logo

مقال | قد يُساعدنا الغير، فهل نُساعد نَحنُ أَنفسنا؟

بقلم : المحامي زكي كمال
08-08-2022 07:56:52 اخر تحديث: 18-10-2022 08:19:51

لم يكن البون بين أوروبا والدول العربيّة، أبدًا قريبًا بل شاسعًا، لكنّه اليوم دون شك، أبعد من أيّ وقت مضى، فهما في قضايا الديمقراطيّة والحريّة السياسيّة والشخصيّة

 
المحامي زكي كمال

والفكريّة ونقاء اليدين على طرفي نقيض، لكنهما اليوم وكما تشير الوقائع والأمثلة، وبلغة الهندسة، خطّان متوازيان، بل متنافران ومتناقضان لن يلتقيا أبدًا، ما يؤكّد  مرة أخرى لمن ساورته أحلام اليقظة، بأن إحلال الشفافيّة  والديمقراطيّة والنزاهة ونقاء اليدين في الدول العربيّة، أو معظمها على الأقل، ربما باستثناء الأردن الذي يشكّل عبر برلمانه وانتخاباته وأحزابه، حالة منفردة وخاصّة، أبعد إلى التحقيق من حلم إبليس في الجنة، كما يقول المثل العربيّ الدارج. وهو ما يزداد وضوحًا على خلفيّة مقارنة ومقاربة بسيطة بين أحداث متشابهة في دول عربيّة وغربيّة وردود الفعل عليها أو كيفيّة معالجتها، دون تدخّلات خارجيّة، أو دون إملاءات خارجيّة، بل من منطلق الرغبة في استمرار الاستقرار والعمل على تسيير أحوال وقضايا المواطنين، ودفع البلاد قدمًا ورفع شأنها اقتصاديًّا وسياسيًّا وإنسانيًّا، وضمان استقلالها وثرواتها ومقدراتها، وباختصار من منطلق كون الدولة هي الهمّ، واعتبارها باقية مقابل زوال، وتبدّل حكّامها ومسؤوليها بمناصبهم عنوة. وتكفي هنا الإشارة إلى قضيّتين، الأولى التحقيقات الدوليّة المتشعّبة في ألمانيا وأمريكا وليختنشتاين وغيرها حول شبهات بالفساد الماليّ وتلقي الرشاوى، التي تحوم اليوم حول رئيس أو حاكم مصرف لبنان المركزيّ رياض سلامة ومعاونيه ومقرّبيه وشركائه، وبعضهم من السياسيّين وأقرباء السياسيين الحاليين والسابقين في لبنان، والتي يتجاهلها سلامة ومؤيّدوه الذي يرفض الاستقالة وترك منصبه الذي يشغله منذ عام 1993، وليس ذلك فقط، بل إنه رغم الانهيار الذي يعاني منه اقتصاد لبنان، لا يزال في منصبه، ويمارس مهماته كحاكم المصرف المركزيّ، دون أن  يواجه أي دعوات جديّة لإقالته من منصبه، بل يبدو أنه يتمتّع بحماية بالغة من السلطة التي تتجاهل استراتيجيّته التي ألزمت لبنان بمزيد من الاقتراض لسداد مدفوعات الدائنين الحاليّين، مقابل استقالة المستشار النمساويّ سيباستيان كورتس من منصبه على خلفيّة الاشتباه بتلقيه رشاوى وخيانته الأمانة مع عدد من معاونيه، ليضطر للاستقالة من المنصب بفعل ضغط معاونيه ومقرّبيه، الذين ألحوا عليه لفعل ذلك، وبعد أن سحب أعضاء حزب "الخضر" دعمهم له، وأكّدوا أنه لا يمكن أن يستمرّ في منصبه، مطالبين بتعيين بديل له من حزب الشعب لا يكون محلّ شبهات، كما أن أحزاب المعارضة بدورها طالبت باستقالته، فضلًا عن خروج مظاهرات تطالب برحيله، انطلاقًا من إيمانهم بأن البلاد هي الأهمّ، وأن الشفافيّة والنزاهة هما أساس الحكم، وأن المسؤوليّة لا تبرر الفساد، وأن مبدأ العقاب