وبين الكلمة يتجلّى لنا حضور الشاعر بِكُلّيتهِ، بابداعه الشعري، قولًا وفعلًا، وهنا، تعكس الأقوال أفعالَها بأحاسيس صاحبها، وتعكسُ أيضا مُجمَل الواقع المتفاعل المُتحرّك دومًا.
يُعلِن الشاعرُ الكنّاوي عبد الرحمن عواودة، ومن خلال جُلّ قصائدهِ " الأعمال الشعرية الكاملة" ارتباطه بالوطن، بالأرض، والإنسان، ويتأتّى ذلك من خلال مأساة شعبه الفلسطيني، من كينونته الإنسانية الرحبة، ومن خلال حبِّه العَذِب المُعَذَّب لتراب الوطن، ولكل البشر "فكل الذين أحبّوا الترابَ، ولاقوا العذابَ لقاء السهر، هم الكادحون، هم الطافحون سلاما، وحُبّا لكل البشر" (ص64).
الوطن عنده، ليس مكانًا ساكنًا جامدًا، بل حياة نَشِطَة تمدّنا بحوافز التَّعلَّم والدفاع عنها، "من السنديان العتيق، العتيق، تعلّمتُ كيف أصد الخطر، تعلّمتُ كيف أصد الرياح لتجلو الغيوم ويجلو القمر.. "
وبهذا يؤكد الشاعر صارخا بوجه الغاصبين للأرض، للوطن، اصوله العتيقة كعتق الوطن، وينادي حنينا لجفرا "جفرا الخلاص وجفرا المفر" (ص62)، " تعالي هنا نذوب معا، كذوب الشموع وهدي العِبَر..."
ويستمر آملا بغدٍ خالٍ من العذاب "تعالي.. نخلق زهرا جديدا فريدا، يُحَلي العذاب ويُنْسي الحفر، .. تعالي وهاتي الحياة هنا .."( ص 63)، عندما يأتي العام الجديد يستذكر عذاب شعبه اللاجئ في المخيمات "هذي البيوت مخيَّمٌ، والناس تلتحف العذاب ولا اختلاج، يتذوقون الحزن والود الشقي، يتمرسون على الدَويّ، يتألمون ولا علاج.." ( ص 90).
عشقه المثير لفلسطين ينمو كِبَرًا ولا يتناها "أُحبك من مطلع الفجر شمسا، وأعشق عصرك حتى الأصيلا، وأعرف أنّي أُحبكِ أكثر، اذا صار سجني طويلا "( ص 95).
انبثاق الأمل عند الشاعر مُرتبط بزوال الظلم، ويستعير الحُرّية من الطبيعة، من حضن أرضه " إني بستان يعتز، وحسبتم أني أهتز، أحضرتم أدوات القمع وشرعتم ، هيا جزوا، فالغصن الساقط ينمو في حضن الأرض ... والزند الساقط في جوف النار، سيضيء الدرب" (ص114)، ينحني أمام طفل أصيل، ثوري، وردي الوجه، ينطلق بجرحه وفرحه الى الشمس، ويخاطبه " فإنك مهما تباعدت عني، أحسّ بجرحك في جسدي، أحسّ بجوعك في داخلي، أحسّ بليلك في ساحلي" (ص 162). يتداخل والطفل كجسد واحد وبكل حالاته.
يُعلنُ في قصيدته " أبشر بفجر دافق يا شادي" ( ص179)، انتماءه الفلاحي، العمالي الطبقي " أيار أنت بيادري وحصادي ونتاج اوردتي ... وبعض عنادي" ويضيف "أنا عامل، أنا كادح ومكافح، عرقي يُشع لكي يزول سوادي .. أنا ثورة الغضب الجموح تفجرت في داخلي، في منجلي، في زادي" (ص180). وبهذا يهتم بايجاد العلاقة الجدلية بين قهر الطبقات واطماع الجشعين، هو ثائر بكل حواسه ووجدانه "ضفة الثوار قد لاح الطريق، وتغنى الفجر وانساب الشروق" (ص182).
برعَ الشاعر عواودة في " قصيدة للمعلم " ( ص 192)، وأثنى على المعلمين تقديرا ووفاء، وقد وصفهم بصانعي الحياة، وبأنهم هم مَن توَّج الشمس، وأعطوا بلا كلل كل ما ملكوا، وحفروا الأثر في قلوبنا، وفي أحواضنا زرعوا القِيَم " صاغوا الحياة، وأعطوا كل ما ملكوا، مع كَلَّ عزمٌ لهم، والله ما سئموا"، ويصنعون "في كل يوم من صنعهم بطل، في كل ساحٍ لهم في وسطه علمُ".
تمتزج ثورية الشاعر عواودة بصدق حبِّه لجدّته، للأُصول الانسانية، لتتولد من رحم كلماته الحميمة صورة شامخة حيّة، لجدته، للجَدَّة،"جدَّتي قائمةٌ منذ الأزل، جدَّتي كانت تَرى ما لا نَرى"، " هي حَدسٌ، هي هَمسٌ، إنها ومض العقول"، ويؤكِّد وِسع شموليتها " جدَّتي ، أرضٌ، وبحرٌ وسماء" ورِقَّتِها الانسانية " جدتي واضحةٌ، شفّافة، صفحةُ ماء "
تلمس في ثنايا ودواخل اشعاره المهمومة بقضايا شعبه، تلمسُ رِقَّة عواطفه وعبق عشقه ولوعته "رغم كل القضايا، أرى ملاكًا جميلا، هواه بعض همومي، يهزني كي أقولا" ومذاق العشق عنده كما بان في "موناليزا" ( ص 226)، هو مذاق شهد ومصدر سعادة، إذ يقول "بنيت للعشق صرحًا، كي يستقر سعيدا"، ثم يجيد في وصف هيامه "هواك مسَّ عظامي، وقد أقضَّ منامي، بشعرك الّليل يغفو، فيا لهول هيامي"، وبهذا يُعلن بأن لا ثورية بلا حب، فالحب الثورية الأول .
يُبدي الشاعر عبد الرحمن عواودة من خلال دواوينه الشعرية قلقه الدائم لمصائر شعبه وشعوب العالم، ويرنو الى غدٍ خالٍ من الظلم والاضطهاد والعنصرية، الى غدٍ سالم، نيِّر طافح بالحريّة والكرامة، ويؤكِّد أن تحقيق هذه الأحلام لا يتم إلّا بالنضال، بالعزيمة "إدفع بعزمك عهدًا شكلهُ عَجَبُ، وارفع بهامِكَ حتّى تُبصِرَ الشّهُبُ، وعن المخيمات، " كانَ المُخَيّمُ مشحونًا ملامِحُهُ، يحتَلّها الحُزنُ والاصرارُ والغضبُ"، وفي قصيدة توفيق زياد ( ص284)، يستذكره تبجيلًا " عاش عظيمًا وعاش كريمًا، وكالنور كان شديد النقاء"، حُبّه ُ للحياة جارف، حُبٌ يحميه ويمدّهُ بالبقاء "قالت أُحبكَ قُلتُ الحُبُّ يحميني، من غضبك الوردِ أو سخطِ الرياحين" ( ص339).
يبدع برسم لوحة فنية مُعبِّرة تحتضن طفولة فلسطينية ثائرة، آملة، وعزمًا صامدًا لا يلين، والطفلُ في القدسِ منقوشٌ على حجرٍ، في الوجهِ عَزمٌ وفي عَينَيهِ يغزوني" (ص340).
يتناول الشاعر في ديوانه مواضيع عدّة، ويجول بأُمميته في ساحات تتجاوز قريته قانا الجليل ليحطَّ على كل بيادر وطنه الفلسطيني، ويُقرِّب إلى فؤاده الدافيء المُلتهب مصر ، الشام، عمان، لبنان، وغيرها من البلدان، ثم يَعرجُ الى موسكو ولينينغراد، وإلى مُجمَل احداث وايام شعبنا النضالية.
امتصَّ الشاعر عبد الرحمن عواودة عُصارة تجارب الأحرار ليضمها اليه ، إلينا، وليزرعَ الأمل َفي عزم الصبر والزيتون، واشتمَّ "عطر الزهورِ ونصرٌ للفلسطيني"( ص347).
أعمال شعرية تستحق القراءة، بل الدراسة .. عمل جميل جدير بالمتعة والتقدير.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected] .