صورة من الكاتب
على جدران كنيسة الروم الكاثوليك في القدس، وجاء المتاب في 96 صفحة موزعة على 7 مقالات الى جانب المقدمة وقائمة بالمراجع والفهرس.
وجاء في مقدمة الكتاب التي وضعها المؤلف "اعتاد تفكيرنا اللاهوتي أن ينطلق من المرئيات إلى غير المرئيات، من المنظور إلى غير المنظور. أما الأيقونات، وبشكل عام اللاهوت في الشرق، فإنها تسلك الطريق المعاكس، فتنطلق من غير المرئيات إلى المرئيات، وذلك بعد التأمل الصامت والمصلّي في سرّ الله غير المنظور" (ص. 7). وتابع موضحا اهتمام الشرق بالايقونات تاريخيا مبينا "اجتازت الكنيسة في الشرق محنة النار بسبب الايقونات، دُعيت "حرب الأيقونات" بين المناوئين لها والمدافعين عنها، وكانت حربا مريرة امتدّت على أكثر من قرن وأدمت قلب الكنيسة" (ص.8).
وينتقل الأب رفيق ليوضح للقراء بأن رسام الأيقونات يتم اعداده على مستويين فني وتقني روحي (ص 12)، ولا يتوقف الأمر عند هذا الح بل ان ذلك يقود الى ضرورة اعداد المتأمل في الايقونة أيضا واعدادا مناسبا "لكي يتمكن من فهم معنى الأيقونة، والدخول في أجوائها وادراك معانيها" (ص 13). ويكشف لنا في نهاية المقدمة بأن هذا الكتاب هو سلسلة من التأملات البسيطة والقصيرة في بعض الأيقونات، التي تبهر العين وتغذي الذهن والقلب". (ص 14). وبالتالي فان هذا الكتاب كتب ليس بالعقل بل بالقلب كما يعترف كاتبه.
تناول الأب رفيق في كتابه عدة أيقونات بالتأمل والتحليل والقاء أضواء ايمانية عليها، في محاولة لمساعدة المؤمن على فهم تاريخ تلك الأيقونة وظروف رسمها ودلالاتها الدينية من خلاب ربطها باحداث الانجيل المقدس والمناسبات التي أحاطت بها، والأيقونات التي تناولها المؤلف هي وفق الترتيب في الكتاب: الثالوث الأقدس، الميلاد، المسيح المخلص، التجلّي الإلهي، الصّلب، نزول السيد المسيح الى مقر الموتى، والدة الإله، الرسولين بطرس وأندراوس.
ويتساءل سائل لماذا اختار الأب رفيق هذه الأيقونات بالذات، وهو لا يبخل علينا برد بسيط ومقنع بأن "هذه هي الأيقونات التي رافقتني طيلة حياتي الكهنوتية والراعوية، وخاطبتني ودعتني دائما إلى مزيد من العمق". (ص 14).
ولأنه لا يمكن لي أن أتناول كل تلك الأيقونات بالتعليق والتقريظ فاني أكتفي بالتوقف عند أيقونتين اثنتين، لفت نظر اليهما ما كتبه الأب رفيق حولهما. الأيقونة الأولى هي الأولى كذلك في اختيار الأب رفيق وهي الثالوث الأقدس للراهب أندريه روبليف، التي يقول عنها في بداية تأمله "عندما نتأمل في أيقونة الثالوث الأقدس، يبدو لنا أن العالم الذي تمثّله هو عالم وردي، خيالي، بعيد المنال، وغريب عن الواقع والتاريخ والحياة". (ص 18)
وما هي قصة هذه الأيقونة؟ يروي لنا الأب رفيق بأنها رسمت في ظروف تاريخية مأساوية مرت على روسيا، عندما اجتاحها التتار وأحرقوا الكنائس والأديرة وقتلوا الناس بين الأعوام 1238- 1380. بعدها سطع وجه رباني لعب دورا أساسيا في تاريخ روسيا وهو القديس سيرجيوس الذي كان شغوفا بالثالوث الأقدس، وأصبح بعد وفاته شفيع روسيا. وتحول الراهب أندريه روبليف (1360-1430) إلى أحد تلاميذه، ودعاه رئيس دير نيكون ليرسم أيقونة الثالوث الأقدس تخليدا لذكرى القديس. وفي العام 1966 أخرج السينمائي الروسي تاركوفسكي فيلما طويلا عن الرسام روبليف.
ويقدم الأب رفيق قراءته للايقونة التي تمثل الدائرة الإلهية في حالة حوار وموضوع الحوار هو الانسان، كما يراها، ثم يقدم تأمل هنري نوين في الايقونة.
ويذكر الأب رفيق باقتراح سبق وقدمه بضرورة تعليق ايقونة الثالوث الاقدس التي تبين جمال السلام، الى جانب لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو على أحد جدران أروقة الأمم المتحدة التي تبيّن بشاعة الحرب.
الأيقونة الثانية هي "نزول السيد المسيح الى مقر الموتى" أو أيقونة القيامة، وقد اخترتها لأننا نعيش حادثة القيامة في هذا الموسم وهو الذي صدر فيه الكتاب، نظرا لما تحمل من معان عديدة. ويقدم الأب رفيق شرحا وافيا للأيقونة وما تحويه من شخصيات واشارات ودلالات كل ما ورد فيها. ويذكر لنا بأن الفن الإيقونوغرافي في الشرق يعبر عن القيامة بأيقونتين هما هذه الايقونة وحاملات الطيب. وفي قراءته يقول "عندما نتأمل هذه الأيقونة يتبين لنا بوضوح أن السيد المسيح هو المركز فيها، وبه ترتبط العناصر الأخرى بشكل أو بآخر". (ص 70)
والشخصيات التي تظهر في الأيقونة آدم وحواء يمسكان بيدي السيد المسيح وهو يقيمهما من قبرهما. ويحيط بالمسيح كوكبة من الشخصيات في العهد القديم، على اليسار داود وسليمان وبجانبهما يوحنا المعمدان، وعلى اليمين أشعياء وإرمياء وبجانبهما هابيل وجميعهم يشيرون إلى السيد المسيح في إشارة إلى أنه المخلص المنتظر.
مرة أخرى نعيش مع أبونا رفيق وكتاباته المميزة والمتجددة، فهو لا يكتب لمجرد الكتابة، إنما لتقديم الجديد والمختلف، برؤية ثاقبة كما عودنا في كتبه السابقة. ومرة أخرى أتمنى للأب رفيق العمر المديد وموفور الصحة واتحافنا بكل ما هو جديد ومختلف في الفكر والثقافة والمعرفة.
الأب رفيق من كهنة البطريركية اللاتينية في القدس، ويعتبر أحد الكهنة المفكرين الكبار ومن مؤسسي اللاهوت الفلسطيني وواضعي كتب التعليم المسيحي للمنهاج الفلسطيني، ومن مؤسسي مركز "اللقاء للدراسات الدينية والتراثية في الأرض المقدسة" ومجموعة "وقفة حق – كايروس فلسطين" وله العديد من المؤلفات القيمة ومن أهمها خماسية الدراسات تحت العنوان الشامل " من أجل حدود مفتوحة بين الزمن والأبدية".