والثواب هو ما يجب أن يسود، ويسانده مبدأ المداورة في المناصب، وثانيهما ما حدث في بريطانيا من نقل سلس للسلطة في أعقاب استقالة بوريس جونسون رئيس الوزراء السابق، واستلام رئيسة الوزراء الجديدة ليزا تراس مهامّ منصبها خلفًا له، أيّام معدودات قبل وفاة الملكة إليزابيث الثانية بعد 70 عامًا من الحكم، وتسلم الملك تشارلز الثالث مهامّ منصبه ملكًا لبريطانيا، مقابل ما يحدث في تونس خاصّة من دوس للديمقراطيّة، وما يحدث في لبنان من شلل سياسيّ وحزبيّ وفراغ دستوريّ ورئيس هو ميشيل عون، تنتهي ولايته الدستوريّة نهاية شهر تشرين الأول 2022، دون أن تبدأ الاستعدادات لانتخاب خلف له ما ينذر بفراغ دستوريّ طويل، ليس الأول من نوعه فقبل ولاية ميشيل عون نفسه، لم يُنتخب سنة 2016 إلّا بعد سنتين ونصف السنة من الشغور في منصب رئاسة الجمهوريّة، وكذلك الرئيس الذي سبقه، مع الإشارة إلى أن انتخاب كليهما تمّ فقط بعد تدخّلات خارجيّة خليجيّة وفرنسيّة وأمريكيّة وإيرانيّة، ومن هنا فلبنان هو الدليل الأفضل على أن لا قيام لدولة  تأتمر بعض قواها السياسيّة المؤثّرة بأوامر خارجيّة، وتفضّل مصلحة رعاتها على مصلحة بلادها، كما يفعل حزب الله في قضية ترسيم الحدود البحريّة  مع إسرائيل والتي يريد ويحاول عرقلتها، رغم أنها تصبّ في مصلحة بلاده ومواطنيها وسنعود اليها.  وما دامت تعتبر التقسيمات الداخليّة أهمّ من القواسم المشتركة، وهو حال يتواصل منذ خمسين عامًا في هذا البلد الذي شهد اغتيالات لرؤساء منهم بشير الجميل الذي اغتيل قبل 41 عامًا، وقبل توليه فعليًّا منصب الرئيس (وسنعود إليه لاحقا) واغتيال رؤساء للوزراء منهم رفيق الحريريّ وإليه سنعود لاحقًا أيضًا، وشخصيّات قياديّة هامّة مثل المعلم كمال جنبلاط.

" انعدام الشفافية "
انعدام الشفافيّة في لبنان خاصّة والعالم العربيّ عامةً ليس جديدًا، فرئيس وزراء لبنان الحالي نجيب ميقاتي الذي قد يصبح رئيسًا للدولة إذا لم ينجح البرلمان اللبنانيّ في انتخاب، أو اختيار رئيس جديد سيتم وصفه زورًا وبهتانًا بأنه "رئيس توافقي" وهو في الحقيقة رئيس فرضته الظروف والقوى الخارجيّة، يملك من الأموال ما يقدّر بستة مليارات دولار، ويمكن أنه حاز على جزء منها خلال توليه منصب رئيس الوزراء، أو خلال إشغاله مناصب وزاريّة ترتبط بشكل أو بآخر بدول ربطته معها علاقات عمل اقتصاديّة ومنها سوريا التي أدار ميقاتي فيها، أو على الأصح امتلك فيها كافّة أسهم شركة الهواتف السوريّة ابتداءً من عام 2000 ولمدّة 15 عامًا، قبل أن يبيعها عام 2006 بمبلغ 5.5 مليار دولار لشركة في جنوب أفريقيا،  لكنّ الجديد هذه المرّة وفي قضية رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان هو أن تهم الفساد الماليّ المنسوبة إليه تطاله منذ سنوات طويلة، وعلى نطاق دوليّ ، إذ طلبت  إمارة ليختنشتاين مساعدة القضاء اللبنانيّ في دعوى الاختلاس المقامة ضده، وارتباطها أو ارتباطه برجل الأعمال طه ميقاتي، شقيق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وتحويلات ماليّة بين شركتيهما حصلت عام 2016 وصلت قيمتها إلى 14 مليون دولار، وأن الادِّعاء السويسريّ يحقّق في إمكانية قيام سلامة بتحويل أكثر من 200 مليون دولار من حساب شركته في سويسرا إلى حساباته في البنوك اللبنانيّة  ومنها بنك "ميد"، الذي تملكه عائلة رفيق الحريريّ، رئيس الوزراء اللبنانيّ الراحل، والذي تولى ابنه سعد الحريري رئاسة الوزراء أيضًا بدعم سعوديّ، ثم ما لبث أن تحول إلى غضب سعوديّ وحديث عن اعتقال قصير في الرياض، علمًا أن سلامة كان الساعد الأيمن للمرحوم رفيق الحريري حتى اغتياله، وهذا ربما ما يفسّر كيف يُمكن لسلامة أن يظلّ في منصبه حاكمًا لمصرف لبنان، رغم الانهيار الذي يعاني منه اقتصاد لبنان، دون أيّ دعوات جديّة لإقالته من منصبه، وربما هذا ما يفسّر  كونه يحظى بحماية بالغة من السلطة، رغم أنه يخضع لتحقيقات دوليّة عدة، من بينها في فرنسا حيث يحقق  قضاة مكافحة الفساد في باريس بشأن ادِّعاءات جنائيّة مفادها أن سلامة جمع ثروة طائلة في أوروبا من طريق إساءة استعمال سلطته، وفي سويسرا بشأن مزاعم فساد قد يكون متورّطًا فيها، فهو متّهم باستخدام منصبه أيضًا لتقديم خدمات لسماسرة السلطة في لبنان الذي يعيش عامه الثالث من الانهيار الماليّ الناجم عن عقود من الفساد والسياسات الماليّة السيئة التي أدت إلى فقدان العملة أكثر من 90 بالمئة من قيمتها، ناهيك عن الأبعاد الأخرى للازمة الاقتصاديّة التي وصلت حدّ انقطاع التيار الكهربائيّ عن لبنان، أو عدم قدرة شركة الكهرباء اللبنانيّة على توفير الطاقة الكهربائيّة لأكثر من 3 ساعات يوميًّا، في الوقت الذي يتم فيه وبشكل غير مفهوم  ومن قبل حزب الله، ممثل إيران في لبنان وذراعها الطويلة، ومن يملك حقّ النقض على قرارات الحكومة والبرلمان بحكم سلاحه وامتلاكه لثلث أعضاء البرلمان، عرقلة المفاوضات الجارية لترسيم  الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل ، وهو "حزب الله" نفسه، الذي يعمل طيلة السنوات الخيرة على حماية رياض سلامة، ما يعني ويؤكّد أن السلطات السياسية في لبنان ما زالت جزءًا من نظام الحماية التي يتمتّع بها سلامة، الذي ما زال يلعب في المساحة التي تفصل بين السلطتين القضائيّة والسياسيّة، إضافة إلى أن الدول الأوروبيّة الخمس التي طلبت التحقيق مع سلامة تمارس أدوارًا متناقضة إزاء سلامة، فقضاؤها يتحرّك ضدّه وحكوماتها متمسّكة به.  وهذا يؤكّد أن لبنان كدول عربيّة أخرى لا يملك قراراته المستقلّة، ولا يمكنه اتخاذ خطوات تبدو عادية وواضحة، بل وكأنها خطوات في عرف المفروغ منه، في دول أوروبيّة، وذلك لأن حياة لبنان ومواطنيه كانت وما زالت منذ استقلاله ساحة لحرب المصالح بين الدول والأحزاب السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة العربيّة والدوليّة، وسط "تفاهمات صامتة" بين الأطراف المتنافسة تضمن مكاسب كلّ منها وتقسيم الغنائم، وتبقي الشعب اللبنانيّ الخاسر الأكبر الوحيد.

