المحامي زكي كمال
تطرّف التوجّهات القومجيّة في إسرائيل، أو لحماية نفسه من الانتقاد وحملاته الشعواء خاصّة في القضايا المتعلّقة ببنيامين نتنياهو من جهة، وحقوق الأقلية العربية داخل البلاد والفلسطينيّين من جهة أخرى، عن دوره البارز ومسؤولياته، بل ومهامه الأساسيّة الواضحة، وهي إحقاق العدل وضمان المساواة وصيانة حقوق الأقليّات، واحترام القوانين والمواثيق والأعراف الدوليّة، جاء التأكيد الإضافيّ والواضح على ذلك عبر قرار المحكمة العليا الأخير من يوم الخميس 28.7.2022 ، والذي نقضت به المحكمة قرارها السابق منذ عامين إخلاء وهدم مستوطنة "متسبيه كرميم" المقامة على أراض فلسطينيّة خاصّة، وقبول استئناف أصحاب الأراضي في قرية دير جرير قضاء رام الله وإعادة قطعتين من الأراضي لأصحابها، لتقرّر اليوم عدم إخلاء 45 منزلًا في المستوطنة المذكورة بقرار يشرعن عمليًّا استخدام الأراضي الخاصّة التي خصّصها "مفوّض أملاك الغائبين" للمستوطنين لغرض إنشاء المستوطنات، على الرغم من أنه تبين أنّها ليست بملكيّة حكوميّة، ليؤكّد ما أشرت إليه بأنه المؤكّد في بداية مقالي هذا، من أن هذا القرار يؤكّد للقاصي والداني أن المحكمة العليا الإسرائيليّة جرّدت نفسها من القوانين السارية المفعول في الضفة الغربيّة، ومن المعاهدات والقانون الدوليّ المعتمد داخل إسرائيل نفسها، وقامت بإصدار قرار يعطي المستوطنين الحقّ في المكوث على الأرض واستغلالها والبناء عليها، ومنعت عنها أصحابها الحقيقيين، وهي بذلك ابتعدت كثيرًا عن كونها الملاذ الأخير لكفالة حقوق الإنسان داخليًّا وتطبيق القانون الدولي خارجيًّا، وأن ذلك يعني انهيار منظومة فصل السلطات ونظام الضوابط القانونيّة ضد انتهاك الحقوق وسقوط تدابير حماية الحقوق والحريات في إسرائيل، وانتهاك القوانين والأعراف الدوليّة وشرعنة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة بما فيها الأراضي الخاصّة، أي شرعنة الاحتلال ورفض القوانين الدوليّة والقرارات الدوليّة وهي التي أقيمت إسرائيل بموجبها، ما يعني أن إسرائيل، والتي تلقت سيلًا من الانتقادات عربيًّا ودوليًّا لسياستها على أرض الواقع ضمّ الضفة الغربية وغور الأردن، قرّرت التحايل والتذاكي والانتقال من الضمّ الزاحف سياسيًّا وجغرافيًّا إلى الضمّ بواسطة القانون، الذي يقود إسرائيل إلى دولة واحدة مع أكثريّة عربيّة ونظام غير ديمقراطيّ، علمًا أن قرارات المحكمة العليا الإسرائيليّة الأخيرة تهدف إلى إضفاء الشرعيّة على انتهاكات واضحة لالتزامات القانون الدولي المترتبة على إسرائيل، و مبادئ القانون الدوليّ التي تحظر التمييز وخرق القانون الدوليّ الخاصّ باستخدام موارد الأراضي المحتلة.
