logo

‘ العودة القريبة ‘ - بقلم: الكاتبة اسماء الياس من البعنة

02-07-2022 14:17:26 اخر تحديث: 18-10-2022 07:58:38

ذهب كل شيء لم يبقَ سوى آثار لبعض البنايات المتهالكة التي دمرتها العوامل المناخية. في هذا المكان الصامت الذي لا صوت فيه سوى همس النسيم، وامواج البحر المتلاطمة


الكاتبة أسماء الياس - صورة شخصية

التي تذكرني بطفولتي، عندما كنت أجيء مع جدي ونجلس بالساعات تحت ظلال الأشجار، يحدثني عن تاريخ هذه البلدة التي كانت بالماضي يسكنها بشر، لكن اليوم لا أحد فيها سوى ذكريات الماضي، وحنين أهلها الذين يتمنون يوماً العودة لأحضانها.
صمت جدي لكن الدموع كانت تتكلم بالنيابةِ عنه، نظرت في عينيه وقلت:
-جدي خبرني كيف أصبحت هذه البلدة فارغة من سكانها؟ مع أن كل شيء فيها يدل بأنها كانت عامرة بأهاليها.
- نعم يا مريم صدقت لقد كانت هذه البلدة عامرة بأهلها الطياب، لكن العدو جاء وقتل من قتل، وهرب الباقي بعد أن وعدوهم بالعودة القريبة، لكنهم كذبوا ولم يخجلوا، تركوا كل شيء وراءهم لم يأخذوا حتى ثيابهم، فقد صدقوهم رغم أن الأكثرية شكوا بصدق نواياهم، لكن الخوف على عائلاتهم جعلهم يرحلون غير متأكدين من العودة.
- اليوم يا جدي لا أحد يسكن هنا سوى الريح التي أخذت كل تلك المساحات حتى تعبث فيها على خاطرها.
- لكن يا مريم انظري إلى تلك التلال والبحر القريب، والشاطئ والرمال والنسيم والأشجار والسماء الواسعة الصافية، مكان يجعلك تعيشين حالة من التأمل، طبيعة جمالها فوق الوصف.
- لكن هذا الجمال حزين يفتقد صوت طفل يلعب على رمال هذا الشاطئ. وامرأة تخبز على التنور، ورجل عاد من العمل متعباً يريد الاغتسال وتناول الطعام، والجلوس بحديقة منزله يتأمل كل هذا الجمال ويسرح، لكن بغمرة كل هذا الجمال يجلس شاعر ويكتب قصيدة يعبر من خلالها عن سعادته لأنه يعيش على هذه الأرض الطيبة، يكتب حتى ينفذ منه الحبر.  
- هل تتابعين تلك الفراشات السارحات على الزهور؟
- نعم يا جدي هذا المكان قطعة من الجنة، أتمنى ان يعود أهله و تعمر هذه الديار، لكنها تبقى أمنيات على أمل أن تتحقق. لكن من المستحيل أن تتحقق، وخاصةً ونحن نعيش واقعا مؤلما وعنصرية تزداد، رغم الحضارة والتقدم العلمي التي يشهده العالم، لكن الانسان لا يشبع فهو طماع يأخذ دون كلل، وهو يريد المزيد حتى لو داس بطريقه على الجماجم
لكن في الزمن القديم يا عزيزتي قبل أن تولدي كان هنا استعمار آخر، أين هو الآن لقد رحل. استعمار احتلال بعد احتلال، ناس جاؤوا وناس رحلوا، عالم تغير وتبدل، لا شيء يا جدي مضمون، ولا شيء يبقى إلى الأبد، الحياة في تغير مستمر.
-صدقت يا جدي لا شيء في عالمنا مضمون، لكن الشيء الوحيد المضمون هو محبتك لي ومحبتي لك. وأيضا حبنا لهذه الأرض وهذه السماء والطبيعة، وحبي لعائلتي وحبهم لي.
وفي غمرة تلك الذكريات التي خطرت على البال جاء من يكسر على تلك الذكريات عندما جاء حبيبي الذي غاب فترة خارج البلاد، فقد تمت دعوته من قبل جمعيات حقوقية حتى يلقي محاضرة عن العنف واسبابه. فهو الأستاذ عامر
 الذي نال أعلى الأوسمة وشهادات التقدير على نشاطه وعمله الدؤوب على انهاء العنف التي يشهدها المجتمع العربي.
وهذا لم يجيء من فراغ فقد تعب و تعلم حتى نال درجة الدكتوراة، وعمل الكثير من الأبحاث حتى اصبح البروفيسور عامر فرح. نجاحه ووصوله لهذه الدرجة العلمية جعلني فخورة به  وبكل ما وصل إليه.
  قبل أن يسافر مودعاً إياي قال:
- عندما أعود سوف أتقدم لخطبتك، وكما وعدتك سوف نقيم زفافنا هنا على هذه الأرض التي تحبينها، وقد قدمت بعد الموافقات من المؤسسات وقد وافقوا على طلبي.
جلسنا نتأمل الكون معاً، فقد كان أحب الأوقات لديَّ عندما يتفرغ لي ويقضي أوقاته معي، لا يفكر بشيء سوى كيف نقضي تلك الساعات معاً دون أن يزعجنا رفيق أو تلفون، فكان من عاداتنا أن نقفل هواتفنا النقالة حتى نستمتع بكل الأوقات، ومع هذا الجو الرومانسي الهادئ الذي لا يكسره سوى نسمات عليلة وصوت تكسر الأمواج.
-أحب هذا المكان جداً، قال عامر: وهو ينظر في عيني مبتسماً.
- هل تعلم أتمنى لو استطعت بناء بيت هنا.
- يا ليت يا حبيبتي، هذا المكان أصبح من الأمكنة المحببة لنفسي. لأنك تحبينه أولاَ وثانياً لأن طبيعته خلابة.
- هل تعلم أحياناً أحلم بأن هذا المكان مليء باهله وأصوات الأطفال يملأ كل هذا الفراغ. لكن عندما أنهض من نومي أشعر بالحزن لأنه كان مجرد حلم نهضت على واقع مؤلم.
- لكن يا حبيبتي تأملي خيراً ستكون العودة قريبة هكذا أشعر.
- هذا ما أتمناه ايضاً أن يعم السلام على ارض لم ترَ يوماً السلام.
وفي النهاية سيأتي اليوم الذي به الإنسانية تحتاج ان تحارب من اجل السلام والأمن، هذا ما نحتاجه وخاصةً الذي يشهده كوكبنا من تغيرات على صعيد المناخ، والأوبئة التي تحاصرنا وتقضي على الكثير من البشر، والحل الأفضل أن نعمل على انهاء الصراعات المحلية والعالمية، حتى تعيش البشرية بسلام.
وكان زواجنا تاريخياً شهدته المنطقة والمناطق المجاورة، لأنه كان حدث غير مسبوق في قرية مهجرة تنتظر عودة أهلها.
إلى هنا نهاية الحكاية..