"تجيير مصير الدولة"
ولعلّ خطورة "تجيير مصير الدولة" لخدمة الحاكم، أو الرئيس، أو الأحزاب ومن يموّلها، أو الدولة التي تحركها، تتضح أكثر حين نتحدّث عن الجهود المبذولة لترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل والجولات المكوكيّة التي يقوم بها الوسيط الأمريكيّ عاموس (آموس) هوخشتاين بين إسرائيل ولبنان بشأن ترسيم الحدود البحريّة، وسط أحاديث عن أن الاتفاق الآخذ بالتبلور، يشمل أو يضمن أن تتنازل إسرائيل عن مساحة بحريّة معيّنة في عمق البحر، وبالمقابل سيتنازل لبنان عن مساحة بحريّة معيّنة قريبة من الشريط الساحليّ، وأن إسرائيل ستحصل على حقوق استخراج وضخ الغاز في حقل "كاريش" بينما يحصل لبنان على حقوق الاستخراج والضخّ  في حقل "قانا"، وذلك وسط غبار تهديدات متبادلة بين حزب الله وإسرائيل، خاصّة في أعقاب إسقاط إسرائيل طائرات مسيّرة أرسلتها نحو حقل "كاريش" ، حركة حزب الله، الذي يواصل عرقلة المفاوضات لأسباب ومبررات غير واضحة أسبابها خارجيّة ودوافعها غير لبنانيّة، ما يؤكّد أن قضية ترسيم الحدود البحريّة بالنسبة للبعض في لبنان هي ليست قرارًا داخليًّا بل سلاحًا لخدمة أجندات خارجيّة تتخذ القرارات بدل لبنان، فالقضية بالنسبة لها ليست  ترسيم حدود بين دولتين متنازعتين، بل إنها أوسع  من سياق حربٍ وسلم بين بلدين جارين لهما تاريخ حافل من الصدامات العسكريّة (وتعاونات سياسيّة وعسكريّة سريّة) تؤكّد أن لبنان بتركيبته الطائفيّة المعقّدة وولاءاته السياسيّة المتعدّدة والمتغيّرة، لا يملك قراره الشخصيّ، خاصة وأن المستفيدين من هذه الحالة كثر، أولهم إسرائيل التي ستتمكّن من بيع غازها - الذي تصل صادراته اليوم بحسب وزارة الطاقة الإسرائيليّة إلى نحو 340 مليار متر مكعب، إلى الدول الأوروبيّة المتعطشة له  بسبب الحرب الأوكرانيّة وتوقّف الغاز الروسيّ، الذي يبدو أن أوروبا لن تعتمد عليه، أو لن تعتمد عليه دون غيره. وكذلك الولايات المتحدة، وتركيا التي يخولها موقعها لكسب نقاط إضافيّة في أي مفاوضات حاليّة ومستقبليّة حول مستقبل الطاقة في أوروبا، وهو وضع لم تغيّره الحرب الروسيّة على أوكرانيا؛ فأنابيب تركيا باقية، وإن اختلفت مصادر الغاز التي ستمرّ عبرها، وهي الخيار الأول لنقل غاز خط "إيست ميد" إلى أوروبا، وكذلك الإمارات التي وضعت موطئ قدم لها في شرق المتوسط عبر توقيع شركة الاستثمار الإماراتيّة (مبادلة) اتفاقًا مع إسرائيل يقضي بشرائها 22% من بئر "تمار" الإسرائيليّ الواقع إلى الغرب من شواطئ حيفا، ويبقى المستفيد الذي يجلس في ذيل القائمة هو لبنان، فإسرائيل تعوِّل في مفاوضاتها معه عبر الوسيط الأمريكيّ على دماره وحاجته الملحة للغاز اليوم قبل الغد، ومن ناحيةٍ ثانية يخشى لبنان أن ينتهي ترسيم الحدود البحريّة بسلام، ولكن أن تؤدي مشاكله الداخليّة ونزاعاته الطائفيّة والسياسيّة والفساد الاقتصاديّ فيه، إلى إصابة حقل قانا بجمود يمنع لبنان من استخراج الغاز منه ما يبقيه مدفونًا في باطن البحر، بانتظار تدخل دولة أجنبية لحلّ الإشكال، كما جرت عليه العادة في لبنان، ومن هنا  فإن عامل الوقت هو لاعب مركزيّ في المشهد، ويشكّل نقطة ضعف لأمريكا وإسرائيل أمام لبنان، في الوقت الذي تعولان فيه على عجزه وحاجته إلى التوقيع، بأسرع وقت ممكن، على الاتّفاق لما سيعود عليه من أرباح، وتعرفان أسس تسويق المنتج الصحيح في الوقت المناسب؛ فإسرائيل تسوّق غازها وتنقذ أمريكا شركاءها الذين يخشون البرد.