قرار العليا هذا ليس الأخير، ويقينًا لن يكون الأخير، في سيرورة تذكرني بقول المهاتما غاندي" لا يصبح الخطأ على وجه حق بسبب تضاعف الانتشار، ولا تصبح الحقيقة خطأ لأنّ لا أحد يراها "، بمعنى أن سلسلة القرارات لا تعني صدق التصرفات وكونها صحيحة، أو مقبولة حتى لو تكررت. كما أنها لا تعني تغيير الحقيقة الساطعة من أن إسرائيل تواصل احتلال الضفة الغربيّة وتعزيز الاستيطان لعلّه يخلق على الأرض ما يمنع إقامة كيان فلسطينيّ قابل للحياة، ومن أن قضاءها ومحاكمها تشرعن عمليًّا خطوات تنتهك حقوق الإنسان، وتناقض القوانين الدولية وذلك مع سبق الإصرار والترصّد، بلغة القضاء، وأنها تتساوق مع الأحزاب السياسيّة والسلطة التشريعيّة وقراراتها بدلًا من أن تكون الرقيب والحسيب. وما سلسلة القرارات الأخيرة ( قبل وبعد قرارها حول إخلاء 12 قرية فلسطينيّة في مسافِر يطا قبل ثلاثة أشهر تقريبًا لمصلحة المستوطنين في جبل الخليل)، إلا الدليل على ذلك، فهي المحكمة ذاتها التي رفضت أن تلغي قانون منع لم الشمل (قانون المواطنة باسمه الإسرائيليّ) الذي يمنع المواطنين الإسرائيليّين والمواطنات الإسرائيليّات من تحديد هويّة شريك حياتهم، ويحرمهم من حقّ الإقامة مع أزواج وزوجات فلسطينيّين وفلسطينيّات. وهي نفسها التي أقرت مؤخرًا بأن الدولة يمكنها سحب الجنسيّة ممّن يرتكبون أفعالًا تمثّل انتهاكًا للثقة بالدولة كالإرهاب، أو التجسس، أو الخيانة. وهي نفسها التي رفضت قبل ذلك كافّة الالتماسات التي قدّمها مواطنون عربًا وهيئات حقوقيّة ضد قانون القوميّة الذي يعتبر اسرائيل دولة لليهود فقط، ويلغي المكانة القانونيّة الرسميّة للغة العربيّة، ويحظر إقامة قرىً ومدن لغير اليهود، لتتساوق وتتماهى بذلك مع المجريات على الحلبة السياسيّة وخاصّة في الكنيست العشرين حيث تم سنّ ثمانية قوانين وتعديلات قوانين تسري مباشرة على الضفة الغربيّة، منها ما يغيّر ويشرعن بصورة كبيرة طريقة سيطرة إسرائيل على الضفة، ويؤثّر مباشرة على حقوق الفلسطينيّين. كقانون التسوية (الذي تم إلغاؤه)، تعديل قانون المحاكم للشؤون الإداريّة، الذي نقل من المحكمة العليا إلى محكمة الشؤون الإدارية في القدس معالجة التماسات مهنيّة تتعلق بمجالات التخطيط والبناء، وقانون حريّة المعلومات، والدخول إلى الضفة والخروج منها والتنقّل داخلها، وتعديل قانون مجلس التعليم العالي وتطبيقه على مؤسسات أكاديمية في المستوطنات، الأمر الذي ألغى الفصل الذي كان موجودًا بين مجلس التعليم العالي في إسرائيل، ومجلس التعليم العالي في الضفة الغربيّة، وتعديل قانون منع التمييز في المنتجات، الذي أضاف منع التمييز بسبب مكان السكن، إضافة إلى أنه تم في عهد الكنيست الحاليّة وبالقراءة التمهيديّة المصادقة على قانون "تسوية الاستيطان الشاب" الذي سيشرعن "البؤر الاستيطانيّة غير القانونية" وفق قاموس المصطلحات الإسرائيلي.
"يصلح العطَّار ما أعطبه هو"
قرار المحكمة المذكور يتمتّع بخصوصية مميّزة، منها تنبع أهميته بل خطورته، فهو قرار يشرعن المستوطنة رغم أنه اتّضح أن المستوطنين حصلوا على أرض بقرار رسمي من الدولة التي أهملت وربما بدافع سوء النية، حقيقة كونها أراضٍ خاصّة، وبالتالي فضَّل القضاة خلال نقاشهم القضية ضمن التماس اشتركت في تقديمه النيابة العامّة والدولة والمستوطنون معًا، اعتبار الأمر نزاعًا قضائيًّا على الملكيّة اعتبروا أن حلّه يكمن في "أن يصلح العطَّار ما أعطبه هو" أي أن تصلح الدولة خطأها باعتبارها المسؤولة عن الخلاف، وأن تضمن حقّ المستوطنين في البقاء هناك في المنطقة التي أقيمت عليها منازل ، أي أنها منحت المستوطنين شرعيّة قانونيّة للسكن فوق أراضٍ فلسطينيّة منحهم أو سيمنحهم إياهم القيِّم على أملاك الغائبين خلافًا للصلاحيّات القانونيّة الممنوحة له، وللأهداف الأَساسيّة له، وهي الحفاظ على هذه الأملاك حتى عودة أصحابها ،أي أن المحكمة ضربت ثلاثة عصافير بحجر واحد، أولها أنه يمكن لقضاتها " تنقية ضمائرهم " والادعاء أنهم ضمنوا إعادة الأرض - تلك التي لم تتم إقامة منازل المستوطنة، وتعويض المساحات التي أقيمت عليها المنازل - إلى أصحابها الفلسطينيين. وثانيها أنهم حافظوا على حقّ المستوطنين في المسكن ( الدولة منحتهم أراضٍ دون أن تفحص الملكية، أو أهملت في ذلك كما ادعت المحكمة) ، وثالثها أنهم شرعنوا بقرارهم هذا حقّ الإسرائيليّين في الاستيطان في الضفة الغربيّة، والأنكى من ذلك أن المحكمة أقرّت عمليًّا أن حصول المستوطنين على أراضٍ من القيم على أملاك الغائبين يمنحهم حقّ الملكيّة عليها حتى لو لم يتوفر في منحهم إياها عامل "حسن النوايا" – بعكس ما جاء في القرار السابق الذي رفض منحهم الحقّ لعدم توفر "النوايا الحسنة" من قبل القيّم، لتتحوّل المحكمة من فاحصة للأدلة والوقائع إلى فحص النوايا والدوافع، ولتسهل المحكمة بقرارها سلب الأملاك التابعة للمواطنين العرب والفلسطينيّين في الضفة الغربية، ونقلها لجهات يهوديّة واستيطانيّة حتى لو " دون حسن النوايا"، علمًا أن أربعة من قضاة المحكمة وهم: نوعم سولبرغ ونيل هندل ويتسحاك عميت ودفنا براك إيرز أيدوا القرار الجديد، بينما أيّدت رئيسة المحكمة إستر حيوت ونائبها عوزي فوغلمان والقاضية عنات بارون إبقاء القرار الأول الذي يُلزِم بإخلاء المستوطنة نهائيًّا.
قرار المحكمة الحالي ينذر بالأسوأ وبأن المحكمة التي لم تمتنع عن شرعنة الاستيلاء غير القانونيّ، أو السلب الحالي لن توقف السلب القادم، وربما سيكون أكبر، وأنها اعتبرت سوء نية القيم على أملاك الغائبين مبررًا لشرعنة سوء نية المستوطنين، أو رغبتهم غير المشروطة في الاستيلاء على أملاك الفلسطينيين. كما أنه قرار يناقض ميثاق "هاغ" الدوليّ الذي يحرِّم المسّ بأملاك المواطنين الأَصليين في المناطق المحتلة، أي جعلهم مواطنين محميين، ناهيك عن أن القرار يميِّز بشكل مصطنع بين "مناطق بناها المستوطنون"، وبين "مناطق يملكها المستوطنون". ويعتبر عملية البناء وهي غير قانونيّة " المقابل" الذي قدمه المستوطنون ضمن الصفقة مع القيّم على أملاك الغائبين، لكنّه يتوصل إلى نتيجة مستهجنة مفادها أن البناء غير القانونيّ رغم كونه كذلك يلزم بشرعنة الصفقة بين المستوطنين والقيم على أملاك الغائبين، أي أن المحكمة تشرعن صفقة ارتكب طرفاها تصرّفات غير قانونيّة، وليس ذلك فقط، بل إن المستوطنين أقاموا المنازل خلافًا للقانون وفوق أراضٍ تمت السيطرة عليها لأغراض عسكريّة مؤقتة، بعد تسعة أشهر من صدور قرار الإخلاء.
"المؤقّت هو الثابت أبدًا ودائمًا"
اعتمد القضاة في هذه القضية، البند الخامس من الأوامر المتعلّقة بأملاك الدولة، أو الحكومة في الضفة الغربيّة، والذي ينصّ على أن أيّ صفقة بين المسؤول عن أملاك الدولة، وبين أيّ مواطن كان، ستبقى على حالها، ولن يتم إلغاؤها ما دامت قد تمّت بحسن نية. وهو بند لا يعتبر مبرّرًا للظلم، أو التمييز لكنّ القضاة الذين شاركوا في البتّ بالقضية يدركون كلّهم معنى الحق في المساواة، ومنع التمييز وبالتالي كان من المتوقّع، بل الطبيعيّ والمفروض أن يقرّروا إخلاء المستوطنة، ومنع تكرار مثل هذا العمل فوق أراضٍ فلسطينيّة خاصّة، وأنه تم تخصيص أقل من رُبْع بالمئة من "أراضي الدولة" في الضفة للفلسطينيّين والباقي للمستوطنين، ما يعني أن القرار يحوّل البند الخامس المذكور إلى وسيلة ومبرر للتمييز لمصلحة، ولصالح المستوطنين وللتمييز ضد الفلسطينيين، ما يخالف ويناقض القانون الدوليّ، بل أُسس القضاء الإسرائيليّ، بيد أن القضاة قرروا- لغاية في نفسهم- توسيع نطاق البند الخامس بدلًا من تقليصه، ما يعكس حقيقة مؤلمة، وهي أن القانون الدوليّ " يختفي" أو يتم تناسيه، بل والقفز عنه خلال بت المحاكم الإسرائيليّة في قضايا الأراضي وملكيتها رغم أن القانون الدوليّ يمنع الدولة التي تحتل الأرض، منعًا باتًا، من توطين مواطنيها فوق أراضٍ محتلّة. لكنّ القضاة " يبررون" قراراتهم المعارضة والمناقضة للقانون الدوليّ، بكونها قرارات مؤقّتة رغم أن الجميع في إسرائيل يعلم "أن المؤقّت هو الثابت أبدًا ودائمًا"، خاصّة إذا كان الأمر يتعلّق بأراضي الضفة الغربيّة التي كان قاضي العليا السابق إدموند ليفي قد اعتبرها خلافًا للقوانين الدوليّة كافّة، أراضٍ يمكن للدولة التصرّف فيها، واعتبر المستوطنات التي يرفضها العالم كلّه، مستوطنات شرعيّة، وهو ما تعكسه قرارات المحكمة العليا السابقة التي تتعلّق بالتخطيط في المستوطنات، وداخل الخطّ الأخضر والتي تعتمد قيمًا مختلفة، تصبّ في مصلحة اليهود وضدّ العرب، فقوانين التخطيط تضمن رفاهيّة السكّان كما هو الحال في المستوطنات والبلدات اليهوديّة داخل الخطّ الأخضر، لكنها تجيء لتنفيذ وشرعنة سلب أراضي السكّان منهجيًّا، كما في البلدات العربيّة والفلسطينيّة، وها هو هذا القرار الحالي يؤكّد أن قرارات المحكمة العليا في هذا السياق تخلط الحابل بالنابل، وتمحو الفروق ليبدو الاستيلاء غير الشرعيّ على الأراضي أخلاقيًّا وشرعيًّا، أي أن المحاكم تنظر إلى الخلاف على الأراضي بين الفلسطينيين والمستوطنين في الضفة الغربية ليس وفقًا للقانون الدوليّ الذي يحمي حقوق الشعوب تحت الاحتلال، بل إنها تنظر إليه تمامًا كما تنظر إلى أي خلاف حول الأراضي والعقارات في نتانيا أو تل أبيب داخل إسرائيل. تُضاف إلى ذلك الانتقائيّة في التعامل مع أحكام القانون الدوليّ. تشرعن المحكمة جهاز التخطيط أيضًا عبر الإيحاء بأنّ التخطيط لأجل السكّان الفلسطينيّين يستوفي متطلّبات القانون الإنسانيّ الدوليّ. يتمّ ذلك غالبًا بواسطة مقتطفات انتقائيّة من أحكام القانون بهدف خلق انطباع أنّ السياسة الإسرائيليّة تنسجم وذلك القانون، وتجاهُل أحكام أخرى كتلك التي تحظر إجراء تدريبات عسكريّة أو إقامة مستوطنات، ما يجعل الجيش وسيلة لشرعنة الاستيطان عبر الاستيلاء على أراضٍ لأَغراض عسكريّة عبر "أوامر إغلاق" تمنع أصحابها من دخولها واستخدامها، تتحوّل إلى" أوامر سيطرة واستيلاء" تليها إقامة مستوطنات غير قانونيّة ثمّ شرعنتها وتحويلها إلى قانونيّة حتى إذا اتضح أنها أقيمت فوق أراضٍ فلسطينيّة خاصة، أو إذا ما اتضح أن المسؤول عن أراضي الدولة في الضفة الغربيّة لا يعرف أنها أراضٍ غير تابعة له، كما حدث في قضية متسبيه كرميم، عندما منح القيم على أملاك الدولة هذه الأرض عام 1973لإقامة مستوطنة اسمها "كوخاف هشاحر" ظنًّا منه أنها تابعة له، رغم أن الواقع غير ذلك بل عكس ذلك. وبالتالي لا يمكنني أن أقبل كيف وافق القضاة على "حسن نوايا" المستوطنين والقيم على أملاك الغائبين وأراضي الدولة في هذه القضية، رغم أن كافة خطواتهم مناقضة للقانون الدوليّ، وتبدو فيها واضحة للعلن ملامح سوء النية مع سبق الإصرار.
"انتقائيّة وتحيز الجهاز القضائيّ"
في سياق مشابه ومتصل، قضت المحكمة العليا، قبل أسبوعين من اليوم، بأنه يمكن للسلطات في الدولة سحب الجنسيّة ممّن يرتكبون أفعالًا تمثّل انتهاكًا للثقة بالدولة مثل الإرهاب أو التجسس أو الخيانة. وصدر هذا القرار في أعقاب طعنين منفصلين في قضيتي فلسطينيّين يحملان الجنسيّة الإسرائيليّة أُدينا بتنفيذ هجمات أودت بحياة إسرائيليين، وعوقب الاثنان بأحكام سجن طويلة، لكنّ الدولة سعت لتجريدهما من الجنسيّة، وهما علاء زيود الذي ادين بتنفيذ عمليّة مسلحة قرب الخضيرة عام 2015، والثاني محمد مفارجة الذي نفَّذ عملية مسلّحة ضد حافلة في تل أبيب عام 2012 خلال الحملة العسكريّة الإسرائيليّة على القطاع "عامود السحاب". ورفضت المحكمة سحب الجنسيّة في القضيتين استنادًا إلى "أخطاء إجرائيّة فادحة"، لكنّها قضت بأن العمليّة نفسها دستوريّة حتى إذا صار الشخص المسحوبة جنسيّته بلا وطن، وقالت إن على وزير الداخليّة في مثل هذه الحالات منح الشخص إقامة دائمة، مؤكّدة أنه يحقّ للدولة أن تتخلّى عن أولئك الذين خرقوا واجب الولاء الأساسيّ لها، رغم أن هذا المسّ كبير ومؤثّر إلا أنه يعتمد على أسس واضحة ملخصها الحفاظ على مبنى الدولة والتضامن بالحدّ الأدنى بين مواطنيها بغية الحفاظ على كيانها، وأن هناك أعمالًا لا يمكن لمن قام بها أن يبقى مواطنًا في الدولة، وبالتالي يمكن للدولة إلغاء وسحب جنسيّة من يقوم بها مع منحه إمكانية المكوث الدائم في الدولة ما اعتبره القضاة حلًّا وسطًا، رغم أنه يجافي القوانين الدوليّة، ويختلف كثيرًا عما يتم في دول ديمقراطية في العالم، وهو ربما ما دعا القاضي عوزي فوغلمان إلى المطالبة بأن يتم سنّ قانون يضمن عدم بقاء مواطن ما دون جنسيّة، ودون أن يتمكن من البقاء في الدولة، علمًا أن الانتقائيّة في قرارات المحكمة العليا تبرز هنا أيضًا، وأنه من المرجّح، بل من المؤكد أن يتم استخدامه ضد الفلسطينيين والعرب حصريًّا، دون أي تطرق للاعتداءات الإرهابيّة التي ينفذها يهود ضد فلسطينيّين ( اختطاف وقتل الفتى محمد أبو خضير مثلًا وحرق عائلة دوابشة، أو القاء عبوة حارقة على عربيّ قرب الخضيرة من قبل ثلاثة من المواطنين اليهود بدأت محاكمتهم في المحكمة المركزيّ بحيفا هذه الأيام)، أو مواطنين عربًا في اسرائيل ومنها الاعتداءات على العرب في العام الأخير، ومنها ما نقلته كاميرات التلفزيون ببث مباشر ووثّقته بكامله، مع الإشارة إلى أن إعلان هذا القرار تزامن مع معطيات تؤكّد " انتقائيّة وتحيز " الجهاز القضائيّ إذ اتضح من معطيات هذا الأسبوع أن 77% من لوائح الاتهام بجرائم التحريض على العنف والعنصريّة التي قدمتها النيابة العامّة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، استهدفت المواطنين العرب، كما بيّن وجود فجوة كبيرة في معدّل الإدانات وشدّة العقوبات التي صدرت بحقّ المتهمين العرب مقارنة باليهود.
ختامًا، يثبت مرة أخرى خطأ أولئك الذين لم يأبهوا لتعاظم وتعزيز التوجهات اليمينيّة والضغوط على جهاز القضاء والمحاكم متيّقنين من أنه سيبقى في برجه العاجيّ بعيدًا عن تأثيراتها، وسيضمن استقلاليّته، ليبقى ملاذًا لحقوق المواطن والمساواة والعدالة وضمان تنفيذ القوانين المحليّة والدوليّة، أي أن تبقى إسرائيل بجهازها القضائيّ ومحاكمها" منارةً للأغيار"، ليتضح أنه أصاب هذا الجهاز ما أصابه، وأنه يتحوّل ببطء إلى جهاز لا يتورّع من أن يسوِّغ كافة أعمال الحكومات وتصرفات الدولة وسياساتها لمصلحة الأغلبيّة اليهوديّة فقط، بعيدًا عن العدل والمساواة وحتى القوانين الدوليّة.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected].