عبده حقي - صورة شخصية
وقد أدى ذلك إلى إفلاس عديد من مؤسسات الصحف السيارة في جل الدول. وعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية الرائد العالمي في صناعة الإعلام قامت كل من واشنطن بوست ونيويورك تايمز و وول ستريت جورنال بفصل مئات الصحفيين والموظفين في محاولة لتخفيض التكاليف. ورغم ذلك لم تكن هذه التغييرات الهيكلية كافية لاستعادة بعض الأرباح المشجعة ، فقد عرفت صحيفة نيويورك تايمز مثلا انخفاضًا بنسبة 26 ٪ في الأرباح السنوية.
لقد باتت القوى التي تنشط هذه الصحف معقدة غير أن السبب الحقيقي في رأيي هو أن العمل الصحفي المنظم وفق نموذج اقتصادي ناجح كان مربحًا جدا عندما كانت الصحف الورقية هي الوسيلة الوحيدة لمصادر الأخبار لكنها من جهة أخرى كانت تعيش حالة من الضعف والهشاشة في مواجهة كل أشكال المنافسة الراهنة والقادمة في المستقبل.
إن الأخبار والمعلومات باعتبارهما منتوجا "استهلاكيا" إعلاميا كانت لهما ميزتان اقتصاديتان مهمتان. أولاً كونهما أخبارا موثوقا بها مما يعني أنه بمجرد نشرها يمكن لأي شخص توظيفها بكل اطمئنان ووثوق . ثانيًا إذا كانت تكاليف المراسلين مكلفة لجمع المعلومات وتوزيعها فقد بقيت هي نفس التكاليف بغض النظر عن كثافة المعلومات التي يتم إنتاجها.
قبل أن يصبح التلفزيون مصدرًا منتظمًا للأخبار المختلفة لدى الجمهور كانت الصحف الورقية تعاني من ثغرة بسبب عامل المواكبة المرافقة لعجلة الأخبار. في حين أنه إذا لم يكن باستطاعة الصحف منع أحد منافسيها كالمذياع والتلفزيون من نشر خبر عاجل فإن تأخرها بيوم واحد فقط في نشر نفس الخبر يكون ربحا كافياً لهذا المنافس أو ذاك على حساب الصحف الورقية .
وعلاوة على ذلك ونظرًا لأن تكاليف التوزيع تكون هي نفسها بغض النظر عن كثافة المعلومات المنشورة في كل صفحة فقد يظهر هناك نزوع نحو الاحتكار بمجرد أن تنشئ صحيفة ما شبكة للتوزيع. كما يكون للتكاليف الثابتة لتوزيع المعلومات آثار جانبية أخرى حيث تصبح الصحف وسيلة فعالة جدا لتوزيع الإعلانات المبوبة لأن تكلفة إدراجها في الصحيفة تكون منخفضة. وعلى غرار ذلك أصبح تضمين الإعلانات أمرًا مربحًا جدا نظرًا لأن التكلفة الإضافية لتضمينها تكون منخفضة جدًا. ولا تزال الإعلانات المبوبة والمجزأة تشكل 80٪ من عائدات صناعة الصحف.
لقد أدى تعاظم دور الإنترنت إلى تغيير هذا الوضع الاقتصادي تمامًا. لم يعد بإمكان الصحف أن تكون أكبر المستفيدين من نشر الأخبار. حيث بمجرد أن تنشر صحيفة ما خبرا جديدا يمكن لشبكات الأخبار الأخرى والمدونين التحرك بسرعة لتغطية نفس الخبر وبالتالي انتقال الكثير من أرباح العمل الشاق للصحفيين الورقيين والمراسلين إلى لاعبين جدد في الميدان.
وفضلا عن ذلك أصبح التعامل مع الإعلانات المبوبة بشكل أكثر فاعلية من خلال الخدمات عبر الإنترنت حيث بدأ معلنو الصحف ينجذبون عن طريق شبكات الإعلانات عبر الإنترنت والتي وعدت باستهداف إعلانات المحتوى مما أدى إلى انخفاض كل من التداول والإيرادات في السنوات الأخيرة. فقد انخفض التوزيع بأكثر من الثلث منذ منتصف التسعينيات بينما انخفضت عائدات الإعلانات لكل تداول بنسبة 20٪ في السنوات العشر الماضية. وكانت النتيجة أخيرا هي أن الصناعة الصحفية شهدت انخفاضا في إيراداتها بمقدار النصف.
ومما لاشك فيه إن العمل الصحفي المهني أصبح يعرف تراجعا الآن بسبب طوفان الأخبار المتاحة لجميع الأطراف المهتمة أكثر من أي وقت مضى . فقد مكّن الإنترنت من خلق ما يسمى ب"صحافة المواطن" إلى حد أنه كان أمر مستحيلا فيما قبل.
لقد لعب الإنترنت دورا هاما في إلغاء الوساطة في العديد من الصناعات. فقد تم استبدال وكالات الأسفار والمكتبات بمواقع إلكترونية ألغت جميع أشكال الوسطاء. ونفس الواقع حدث في عالم الأخبار حيث يقوم الكثير من الصحفيين بجلب عديد من الناس ليقرؤوا أعمالهم بصرف النظر عن فضاء نشرها. لهذا السبب نرى كيف تعرض بعض المواقع صوراً لكتاب الأعمدة المشهورين بشكل بارز في حين أن الأعمدة الثانوية في صحيفة عريقة صغيرة جدًا.
إن شركات صناعة الأخبار باتت تشعر بالقلق لأن معدل الوقت الذي يقضيه القارئ الزائر لأي موقع إلكتروني إخباري في أي يوم هو فقط خُمُسٌ ما قد يقضيه في قراءة الصحيفة الورقية . وبالتالي فأن مستهلكي الأخبار لم يعودوا يختارون الورقة بل بدلاً من ذلك يتنقلون إلى أي فضاء رقمي إخباري يجدون فيه المعلومات التي يريدونها أو الصحفيون الذين يتابعونهم. ونظرًا لتوفر إمكانية الوصول إلى الأخبار من مكان العمل والأجهزة المحمولة فقد يقضي القراء في الواقع وقتًا أطول في قراءة الأخبار اليوم أكثر مما كانوا يقضونه قبل عشر سنوات. ونظرًا أيضا لتفوق استهداف الإعلانات على الإنترنت مقارنة بالمساحة الورقية فقد ترتفع عائدات الإعلانات الإجمالية من الأخبار على الرغم من أنه من المحتمل أن تذهب الكثير من الفوائد إلى المراسلين بدلاً من الصحف.
لهذه الأسباب لا داعي للخوف كثيرا من اختفاء الصحافة الورقية. يقينا أن شكلها سيتغير جذريا خلال السنوات القليلة المقبلة. وبالتالي من المحتمل أن تكون النتيجة محتوى غنيا ومتاحا لعدد أكبر من القراء.