تصوير : د. رياض كامل
جادة وناقدة رصينة تعمل وفق مناهجَ نظريةٍ حديثة. وعليه سيتوزع كلامي بين لينة الناقدة ولينة الباحثة.
د. لينا الناقدة
يبدو أن الحديث عن النقد والنقاد سيظل يشغل القراء على اختلاف مستوياتهم، ما دام هناك حرف وما دامت هناك كلمة، ما يشهد على أهمية دور النقد في دعم وتدعيم الحركة الأدبية، وعلى العبء الثقيل الذي يقع على عاتق الناقد.
ارتبطت كلمة نقد في مفاهيم القراء بالبحث عن نواقص العمل أو نواقص الفرد، وهي غالبا ما توحي إلى مفهوم سلبيّ، ربما بتأثير الاستعمال اليومي للكلمة. فالنقد، وفق معاجم اللغة، هي العملة، سواء كانت من ذهب أو فضة. ونقدَ الدراهمَ تفحّصها ليعرف جيّدَها من رديئها. والنقدُ الأدبي يعني، في بعض ما يعنيه، دراسةَ خصائصِ المنتوج ومكوّناتِه. كما ترتبط كلمة النقد لدى بعض الدارسين بكلمة "التحليل"، أي تحليلِ المادة وإعادتِها إلى عناصرها، كما هو الأمر في علم الكيمياء. والتحليلُ الأدبي هو تفكيك النص وردُّه إلى عناصره ومركباته وتبيانُ أجزائه عند بعض الدارسين، ولكنّ النقدَ الأدبيَّ الحقيقي لا يمكن أن يكتفي بذلك ولا يتنازل عن تحديد صلابة النص ومدى تماسك أجزائه. فالحديثُ عن "بِنبة" النص لا يعني وصفَها خارجيا، بل يعني دراسةَ كيفيةِ بناء العمل الأدبي، وأهمية هذه البنية دون سواها، لأن النص الأدبي عبارة عن مجموعة مركبات متآلفة.
تطور النقد في العقود الأخيرة، واستفاد كثيرا من التنظيرات الحديثة ومن العلوم والمعارف المتعددة، وباتت عملية نقد المنتوج الأدبي عملية شاقة ومضنية لا تعتمد على الذوق دون التسلح بمواد تنظيرية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه. وهي اليوم لا تكتفي بالبحث عن عيوب العمل بهدف التنبيه إليها وتحاشيها فحسب، بل تتعدى ذلك إلى إظهار مدى صلابة بنائه، والعوامل التي ساهمت في ذلك، والبحث في التقنيات التي تجعل النص أكثر قوة وتماسكا وأكثر جمالا وأوسع دلالة.
لا يمكن للناقد أن يتّبع نفس المقاييس والمعايير في تعامله مع النصوص الأدبية، فلكل كاتبٍ مبدعٍ أسلوبٌ يميزه عن غيره، له أدواته وثقافته التي تجعل نصه يحمل هوية ما، وعلى الناقد أن يسبُر غور كل عمل أدبي وأن يبحث في خصائصه، سواء كان قصة، رواية، شعرا، مسرحا ومقالة. وهذا ما تقوم به الناقدة لينة الشيخ حشمة. لذلك فقد تسلحت بمعرفة واسعة تؤهلها لأن تتعامل مع كل النصوص، على اختلاف انتماءاتها ومميّزاتها. إذن هناك شروط يجب أن يلتزم بها الناقد كي يتمكن من تنفيذ هذه المهمة بمهنية عالية أهمها:
- الاطلاعُ على النظريات الأدبية على اختلافها.
- التحلي بذوق فنيٍّ راق يساعد على التمييز بين النص الفني وغير الفني، ولن يتمتع الناقد بهذه الميزة إلا عبر الممارسة: قراءة وكتابة.
- معرفةُ أصول اللغة العربية: نحوِها وصرفِها، والاطلاعُ على أسرارها وأصولها عبر العصور للتمييز بين اللغة الفنية الأدبية واللغة العادية، وإدراكُ الفروق بين لغة العصور العربية عبر التاريخ، من ناحية. ودراسةُ الأبحاث القديمة والحديثة كي يتمكن من فهم كنهِ المستويات اللغوية ودورِ المفردة والجملة والخطاب، من ناحية أخرى.
- عدم التعامل مع النصوص وفق نفس المعايير، ونفسِ الآليات، إذ لكل كاتب هويتُه الأدبية التي تميز إبداعه عن إبداع الآخرين.
- أن يقوم الناقد بسد الثغرات، غيرَ مكتف بما قاله النص، والبحث، أيضا، عما لم يقله النص. (كما يقول إيزر وإدوارد سعيد وغيرهما)
ما زال البعض عالقا وغارقا في الشروحات القديمة، التي سرنا بحسبها قرونا، يتناولون النص بالشرح والتفسير الحرفي للمعاني، خاصة في مجال الشعر، ما يعني قيامَ الشارح بتحويل الشعر إلى نثر وتفسيرِه تفسيرا يسهل على القارئ فهمه. هذا الأمر، على أهميته، مناسب لعلوم أخرى تحتاج تفسيرا مباشرا. أما الأدب فعمدته جماليات النص التي يتفاعل معها المتلقي، أثناء القراءة الأولى وما يتلوها من قراءات.
تطورت الرؤى النقدية، وتطورت المناهج، وأصبح الاهتمام بالكل أهم من الاهتمام بالجزء، بالأحرى بات الجزء مهما في علاقته بالكل. فشرح بيت شعر ما أو شرحُ جزء من القصة أو الرواية يُفقد النصّ الكلي أهم ما فيه من جماليات. فالنص الأدبي متكامل، ويكمل بعضه بعضا كالُبنيان المرصوص، لا يقوم جزء منه دون بقية الأجزاء. ويرى بعض الباحثين أنّ أول من قام بالنظر إلى القصيدة، ككل مترابط، كان الباقلاني في تحليله التطبيقي لمجمل نص معلقة امرئ القيس، ولبعض قصائد البحتري وما جاء به البحتري من تجديد.
هذا ما تقوم به الناقدة الدارسة لينا الشيخ حشمة، تبني دراساتها وفق مناهج حديثة، مستفيدة من النظريات الأدبية، منذ البنيوية وما بعدها، خاصة السيميائية ونظريات جماليات التلقي، تحاور النص من الداخل، لتبين مركباتِه وعناصرَه، ومدى تماسكه، بناء على ما اكتسبته من تجارب سابقة لها، وبناء على ما اكتسبته من قراءات في عالم التنظير. تسبر غور النص، دون التنازل عن التنظيرات، ولا تكتفي بالتنظير دون محاورةِ النص ودلالاتِه وإشاراته وكشف أسراره. فإلى الذين ينعون النقد والنقاد وإلى الذين يسارعون إلى وأد النقاد ندعوهم بالتروي قبل إلقاء جملهم المتسرعة، والاطلاعِ على ما تقوم به الناقدة الباحثة لينا الشيخ حشمة. كما ندعوهم إلى قراءة أعمال مجموعة من الباحثات والباحثين، المبدعات والمبدعين، الجديات والجديين قبل إطلاق أحكامهم. وأقولها بملء الصوت إن الحكم على النقد والنقاد اعتمادا على الندوات الأدبية التي تجري هنا وهناك، رغم أهميتها، كمن يحكم على أنواع الدواء بناء على رأي لا يعتمد الدرس والتحليل والتجريب. إن الحكم يجب أن ينطلق بناء على القراءة المتروية، لا اعتمادا على الإصغاء فقط.
تقوم لينا الشيخ حشمة بقراءة مبدعة بعيدا عن الوصف الخارجي، تبحث في حنايا النص عن خفاياه، فهي ليست قارئة عادية، ولا تُقبل على قراءة النص للاستفادة منه فحسب، بل هي قارئة متمرسة تعطي النص بقدر ما تأخذ منه، وقد تعطيه أكثر مما يعطيها، ولأنها ناقدة متمرسة فهي تكتب إبداعا يجاور إبداع المؤلّف، وقد تتعداه أحيانا. فإن كنت أقدر هذا الدور بالذات، فإني أحذر ذاتي قبل أن أحذر الزميلة لينا من إعطاء المبدع أكثر مما يستحق.
تحدث المنظرون المحدثون عن قطبين يكمل أحدهما الآخر: القطب الفني الذي يتمثّل في المنتوج الأدبي، والقطبِ الجمالي الذي يتمثل في المنتوج النقدي. هذا يعني أن النص يبقى ميتا حتى يأتي ناقد متمرّس يبعث فيه الحياة. د. لينا بعثت الحياة في الكثير من النصوص وهي على ذلك تستحق الشكر والثناء.
د. لينا الدارسة- "أدب السجون – مرة أخرى"
تقوم د. لينا بكتابة دراسات وازنة، وقد أصدرت حتى الآن ثلاثة كتب كل منها عبارة عن دراسة أكاديمية: "أدب السجون في مصر، سورية والعراق" (2016)، "أدب السجون مرة أخرى- دراسة في الأدب الخليجي" (2020)، و"في بوتقة الثالوث المحرم- الكاتبة الخليجية بين الأدب النسوي وأدب السجون" (2022). هذه الدراسات، وإن كانت متقاربة في موضوعها، إلا أنها تكوّن، في مجموعها، مرجعا هاما لكل الدارسين والباحثين، نظرا لشموليتها، وهي تتناول مواضيع في غاية الأهمية؛ اجتماعية، فكرية وفنية.
خلق الأدب من أجل تطوير الذوق لدى البشر، وكي يحسنوا التصرف في مأكلهم ومشربهم ومِشيتهم، وفي تصرفاتهم إزاء الآخرين، وللتعبير عما يجول في العقل والوجدان من أفكار ومخاوف وهموم، وله دوافع عدة ورسائل متنوعة أخرى، فقد يكون في بعضه بدافع التسلية والترفيه، فضلا عن توسيع الثقافةِ والمعرفةِ التي تساهم في تطوير حياة البشر. تناول موضوعَ الأدب العديدُ من الباحثين العرب والأجانب، وهو موضوع يستحق وَقَفاتٍ مطولةً، ليس هنا مجالها. لكنني حين ألفظ هذا العنوان "أدب السجون" ينتابني شعور بالألم والقلق والأسى. فكيف يستوي مفهوم الأدب، في لفظه ومعناه المباشر وغير المباشر، والسِّجنَ في مفهومه ودلالاته؟! فالأدب انطلاق وتحليق والسِّجنُ قيدٌ وانغلاق الفضاء وحرمانٌ من النور. إذن نحن بصدد بحث مجموعة من المؤلفات التي تتحدث عن المعاناة والوجع والموت النفسي.
لقد عانى الإنسان، منذ قديم العصور، من جَوْر الحكام، ولا يزال. وكان للمبدعين العرب، على مرّ التاريخ، نصيب وافر من هذا الألم عبر تحاشي الخوض في المحرمات الثلاثة: الدين، الجنس والسياسة.
وأن تقوم الباحثة لينا الشيخ حشمة بمعاينة هذا النوع الأدبي، فهذا يعني أنها تفتح كوة واسعة للمبدعين كي يخرجوا من خلف الأسلاك والحيطان اليابسة، لأن هذه هي مشيئة المبدع نفسِه وإرادتُه الداخلية: تحريرُ روحِ السجين وانعتاقُه عبر الكتابة فيما لا يتمكن جسده من التحرر. وبما أنّ الأدب يتغيا التحليق ورصد الظلم وتسليط الضوء على أسبابه ودوافعه بغية نشر الوعي وتجنيد الأحرار ضد الكبت والطغيان، فإن مثل هذه الدراسات لها دوافع أخلاقية وفكرية تكشف عن مواقف رافضة كل أنواع الظلم على مر العصور، وتدعو إلى خلق أجيال تحمل فكرا نيرا حرا كريما.
لم تكتف الباحثة بدراسة النواحي الاجتماعية على اختلاف تفرعاتها، ولم تتوقف عند النواحي السياسية التي فتحت السجون للمثقفين يقضون فيه ربيع العمر بدلا من المساهمة في تطوير الأمة، فقد دخلت في تفاصيل العمل الأدبي: مركباته، عناصره، تقنياته، مميزاته الحداثية والتقليدية، وما يحمله هذا الأدب من ميزات تجعله متفرّدا عن غيره من الآداب.
تعلن الكاتبة في مقدمة بحثها عن المنهج الذي اتبعته في معاينة هذه النصوص، وتؤكد على أن ما يعنيها أكثرَ هو ما تقوله هذه النصوص وارتباطُ هذا القول بالشكل، وهي تصر على "موت المؤلف" وتسليمِ الحكي للقارئ بعد أن كانت الدراسات تولي أهمية كبرى للمؤلف وبيئته الاجتماعية وسيرته الذاتية ونفسيته، ومدى انعكاس ذلك على المؤلِّف والمؤلَّف على حد سواء، وكأن الباحثين يُعيدون إحياءَ نظرية المحاكاة التي أسس لها أرسطو، حتى جاءت الشكلانية الروسية ومن ثم البِنيويّةُ التي أولت النص الأهمية الأكبر، حتى جاءت نظريات ما بعد البنيوية لتسلم الريادة للقارئ يستجلي النص ويتحاورُ معه فتكون كتابته إبداعا إلى جانب إبداع المؤلف نفسه. وللحقيقة فإن الباحثة لم تعمل على "موت المؤلف"، كما أراد له رولان بارت في مقالته الشهيرة، بل سارت نحو رولان بارت الذي ذهب أكثر نحو ما أسماه "لذة النص"، ولم تلغ الجوانب الاجتماعية والتاريخية والنفسية.
لينا الشيخ حشمة في كتابها "أدب السجون" باحثة ملتزمة بأصول البحث العلمي المنهجي، تبني دراساتها وفق مناهج الدراسات الأكاديمية التي تفرض تقسيم البحث إلى فصول وأبواب، وإلى عناوين ثانوية، وتلتزم بكتابة مقدمة وتمهيد وفصلٍ كامل يتعرض للكبت والحرمان وتقييدِ الحريات منذ العصر اليوناني ثم الروماني، فالعصور الوسطى حتى تصل إلى العصر الحديث. وهي خلال ذلك تزوّد القارئَ بمعلومات مهمة حول الكبت الذي تعرض له كبار الأدباء والباحثين والمفكرين من السلطات الظالمة على اختلافها، سواء كانت سلطةً سياسية، دينية أم اجتماعية، وسواء كان ذلك في الشرق أو في الغرب، وعرّجت على ظاهرة هروب بعض المبدعين أو اعتكافِهم في قرى مهجورة بعيدة عن مركز السلطة. ألا يذكّرنا ذلك ببعض مبدعينا الفلسطينيين الذين آثروا الصمت كي لا يحرموا أبناءهم لقمة العيش؟ وألا يذكرنا بسلطة الرقابة وبمصادرة بعض إبداعات أدبنائنا الفلسطينيين؟
لقد آثر الشاعر الكبير محمود درويش أن يبتعد عن الوطن وعن الأهل والأصدقاء كي يتمكن من متابعة مسيرته الأدبية، حتى مات ودفن في رام الله لا في قريته البروة. وابتعد بعضهم عن التخويض في قضايا اجتماعية هامة خشية من رقابة المجتمع ومفاهيمه وتقاليده، بحجة الحفاظ على مجتمع متماسك؟! وصودرت بعض الأعمال بحجة خدشها الحياء؟!
لينة الشيخ حشمة ناقدة ودارسة وباحثة تسبر غور النص وتفكّكُه، وتعود فتركبه من جديد، وفق رؤيتها الفنية وذوقها الجمالي الذي يتطور من دراسة لأخرى، وهي مناسبة كي نقدم لها الشكر لتتابع في مشوار عطائها الثرّي الغني والرصين. فهذا الكتاب وما سبقه، وما كتبته من دراسات يضاف إلى رصيد الأعمال الفلسطينية الرصينة المشرفة.
• ألقيت هذه الكلمة في نادي حيفا الثقافي يوم الخميس بتاريخ 26.5.2022 احتفاء بصدور مؤلفين اثنين من مؤلفات د. لينا الشيخ حشمة.