المحامي زكي كمال
في قطاع غزة أن يجف، ولم يهدأ بعد صدى البيانات المتلفزة والمذاعة، والتي حاول كلّ من الطرفين الإسرائيليّ والفلسطينيّ على حدٍّ سواء، أن يدعي فيها أن النصر كان حليفه، وأن كافة أهدافه قد تحققت حتى آخرها وأقلّها قيمة وقدرًا، وأنه تمكّن من ردع العدو والخصم محقّقًا بذلك إنجازًا تاريخيًّا، كما قال رئيس الوزراء الإسرائيليّ يائير لبيد، وبالمقابل زياد النخالة أمين عام حركة "الجهاد الإسلامي"، دون أن يكلف أي من الطرفين نفسه، عمدًا دون شك، عناء دراسة الأمر بشكل معمق ومراجعة ما كان ليس بشكل منفرد، بل كجزء من كلّ، أو كحلقة أُخرى يبدو أنها لن تكون الأخيرة في مسلسل الحملات العسكريّة الإسرائيليّة ضد قطاع غزة. وهي حملات عسكرية تغيرت أسماؤها وأهدافها وعدد ضحاياها خاصة من الطرف الفلسطينيّ، وحجم الدمار الذي خلفته لدى الطرفين، لكن نتائجها على أرض الواقع، وبخلاف تصريحات القادة السياسيين، خاصة في الطرف الفلسطينيّ، كانت واحدة لم تتغير ملخصها أن ما كان هو ما سيكون، وأن القادم لن يكون أفضل طالما بقيت الأمور كذلك، وطالما بقي النقاش حول هذه الحملات وما قبلها وبعدها، أسبابها ومسبباتها وطرق منعها مستقبلًا، سطحيًّا ومتسرّعًا يشوبه مجافاة الحقيقة والتغاضي عنها مع سبق الإصرار والترصد ( وهذا أسوأ من عدم معرفتها)، وتكرار نفس التصرف كلّ مرة من جديد بانتظار نتيجة مغايرة، وأن الأمور فلسطينيًّا وخاصة في غزة ومن طرف الجماعات المسلّحة بقيت، أو واصلت السير وفق معادلة تقول إن المواطن الفلسطينيّ العادي لا صوت له، وأنه سيقبل بتكرار الحملات العسكريّة، وهدم البنى التحتيّة وإزهاق الأرواح، ومن ثم انتظار الفرج والصدقات من الدول العربيّة، ودول العالم لإعادة الإعمار وترميم البنى التحتيّة، كلما قررت الجماعات المسلحة ذلك وفق اعتباراتها التي لن نبالغ إذا قلنا إنها تختلف عن اعتبارات الأغلبيّة من المواطنين الذين ينشدون الحياة الكريمة والحياة الهادئة، ويحق لهم ذلك. وباختصار طالما تكررت الحملات وتواترت التصريحات التي يطلقها قادة الفصائل الفلسطينيّة المسلحة، وخاصة أولئك الذين يقيمون خارج غزة ويقضون معظم أوقاتهم في بيروت وقطر وطهران وغيرها بعيدًا عن أتون غزة ومنغصات الحياة فيها. أما في الطرف الإسرائيليّ فإن ما كان هو ما سيكون، وأن الحملات العسكريّة المتتالية على قطاع غزة مع اختلاف مسميّاتها وأسمائها سوف تتكرر، وأن هناك علاقة غير مبررة وإن كانت واضحة بينها وبين الانتخابات حتى يخيل إلي أن في إسرائيل أربعة فصول يمكن القول إنها صيف، إضراب، حرب وانتخابات، ما يعني أن الطرفين مع اختلاف قوتهما وروايتهما لم يستخلصا العبر من الحملات المتكررة، بل إنهما يواصلان ترديد نفس الشعارات وتسويق نفس المبررات ... والنتائج على قدر التجاهل والتناسي.
فلسطينيًّا والأمر ينسحب على قطاع غزة، كما ينسحب على الضفة الغربيّة لم يتم استخلاص العبر الأساسيّة وترتيب الأوراق بشكل يصبّ في مصلحة المواطن وأمنه وأمانه، وتحديدًا حول فهم معنى السلطة والسيادة، فكيف يمكن لأيّ كيان كان، سواء الضفة الغربيّة أو قطاع غزة، أن لا تكون السلطة السياسيّة فيه العنوان الوحيد والأوحد عسكريًّا وأمنيًّا، فحركة "حماس" وهي الحاكم الفعليّ في قطاع غزة، وقفت هذه المرة جانبًا في المواجهة بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلاميّ، في خطوة تؤكد أن القيادة السياسية لا يمكنها دون أن تكون في الوقت ذاته القيادة العسكرية والسلاح الوحيد، أن تحقق أهدافها، وأن تضمن لمواطنيها الرفاه والتقدم والهدوء والحياة أصلًا، خاصةً إذا كانت هناك جهات وجماعات عسكريّة تدين بالولاء ليس لمواطنيها وليس لمصالحهم وأهدافهم، بل تدين بالولاء لمموليها في خارج البلد الجريح، علمًا أن وقوف حركة "حماس" جانبًا هو خطوة لها من التفسيرات الكثير، لكن أيًّا منها ليس التفسير الإيجابيّ، فهي أولًا ربما تعبير عن " موافقة صامتة" على مواقف ونشاطات الجهاد الإسلاميّ، وبالتالي لا يمكن لها بعد انتهاء الحرب أن تنفض يديها من المسؤولية عن النتائج، وهي هدم ودمار وضحايا وأحزان، وهي ثانيًا ربما تعبير عن عجز سياسيّ وعسكريّ وقرار خطير بمسايرة غيرها من الحركات بعكس ما تتطلبه، وما تحمله السلطة من معنى، أي أنها قد تكون محاولة لإضعاف الجهاد الإسلاميّ واعتباره أمام المواطنين حتى ولو ليس علنًا بأنه من يُعطل عجلة التطور الاقتصاديّ، ومن يمنع بتصرفاته التي لا تسمن ولا تغني من جوع، خروج عشرات آلاف العمال من غزة إلى إسرائيل للعمل في إسرائيل، بكل ما يعنيه ذلك من مس بمصدر رزق وقوت عشرات ألاف العائلات الفلسطينيّة الفقيرة والمحتاجة، وما يلحقه ذلك من أضرار بالوضع الاقتصاديّ للقطاع عامة، وثالثها ربما ما يمكن وصفه بأنّه السماح لإسرائيل بتنفيذ ما عجزت عنه "حماس" بمعنى أنها لا تستطيع ضرب "الجهاد الإسلاميّ"، ووقف نشاطه رغم عدم موافقتها على تصرفاته، ولذلك فإنها "تسند" هذه المهمة إلى اسرائيل صمتًا، أو التزامًا بالصمت خلال حملات عسكريّة آخرها "طلوع الفجر" وقبلها الكثير الكثير، وهو الحال ربما في العلاقة بين إسرائيل ومنظمة "حزب الله" الذي لا تستطيع السلطة في لبنان مواجهته، ولذلك تحتضنه سياسيًّا، وتتجاهل وجوده ونشاطه عسكريًّا، وتترك لإسرائيل مهمة ضربه عسكريًّا، وكذلك أيضًا في المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينيّة وخاصّة منطقة جنين والبلدة القديمة في نابلس، وهما منطقتان تحولتا إلى "منطقة خارج نطاق سيطرة السلطة الفلسطينيّة" التي سلَّمت بسيطرة الفصائل المسلحة وخاصة " الجهاد الإسلاميّ"، أو حتى كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة " فتح" وليس الشرطة الفلسطينيّة، أو أجهزتها الأمنيّة، وليس ذلك فقط، بل إنها تنازلت عن محاولة استعادة سيطرتها على هذه المناطق وتركتها ساحة ومساحة متاحة لنشاطات الجيش الإسرائيليّ، رغم أنها مصنّفة على أنها" المنطقة أ" التي تسيطر السلطة عليها أمنيًّا وسياسيًّا، وكأنها تقول أنها لم تستخلص العبر من تجارب الشعوب، وأنها لم تفهم أن قيام السلطة السياسيّة يعني أو يجب أن يعني أن تضع الجهات المسلحة سلاحها ( كما حدث مع إعلان إقامة دولة إسرائيل من تفكيك للجماعات المسلحة، ومنع وصول الأسلحة إليها، بل إطلاق النار باتجاه سفينة "الطلينا" التي حملت أسلحة لحركة "الإيتسل" اليمينيّة المسلحة، وإغراقها بأَمر من دافيد بن غوريون (رئيس الوزراء الأول لدولة إسرائيل)، وأن تلتزم بوجود سلاح واحد هو سلاح السلطة، أو ربما هي تعلن أنها لم تحسم أمرها بعد، أي لم تقرر بعد ما إذا كانت قررت نهائيًّا التوجه إلى المسار السياسيّ، بل إنها ما زالت تحاول أن تمسك العصا من طرفيه، أو ربما هي تريد من إسرائيل أن تفعل ما لم تنجح هي في فعله، أي ضرب الجهات والعناصر المسلحة المختلفة ووضع حد لنشاطها .