وعملًا بالقول ربّ صدفة خير من ألف ميعاد، يتزامن التحقيق في شبهات فساد رياض سلامة ومحاولات حزب الله عرقلة الاتفاق الحدوديّ البحريّ بين إسرائيل ولبنان، مع معلومات تمّ الكشف عنها، في الذكرى الحادية والأربعين لاغتيال الرئيس اللبنانيّ الأسبق بشير الجميل،  والذي اغتيل عمليًّا قبل تسلّمه منصبه رسميًّا، مفادها أن "احتياج لبنان إلى مساعدات من الخارج لحلّ مشاكله"، والتي خلدتها التوزيعة، أو التقسيمة الطائفيّة والولاءات المتغيّرة ليس جديدا، بل إنه متواصل منذ خمسينات القرن الماضي سرا ومنذ سبعينياته، أو ثمانينيّاته علنًا، عبر تعاون جيش لبنان الجنوبيّ، بقيادة الرائد سعد حداد ومن بعده أنطوان لحد، الذي زودته إسرائيل بالأسلحة والعتاد آملةً منه أن يقوم بدلًا منها بحماية جنوب لبنان ووضع حدٍّ للتواجد الفلسطينيّ والسوريّ هناك، إلى أن تيقّنت أن هذه المحاولة باءت بالفشل، لتقرر الانسحاب من لبنان عام 2000 تاركة أفراده يلاقون مصيرهم فإمّا الهجرة إلى إسرائيل دون شيء، أو البقاء في لبنان وانتظار رحمة ربهم، علمًا أنه اتضح من معلومات نشرتها مصادر إسرائيليّة نقلًا عن وثيقة رسميّة للموساد الإسرائيليّ أن العلاقات بين المسيحيين (الموارنة) في لبنان وبين إسرائيل كانت علاقات مصالح خالية من أيّ عاطفة، وأن المسيحيّين اضطروا للجوء إلى إسرائيل  بعد حدثيْن مفصليَّيْن: الأوّل أيلول الأسود في الأردن عام 1970، وطرد منظمة التحرير والفصائل من الأردن إلى لبنان، والثاني اندلاع الحرب الأهليّة عام 1970، عندما شعر المسيحيّون أنّهم وحدهم وبحاجة لمساعدة. وكشفت الوثيقة خبايا وخفايا العلاقات بين إسرائيل وبين الموارنة في لبنان، وفي مُقدّمتهم رئيس لبنان بشير الجميل الذي زار إسرائيل لأول مرة عام 1976، محاولًا لقاء رئيس الوزراء آنذاك إسحق رابين، ولكن شاءت الظروف أن تتزامن زيارته مع حادث اختطاف طائرة "اير فرانس" إلى أوغندا وعمليّة الإنقاذ التي نفذتها إسرائيل، علمًا أن والده بيير الجميل، وهو كبير قادة المسيحيين الموارنة، رفض أيّ اتصال بإسرائيل، واعتبرها "جسمًا دخيلًا" على المنطقة. وكانت له مواقف واضحة ضد إسرائيل والصهيونية، واعتبر لبنان جزءًا لا يتجزأ من العالم العربيّ وجامعة الدول العربيّة، لكن بشير قبل اقتراح صديق له واعتبر إسرائيل مصدرًا لتزويد الجماعات المسيحيّة والكتائب اللبنانيّة بالأسلحة وصديقًا للمسيحيّين يمكنهم الاعتماد عليه في طرد السوريّين من لبنان وطرد الفلسطينيّين وتحويل مخيمات اللاجئين، كما قال بشير الجميَّل نفسه، إلى مواقف للسيارات وحديقة للحيوانات، لكنّه رفض رغم ذلك توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل قائلًا لرئيس الوزراء الإسرائيليّ آنذاك مناحيم بيغن (الذي اعتاد مناداته بكلمة ابني بينما اعتاد رئيس هيئة الأركان رفائيل ايتان مناداته أخي) أنه سيكون الزعيم العربيّ الثالث الذي يوقّع مع إسرائيل اتفاق سلام (أنور السادات كان أولهم)،  لا يمكنه أن يتحول إلى "عميل لإسرائيل"، أو متعاون معها، وأنه يريد للبنان أن يبقى عضوًا في الجامعة العربيّة، ليتم انتخابه بأغلبية 57 صوتًا في الثالث والعشرين من آب ،1982 تم إحضار بعضهم الى البرلمان اللبنانيّ للتصويت لصالح بشير الجميل على متن مدرعات إسرائيليّة، وتحت حماية إيلي حبيقة الذي عرف بقسوته وفظاعته، واتضح لاحقًا أنه كان عميلًا للقوّات السوريّة.

