لا يملك، فالأمة القوية مجموعة من الأفراد الأقوياء القادرين على تنظيم العلاقة الواصلة بينهم، ليكون فعلهم متكاملا في المكان، ومتناسقا في الزمان، وصائبا في الاتجاه.