"ضمان مصلحة المواطن والعمل من أجله"
ما يحدث في قطاع غزة والضفة الغربيّة من حيث عدم وجود سلاح واحدٍ وموحَّد، أو في الدول العربيّة من حيث وجود جماعات مسلحة لا تأتمر بأوامر الدولة ( حزب الله في لبنان وسوريا وغيرها)، بل تنفذ توجيهات خارجيّة وتقبل السلطة الرسميّة بذلك، يعني أن السلطات الحاكمة في كافة هذه الأماكن لا تفهم المعنى الحقيقيّ للسلطة، ولا تفهم أن قراراتها ونشاطاتها كسلطة يجب أن تنطلق من قاعدة واحدة، وهي ضمان مصلحة المواطن والعمل من أجله والتفكير فيه قبل اتخاذ أي خطوة كانت، أسوة بما فعلته اسرائيل مثلًا في الأسبوع الأخير من تعويض اقتصاديّ لمواطنيها القريبين من القطاع جغرافيًّا، الذين تضرروا جراء قيود عسكريّة فرضتها سلطات الجيش عليهم قبل العملية العسكرية الأخيرة، بل نقلت المئات منهم إلى مناطق بعيدة عن الحدود مع غزة منعًا للمسّ بهم.
من هنا لم تفهم حركة " الجهاد الإسلاميّ" في غزة ومن قبلها حركة" حماس" وقبلها "حزب الله" في لبنان، أن أي عمليّة عسكريّة، أو حرب لا تقتصر على استخدام السلاح مهما كان كمًّا وكيفًا، بل إنها عملية متكاملة تشمل قبل استخدام السلاح، وبشكل أكثر أهمية وجود تأييد شعبيّ كبير، إن لم يكن كاملًا (وفي حالة غزة والفلسطينيين تأييد عربيّ وموقف أوروبيّ) سنعود إليه لاحقًا. يضاف إلى ذلك العامل الاقتصاديّ، الذي يعني تمكين السلطة، أو الحاكم من خوض الحرب دون أن يعاني مواطنوه الفقر والجوع بعد دقائق من بدايتها، بمعنى أن بناء الاقتصاد المستقلّ والقوي هو الأساس لسلطة حاكمة مستقرة، وهو الضمان لقوة عسكريّة وصمود أمام حرب قد يتعرّض لها الكيان أيًّا كان، وهذا لم يكن فالاقتصاد الغزيّ (ومثله اللبنانيّ)، هشّ إلى أبعد الحدود وهو يعتمد على تبرعات الدول المانحة العربيّة والأوروبيّة، أو على " حسن النوايا الإسرائيليّة، أو حتى المِنَّة الإسرائيليّة "، والسماح بدخول العمال الفلسطينيين من غزة، وإغلاق المعابر كلما توتّرت الأجواء، وبالتالي إبقاء شبح الفقر ماثلًا وقائمًا تعزّزه التوتّرات الأمنيّة، ليصبح المواطن في الكيان الغزيّ مطالبًا من قبل الحاكم "حماس" أو " الجهاد الإسلامي" بالصبر والصمود والتأييد، وتكبد الخسائر الماليّة والاقتصاديّة وفقدان مصادر الرزق دون أُفق اقتصاديّ وسياسيّ، بل حملات عسكريّة متتالية تعيده إلى المربع الأول كلّ مرّة من جديد ضمن حلقة مفرغة، يواجه فيها الحقيقة المرَّة ومفادها أن الدعم الماليّ الدوليّ والعربيّ الذي بلغ مليارات الدولارات، وربما عشرات مليارات الدولارات منذ أوسلو 1993، لم يتحول إلى رافعة اقتصاديّة وتشغيليّة وأكاديميّة تهتم بالإنسان باعتباره القيمة الأولى قبل العسكرة وبناء الأَنفاق. فالإنسان هو من يشغَّل الآلة العسكريّة، وهو الذي يبني الاقتصاد، وهو الذي يمنح السلطة شرعيتها، دون أن يضطر مرغمًا للتصفيق لكلّ عمل عسكريّ، أو مغامرة عسكريّة تكون نتائجها العودة إلى الوراء اقتصاديًّا وسياسيًّا، خاصّة إذا ما تمّ تغليفها بتصريحات رنَّانة تعيد إلى الأذهان تلك التصريحات العربيّة والفلسطينيّة في سنوات الستينات من القرن الماضي، والتي سرعان ما اتضح زيفها، أو بشعارات دينيّة وربطها دون حقّ بقضايا سياسيّة واعتبارها زورًا السبيل إلى التحرير والحريّة والاستقلال. وهي شعارات لم تعد كافية للاستهلاك المحليّ، فكم بالحريّ على الصعيد العربيّ والعالميّ. وهذا ما اتضح خلال هذه الحملة من المواقف العربيّة والدوليّة، فالمواقف العربيّة باستثناء الموقف الأُردني الواضح والمباشر، جاءت متأخّرة ومتلعثمةً وخجولة وعامّة تصبّ كلّها في خانة" بيانات مكررة ومحايدة هدفها رفع العتب وتأدية الواجب والمفروض" فجاءت عامّة تدعو إلى الهدوء والسلام وتحذّر من التوتر، ربما خالفتها المواقف المصرية التي رافق تصريحاتها عمل ميدانيّ بالتعاون مع قطر لوقف إطلاق النار، ما يعني أن التضامن العربيّ الذي طالما اعتمد الفلسطينيون عليه، أصبح في معظم الأحيان شعارًا فارغ المضمون، وأن بعض الدول العربيّة خاصّة تلك التي وقّعت اتفاقيات أبراهام أو سارت في ركبها، لم تكبد نفسها حتى عناء إصدار البيان، وهو ما عكسته مواقف الدول الأوروبيّة المشغولة بالحرب في أوكرانيا وتبعاتها الاقتصادية، وبالتالي لم تكن مواقفها واضحة ولا حتى مباشرة، وكم بالحري لم تكن مؤيّدة للفلسطينيين برز منها خاصة الموقف البريطانيّ الذي أدان إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وأكد حق إسرائيل في الدفاع عن مواطنيها، أما موقف الأمم المتحدة فهو منذ سنوات لا يُسْمنُ ولا يُغني من جوع، وكأَن العرب والعالم يقولون للفلسطينيين هذه المرة بكلمات لا تقبل الشك، أو التأويل ولا تحتمل أكثر من تفسير واحد:" لم تعودوا قضية العرب الأولى، ولستم قضية العالم الأولى بل الأخيرة. قاتلوا وحدكم وقلوبنا ليست معكم".
"لم تتعلم العبر من الحملات المتتالية على القطاع"
إسرائيل من طرفها ورغم تباهي رئيس وزرائها يائير لبيد ووزير أمنها بيني غانتس وإعلامها وعسكرها، بالنصر المبين ورغم النشوة التي تعيشها وملخصها أنها استعادت قدرتها على الردع، وأنها تملك حرية العمل العسكريّ اليوميّ في كافّة مناطق الضفة الغربيّة من جنين ونابلس حتى الخليل واعتقال أعضاء الفصائل ( بسام السعدي مثلًا) والجماعات المسلّحة الذين تصنفهم على أنهم من المطلوبين أو تصفيتهم ( إبراهيم النابلسي في نابلس مثلًا)، وأنها تستطيع متى شاءت تعقّب وتصفية القادة العسكريين في القطاع ( تيسير الجعبري مثلًا) عبر معلومات استخباريّة دقيقة تعرف كلّ تحركاته من أكبرها إلى أصغرها وبمساعدة متعاونين وعملاء ( قد يكونون من ظهراني الفلسطينيين أنفسهم)، ورغم أنه يمكنها أن تضرب "الجهاد الإسلاميّ" دون أن تتحرك "حماس" لمساعدتها ودعمها، إلا أنها لم تتعلم العبر من الحملات المتتالية على القطاع والاجتياحات المتكررة في الضفة، وأنها لم تفهم بعد أنه لا يمكن لأيّ دولة مهما عَظُمَت قوتها العسكريّة، أن تهزم نهائيًّا جماعات مسلّحة تمارس "حرب العصابات " أو " الحرب غير المنظمة" وهو ما حصل مع "حزب الله" في لبنان، ومع "حماس والجهاد" في غزة، وبالتالي لم تفهم أن الحلّ لا يكمن في تكرار الحملات العسكريّة وما يرافقها من اطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيليّة وصولًا إلى تل أبيب والقدس، ما يضطر إسرائيل للردّ عليها من منطلق المبدأ الذي رسم معالمه رئيس الوزراء الأسبق أريئيل شارون عرَّاب الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة حين قال لمن حذَّره من أن الانسحاب سيجعل صواريخ "حماس" تصل