"اللحظة المناسبة التي غيرت مجرى التاريخ"
الوثيقة التي اعتمدت على كبار المسؤولين في الموساد والجيش والمستوى السياسيّ، أكّدت أنّ "السوريين هم الذين دبّروا ونفذّوا عمليّة اغتيال الجميل عبر عميل لهم اسمه حبيب الشرتوني أوكلت له مهمّة مراقبة بشير الجميل وتحرّكاته حتى أنه أقام  مع شقيقته في شقّة تقع فوق مقرّ حزب الكتائب، منتظرًا اللحظة المناسبة، التي  غيّرت مجرى التاريخ، وهي تفجير عبوة ناسفة فوق رأس بشير الجميل أدّت إلى مصرعه ومصرع الكثيرين من أتباعه، مع الإشارة كما جاء في الأعلام الإسرائيلي مؤخّرًا بأن المسؤول عن غرفة عمليّات الموساد الإسرائيليّ في لبنان هو من شخَّص جثة بشير الجميل، رغم أن أحد مقرّبي الجميل كان قد شخَّص الجثة فور انفجار العبوة الناسفة في مقرّ الكتائب دون أن يجرؤ على البوح بذلك، وهو ما دعا المسؤول في الموساد إلى  أن يستذكر قولًا سمعه من مرافق له من عملاء ورجال الموساد المحليين في جولة في سوق في بيروت، حين سأل عن "أكثر سلعة رخيصة في لبنان" ليردّ عليه مرافقه:" إنه الإنسان"، علمًا أن اغتيال بشير الجميل كان كما كشفت الوثيقة الذريعة الأساسيّة لحرب لبنان عام 1982، والتي حاولت إسرائيل تبريرها بأنها ردّ على محاولة اغتيال السفير الإسرائيليّ في لندن شلومو أرغوف. كما أن الوثيقة تقول إنّ الكتائب نفّذوا مجزرة صبرا وشاتيلا كردّ فعلٍ على تصفية الجميّل، في حين أكّد المؤلّف كيبنس أنّه تمّ تنفيذ المجزرة على الرغم من أنّ الوزير دافيد ليفي، حذّر الحكومة من أنّ دخول (الكتائب) إلى مخيمات اللاجئين سيؤدّي "لأنهارٍ من الدماء"، على حدّ وصفه، وهنا بيت القصيد فحال لبنان لم يتغيّر رغم تغيّر "الجهات الخارجيّة" التي اعتمد عليها زعماؤه من فرنسا إلى إسرائيل والولايات المتحدة والسعوديّة وسوريا وإيران، فالبنية الأساسيّة سيّئة، وبالتالي لا يمكن لأيّ مساعدة خارجيّة أن تقود البلاد إلى السداد والفلاح والنجاح، وهذا ما دفع برئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق مناحيم بيغن إلى القول بأن إسرائيل تساعد اللبنانيين على مساعدة أنفسهم، وكأنه يقول إن على اللبنانيين أن يساعدوا أنفسهم إذا أرادوا الخير من مساعدة الغير.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فحال المواطنين العرب في إسرائيل كحال إخوانهم في الدول العربيّة ينتظرون الفرج والمساعدة من الخارج، سواء في بسط الديمقراطيّة، أو إلغاء الخلافات، أو مكافحة العنف، وتحسين أوضاعهم والاتفاق على خوض الانتخابات في قائمة واحدة. وكلّ هذا دون أن يساعدوا أنفسهم، أي دون أن يمهدوا الطريق والأرضيّة للوحدة والتقدّم، متناسين أن السلام يبدأ من البيت، و"إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ... وهنا بيت القصيد .


هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان:
 [email protected].