تل أبيب أن: " لا فرق بين نتسريم- المستوطنة التي تم إخلاؤها في القطاع- وبين تل أبيب". كما لم تفهم إسرائيل على اختلاف حكوماتها من اليمين أو اليسار أو حكومات الليكود وحكومة التغيير، أن اللعب على الحبلين أي الاعتراف من جهة بحركة" حماس" حاكمًا فعليًّا للقطاع ومساعدتها في الحصول على الدعم المالي وتمويل دوليّ للمشاريع هناك مقابل إضعاف السلطة الفلسطينيّة، ومن الجهة الأخرى اعتبارها عدوًّا مسلّحًا وحركة إرهابيّة، هما أمران لا يلتقيان، وأن الاعتماد على القوة العسكريّة في غزة والضفة دون أي أفق سياسيّ يعني أن إسرائيل اختارت "مواصلة العيش على حدّ السيف"، بغض النظر عن الحكومات ورؤسائها وائتلافاتها، فالفروق بين اليمين واليسار في إسرائيل تذوب وتختفي في أوقات الحرب خاصّة، وهي غير موجودة أصلًا في زمن الهدوء، بخلاف ما كان سائدًا ومتبعًا، فالمجتمع الإسرائيليّ ينحو نحو التطرف من جهة، كما أنّ مواقف وأدوار الأحزاب في إسرائيل، وفقًا لكافة الدراسات والوقائع على أرض الواقع، منوطة بالفترات الزمنيّة، أو المحطات التاريخيّة، فالأحزاب المصنّفة يساريّةً، منذ "حزب عمال أرض إسرائيل" (ماباي) بقيادة بن غوريون"، كانت صاحبة التأثير والشعبيّة الأوسع في فترة قيام دولة إسرائيل عام 1948. فهي كما يبدو كانت الأقدر على أداء تلك الوظيفة التاريخيّة وهي إقامة دولة إسرائيل. وتصدرت هذه الأحزاب، النظام السياسيّ الإسرائيليّ لما يقرب من ثلاثين عامًا، حتى بدأت أحزاب أخرى تصعد بدءًا من عام 1977 لأداء وظيفة تاريخيّة ثانية تكمل تلك التي قام بها اليسار، عبر سيطرة تيار اليمين السياسيّ والدينيّ، ومبدأه توسيع الاستيطان وأرض إسرائيل الكبرى. وعندما فرضت الظروف التفاوض مع الفلسطينيين، عاد اليسار لإنجاز هذه المهمة عبر اتفاق أوسلو 1993، ثم أخذ دوره في التلاشي تدريجيًّا بعد ذلك، ولا يعني هذا أن هناك توزيعًا منتظمًا للأدوار في إسرائيل. فما حدث كان تطورًا طبيعيًّا تكاملت فيه المهام وفق متطلّبات هذا التطور وفي إطار خصوصيّة مفهومي اليمين واليسار في إسرائيل.
الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة والتي انتهت إلى تشكيل حكومة التغيير " ثمانية الأعضاء" والتي لم تعمر طويلًا، كانت الدليل على انتهاء دور اليسار في إسرائيل، وتحوله إلى " ختم مطاطيّ يمنح الشرعية لليمين المتدين- حزب يمينا- ويمنحه رئاسة الحكومة" مؤكّدًا بذلك زوال اليسار بعد انتهاء مهامه التاريخيّة، وتحوّله إلى هامش يقل تمثيله عن 10% من مقاعد الكنيست (6 لحزب العمل، و4 لحزب ميرتس)، فتشكيل حكومة التغيير برئاسة نفتالي بينيت وبعده اليوم يائير لبيد، بمشاركة "ميرتس والعمل" اعتبرها كثيرون الإثبات بأن مرض أو موطن ضعف "اليسار الصهيونيّ" كامنٌ في أنه يوافق على إدارة ظهره لقيم عالميّة، مثل الليبرالية والاستقامة والعدالة، وأنه حين تصطدم هذه القيم بفكرة الصهيونيّة والقوميّة اليهوديّة، التي هي في العموم نقيض المساواة، فإن أحزاب اليسار تفضّل تغليب الجانب الصهيونيّ على الجانب اليساريّ فيها، فاليسار ليس في أزمة فقطـ، بل أكثر من ذلك. وبهذا المعنى، لم يعد دقيقًا القول إن اليسار في أزمة، لأنه فقد مبرر وجوده، بعد أن أدّى دوره التاريخيّ كاملًا، وتضاءلت الأصوات المؤيدة لمواقفه المعتدلة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، تاركًا الساحة مرغمًا لليمين الذي تبنّى موقفًا قوميًّا متطرّفًا ، على حساب الموقف المدنيّ الذي هو جوهر الوجود الرسميّ للدولة، عبر تأييد الاستيطان وتحريك المجتمع الإسرائيليّ نحو التطرف ، مستغلًّا مشاعر الإحباط والغضب التي رافقت عمليات الاستيعاب للمهاجرين، خاصّةً اليهود الشرقيين القادمين من الدول العربيّة والإسلاميّة، والكراهية تجاه النخبة الإشكنازية التي قادت الدولة منذ تأسيسها. غابت أحزاب اليسار عن الساحة، وغابت قدرتها على المناورة السياسيّة، وأصبح اليمين الذي اعتاد على فكرة "أرض إسرائيل الكاملة"، لعدم وجود منافس، قريبًا من جعل إسرائيل دولة ثنائيّة القوميّة، وإلى جانب ذلك الدفع بها إلى الانقسام الداخليّ العميق، وإلى العزلة في الساحة الدوليّة، ناهيك عن أن اضمحلال اليسار وتماهيه مع اليمين أحيانًا، خوفًا أو خجلًا أو ضعفًا، يؤثر في سلوك اليمين في السلطة الآن، ويدفعه إلى إجراءات تشريعيّة وقانونيّة ذات طابع قوميّ متطرّف أحيانًا، بموجب هذه الإجراءات يتمّ المس بالديمقراطيّة ووسم منظمات وشخصيات وأحزاب ومواقف بأنها معادية وربما خائنة، وتضييق مساحة حريّة الرأي والتعبير، ومنع مقاطعة المستوطنات، وفرض الموقف القوميّ الدينيّ المتطرّف على اقتصاد الدولة وحياتها اليوميّة، والضغط على جهاز القضاء وتهديده، بما فيه محكمة العدل العليا، مع استمرار الرواية الإسرائيليّة، رغم اختلاف الحكومات، بأن العالم كلّه ضد إسرائيل، وأن لا مبرر أمامها سوى الاعتماد على قوتها وسلاحها، مقابل أي محاولة للمس بها من غزة أو لبنان أو إيران.
" الحملات العسكريّة أصبحت جزءًا من الانتخابات"
إذن، انتهت الحملة العسكريّة الأخيرة وسارع القادة من الطرفين إلى استوديوهات التلفزيون للتغني بالنصر المبين، تمامًا كما عجت استوديوهات التلفزيون وموجات أثير الإذاعات في إسرائيل خاصة، بقوافل وجحافل " المحللين والخبراء في الشؤون العربيّة والفلسطينيّة والعسكريّة" أدلى كلّ منهم بدلوه، مردّدًا الرواية الرسميّة كجزء من جوقة باتت أصواتها معروفةً سلفًا، لا جديد فيها يقال، بل قديم يُعاد، تعتمد الشعارات دون الخوض الصادق والحقيقيّ في الأسباب والحلول وسبل نزع الفتيل، وهو ما حصل بعد انتهائها فالنشوة لدى الطرفين. وكلٌ يمجَدُ إنجازاته ويتغنى بانتصاره وكسر شوكة الطرف الآخر، هي شعارات تكون خطيرة أكثر للطرف الأضعف سياسيًّا وعسكريًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا في معادلة القوة بين الطرفين، وهو حتمًا الطرف الفلسطينيّ سواء كان "حماس" أو " الجهاد" أو السلطة الفلسطينيّة (وقبلهم الدول العربيّة التي لم تدرك حجم قوتها، وأنها غير جاهزة سياسيًّا وشعبيًّا واقتصاديًّا ومعنويًّا لمحاربة إسرائيل وهزيمتها)، ما ينذر بأن ما كان هو ما سيكون. وأن " قصر النظر وعدم وضوح الرؤية" هو حالة أصابت الطرفين، يدفع ثمنها المواطنون في الطرفين. وأن الحملات العسكريّة أصبحت في إسرائيل جزءًا من الانتخابات، وبالتالي فالصدام العسكريّ القادم مسألة وقت، أي أن السؤال هو ليس ما إذا كان الصدام العسكريّ سيحدث مرة أُخرى، وإنما متى سيحدث؟ .
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected].