المحامي زكي كمال
ربما " قريبًا نوعًا ما " من التطبيق العلميّ في عالم السياسة، إلا أن هناك عدة نظريّات تتلخّص في أن الأحداث العالميّة قد تتفاعل فيما بينها بسرعة، لتؤثّر إحداها في الأخرى.
وهذا ما ينطبق على واقع القضيّة الفلسطينيّة خاصّة وأحداث الشرق الأوسط عامّة، التي ألقت بظلالها منذ ثلاثينيّات القرن الماضي أو حتى قبل ذلك، على السياسة الدوليّة وتنذر أحيانًا بنقل صراع أو خلاف محليّ، أو إقليميّ ما إلى مصاف الحلبة السياسيّة والدبلوماسيّة الدوليّة، في تطبيق تام أو شبه تام لنظريّة الأواني المستطرقة في مجال السياسة عبر انتقال آثار الصراع المحليّ والإقليميّ دينيًّا كان أو سياسيًّا، إلى جميع أنحاء العالم بنسبة أو بأُخرى.
وهذا ما حصل في الأسابيع الأخيرة، وتحديدًا منذ بداية شهر رمضان ومعه التوتّر، الذي أصبح في السنوات الأخيرة حدثًا ملازمًا، في المسجد الأقصى خاصّة على ضوء زيارات اليهود إليه والقيود التي تفرضها الشرطة على أعداد المصلين وأعمارهم، فهو وإن كان حدثًا محليًّا – إقليميًّا، إلا أنه يلقي بظلاله ويفرض تأثيراته على الساحة الشرق أوسطيّة والأوروبيّة والعالميّة، ويثير أسئلة كثيرة حول قضايا عديدة يبدو لأوّل وهلة أن لا علاقة بينها، ومنها توجّهات وسياسات حكومة نفتالي بينيت، ووضع الائتلاف الحكوميّ الحالي الذي فقد أغلبيّته البرلمانيّة بانسحاب عضو الكنيست عيديت سيلمان، ومصير مشروع القائمة العربيّة الموحّدة ومشاركتها في الائتلاف الحكوميّ الحالي، واحتمالات استمرار هذه التجربة أو وأْدها، والعلاقات مع الأردن والوضع في قطاع غزة واتفاقيات أبراهام واحتمالات توسيعها، والاتفاق النووي مع إيران والعلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة وحتى الحرب في أوكرانيا .
" توتر أمني "
تأثيرات وارتدادات التوتّر الأمنيّ في مدينة القدس عامّة والمسجد الأقصى خاصّة، وفق قانون الأواني المستطرقة سابق الذكر، وصلت أماكن عديدة في العالم والمنطقة. لكن، كان أبرزها دون شكّ واشنطن العاصمة الأمريكيّة التي وجدت نفسها في الأسابيع الأخيرة مشغولة من أخمص قدميها حتى قمّة رأسها، في الأزمة الأوكرانيّة من جهة، والشأن النووي الإيرانيّ من جهة أُخرى، ويبدو أنها " ليست بحاجة " إلى أزمات أخرى تقضّ مضجعها من جهة، أو أزمات تعرقل خططها الحاليّة والمستقبليّة على المدى القريب أو البعيد، أو أزمات تمسّ بأصدقائها ومنهم دول الخليج التي وقّعت اتفاقيات أبراهام وخاصّة الإمارات والبحرين، وكذلك إسرائيل عامّة وحكومة نفتالي بينيت خاصّة، التي رحبت فيها أمريكا جون بايدن ترحيبًا حارًّا باعتبارها خير خلف لسلف سيء (بنيامين نتنياهو) الذي تفنّن في تجاهل الحزب الديمقراطيّ، وحتى إهانة رئيسه باراك أوباما علنًا عبر خطابات في الكونغرس ومجلس النواب وكذلك الأُمم المتحدة، حول الاتفاق النوويّ الإيرانيّ الذي يقترب بخطى وثيقة، ومن هنا ليس صدفة أن تكون الولايات المتحدة والتي دعمت حكومة بينيت بكلّ ما أوتيت من قوّة وأرسلت كبار وزرائها من الدفاع إلى الخارجيّة والماليّة وغيرهم إلى إسرائيل مرارًا وتكرارًا ومشاركتهم في قمّة النقب، أوّل من أعلن وعلى لسان المتحدّث باسم وزارة الخارجيّة الأمريكيّة نيد برايس عن بالغ قلقها من التوتّرات، إضافة إلى اتصالات هاتفيّة متواصلة مع القيادات في إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة، بالإضافة إلى الدول العربيّة وفي مقدّمتها الأردن ومصر، شدّدت واشنطن خلالها على ضرورة الحفاظ على " الوضع التاريخيّ الراهن " في الأقصى وتجنّب الخطوات الاستفزازيّة، كانت المكالمة الهاتفيّة بين الرئيس الأميركيّ جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيليّ نفتالي بينيت هذا الأسبوع مسك ختامها الذي تمخض عنه إعلان رسميّ بأَن بايدن سيزور إسرائيل قريبًا، وهي خطوة تشكّل على ضوء انشغال بايدن، رسالة دعم لبينيت، مفادها أن واشنطن تعتبره شريكًا هامًّا، بل أكثر من ذلك فهي تعتبره زعيمًا دوليًّا له وزنه ودوره في الحفاظ على الهدوء والاستقرار في المنطقة والعالم.
" حلم وردي "
من الواضح لكلّ من في رأسه عينان أن إدارة بايدن تبتهل أن يُمدّ في عمر حكومة نفتالي بينيت، وأنها لا تريد أن ترى حكومة بينيت تتعثّر، فضًلا عن الإطاحة بها، أو جعلها حكومة انتقاليّة إذا ما تمّ تبكير موعد الانتخابات البرلمانيّة القادمة، وهو حلم ورديّ يراود الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، والذي لن يتردّد في الاعتماد على أصوات القائمة المشتركة كلّها، أو بعضها أو على الأقلّ ضمان حيادها وعدم دعمها لحكومة بينيت او منحها شبكة الأمان ( ان لم تكن المشتركة كلها فربما النائبين د. أحمد الطيبي وأسامة سعدي)، فواشنطن تفهم جيّدًا أن من شأن حكومة ضعيفة ومهزوزة أن تتحوّل إلى حكومة مستضعفة قد تخضع لضغوط المستوطنين والمتطرّفين لبناء المزيد من الوحدات الاستيطانيّة في الضفة الغربيّة، وهو ما يتعارض مع رغبة الإدارة الأمريكيّة في تطبيق حلّ الدولتين النهائيّ للصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، ناهيك عن أن إدارة بايدن تدرك أن حكومة ثابتة في إسرائيل حتى وإن كانت أغلبيتها ضئيلة هو أمر يصبّ في مصلحة أمريكا إذا تمّ المضي قدمًا في الاتفاق النوويّ مع إيران، إذ إن ضعف بينيت وضعف حكومته، خاصّة إذا كان ذلك عشية انتخابات أو قريبًا منها، قد يجعله يشعر للأسباب السابقة بأنه مرغم على التصدي للاتفاق كما فعل نتنياهو في عام 2015، حتى لو كان ذلك فقط لتعزيز موقفه في الداخل، قبل الانتخابات المبكرة، مقارنة بما فعله حتى اليوم، والذي تمثل في محاولة تحسين شروط الاتفاق، وليس رفضه بشكل قاطع.
فوق كلّ ذلك فإن واشنطن تريد الهدوء والاستقرار في المسجد الأقصى وشرقي القدس والضفة الغربيّة وغزة انطلاقًا من منطقها السياسيّ الذي يفهم ربما ما لا تفهمه إسرائيل من أنّ الأردن هو عامل هامّ يجب دعمه والحفاظ عليه، وأنه جهة لها وزنها الإقليميّ ودورها في أمن واستقرار الشرق الأوسط عامّة والضفة الغربيّة خاصّة بحكم الوصاية الهاشميّة على المسجد الأقصى وقبّة الصخرة، وبالتالي فإنه لا يمكن تجاهلها أو اتخاذ خطوات لا يقبلها الأردن ممثّلًا بالملك عبد الله الثاني الذي دعا وبحزم إسرائيل إلى احترام الوضع التاريخيّ والقانونيّ القائم في المسجد الأقصى، ووقف إجراءاتها اللا شرعيّة والاستفزازيّة منبّهًا من نسي أو تناسى في إسرائيل ،إن الحفاظ على التهدئة الشاملة يتطلّب احترام إسرائيل الوضع التاريخيّ والقانونيّ في المسجد الأقصى المبارك، وإيجاد أفق سياسيّ حقيقيّ يضمن تلبية جميع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ الشقيق على أساس حلّ الدولتين.
ومن هنا تنبع أهميّة الأردن في نظر الإدارة الأمريكيّة الحاليّة وضرورة احترام رعايته ووصايته على الأماكن المقدّسة في القدس بعكس الموقف الإسرائيليّ الذي لوَّح عبر خبراء ومستشرقين، وبشكل يمكن اعتباره نوعًا من التحذير أو التهديد، إلى أن إسرائيل يمكنها استغلال ما وصفوه " بوجود عناصر وجهات ودول عربيّة وإسلاميّة تطمح إلى فرض وصايتها على القدس بدلًا من الأردن " في إشارة إلى السعوديّة وولي عهدها محمد بن سلمان، ناهيك عن أنّ واشنطن تدرك أن مصير اتفاقيات ابراهام وتوسيعها لتضم دولًا أخرى منها العربيّة السعوديّة مثلًا من جهة واحدة، وتحويل هذه الاتفاقيّات من جهة أخرى إلى اتفاقيّات سلام بين الشعوب، وليس سلام من طرف واحد أو سلام بين القادة والزعماء، مرهون بشكل كبير بما يحدث في القدس، إذ استدعت وزيرة الدولة الإماراتيّة لشؤون التعاون الدوليّ ريم الهاشميّ السفير الإسرائيلي لدى الإمارات أمير حايك للاحتجاج على " الاعتداءات على المدنيّين واقتحامات الأماكن المقدّسة في القدس الشرقيّة المحتلّة والمسجد الأقصى "، وهكذا يبدو أنه وبعد أكثر من عام ونصف على الاتفاقيات أَنّ أيًّا من الدول التي وُقِّعَت معها الاتفاقيّات، لم تغير موقفها من هذه القضيّة رسميًّا وكم بالحري شعبيًّا، ما يعني أنّ عمل واشنطن على تطوير العلاقات بين إسرائيل وهذه الأنظمة العربيّة لم يفد المصالح الأمريكيّة التي أرادها دونالد ترامب، المتمثّلة بجعل إسرائيل " دولة كاملة العضويّة " في المنطقة وتنحية القضيّة الفلسطينيّة جانبًا أو حتى دفنها، وهو ما يؤكّد أن الدوافع وراء هذه الاتفاقات لم تكن " سلمية خالصة "، وأن هذه الاتفاقيات لم تكن لتتم لولا الحوافز التي قدّمتها واشنطن للدول العربيّة المعنيّة، وأن ما حصل لم يساهم، بأيّ حال من الأحوال، في حلّ النزاع الفلسطينيّ الإسرائيليّ، بل إن بعض تلك الحوافز فاقمت من التوتر بهذه المنطقة إضافة إلى أنّها لم تتمخض من جهة أخرى، وكما روَّج لها بنيامين نتنياهو عن " حلف الأطلسيّ السنيّ " في المنطقة الذي تقف دوله الخليجيّة في خندق واحد مع إسرائيل ضدّ ايران سياسيًّا واقتصاديًّا وحتى عسكريًّا، وإذا ما أضفنا إلى ذلك موقف الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان ( رغم بشائر الربيع في علاقاته المتبادلة مع الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ ) الذي أعرب في اتصال هاتفيّ مع نظيره الإسرائيليّ عن " بالغ حزنه " إزاء أعمال العنف في الحرم القدسيّ، محذّرًا من التهديدات التي تطال الوضع القانونيّ والمعنويّ للمسجد الأقصى، فإنّ الاعتبارات السابقة تؤكّد أن توتر الأوضاع في القدس هو الحافز الذي يوَحّد الدول العربيّة والإسلاميّة استجابة في كثير من الأحيان لمواقف شعوبها، وأنّ لهذا التوتر تأثيرات مباشرة على كافّة الدول ومنها تلك التي تمنّي إسرائيل النفس بسلام معها كالسعوديّة.
" توتر في كافة الجبهات "
وفق قانون الأواني المستطرقة، ساد التوتر كافّة الجبهات في الضفة وغزة ولبنان وسوريا والعلاقات بين المواطنين العرب واليهود في البلاد، لكن تركيز الحكومة والجيش وأجهزة الأمن كان موجّهًا إلى الضفة وغزة وداخل إسرائيل، فخلافًا للأوضاع على الجبهة الشماليّة مقابل سوريا ولبنان، والعوامل الدوليّة والإقليميّة ( دول لها حدود جغرافيّة واضحة وجيش ) التي تسمح هناك بالحفاظ على نوع من الاستقرار، إلا أنه ليس باستطاعة إسرائيل أن تحظى بهدوء تامّ في الساحة الفلسطينية في الضفة وغزة بحكم عوامل عديدة منها التماسّ الجغرافيّ والديمغرافيّ، إضافة إلى أسباب على أرض الواقع، منها أنه لا يمكن حتى مع حكومة نفتالي بينيت التوصل إلى اتفاق سلام نهائيّ مع الفلسطينيين وفقًا لمبدأ حلّ الدولتين، وإلى ذلك يجب أن نضيف أن الفلسطينيّين لا يمكنهم قبول حقيقة أنّ الوضع الحالي في الضفة الغربيّة والقدس وحتى غزة، هو الوضع الدائم الذي ينبغي عليهم القبول به، ومن هنا جاءت النقاشات حول الردود الإسرائيليّة على إطلاق القذائف والصواريخ من غزة باتجاه إسرائيل، والذي بدأ بقصف ورشات في القطاع ثم انتقل إلى اغلاق معبر بيت حانون " إيرز " شمال قطاع غزة، بذريعة استمرار إطلاق الصواريخ، في خطوة أكّدت وسائل الإعلام الإسرائيليّة جدواها، مقارنة بالردّ العسكريّ المعتاد على مثل هذه الصواريخ قائلة إن غزة ستخسر 5 ملايين شيكل يوميًّا جراء إغلاق المعبر، وأن 12 ألف عامل من غزة يدخلون للعمل في إسرائيل، ويتقاضى كلّ منهم قرابة 500 شيكل يوميًّا سيبقون في القطاع، أي أنّ الصاروخ الواحد باتجاه إسرائيل بات يكلّف غزة خسارة حوالي 5 ملايين شيكل، بدلًا من الردّ العسكريّ على تلك الصواريخ والتي تكلّف إسرائيل كثيرًا، علمًا أن المستوى الأمنيّ في إسرائيل كرّر اعتقاده بأن " حماس " غير معنيّة في الوقت الحاليّ بتأجيج الأوضاع نحو التصعيد.
وبحسب مسؤولين إسرائيليّين كبار، فإن الرسائل التي تنقلها " حماس " عبر وسطاء مصريّين وقطريّين، تؤكّد عدم رغبتها بالتصعيد، بل إنها تعمل ميدانيًّا في محاولة لوقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل، أي أن " حماس " تدرك تمامًا أن المزيد من التصعيد في القدس قد تترتّب عليه تداعيات أمنيّة أوسع نطاقًا. تتحمّل هي مسؤوليّتها من منطلق أنها، وضعت نفسها بموقع من يحمي المصالح القوميّة والدينيّة للفلسطينييّن في الحرم القدسيّ، ناهيك عن أنّ أيّ عمليّة عسكريّة إسرائيليّة في القطاع ستمسّ بمكانة " حماس "، وكونها سلطة في غزة لها بعض مقوّمات الدولة وتحظى بشبه اعتراف إسرائيليّ ودوليّ بصفتها تلك، إضافة إلى أن إسرائيل تريد لها البقاء في غزة دون الوصول إلى الضفة من منطلق إيمان إسرائيل أن " حماس " أقوى عسكريًّا وتنظيميًّا من السلطة الفلسطينيّة، وبالتالي فإن نتيجة أيّ صدام عسكريّ بينهما في الضفة محسومة لصالح " حماس " وستنهي التنسيق الأمنيّ مع إسرائيل.
" خطوة أولى "
داخليًّا اتضح حتى للقائمة الموحّدة وهي الشريك العربيّ في الائتلاف الحكوميّ أن هذه الحكومة ماضية في الشأن السياسيّ والشأن الفلسطينيّ في نفس التوجّه اليمينيّ للحكومة السابقة، لأن أغلب مركّباتها يمينية، ومشكلة هذه المركّبات ليست سياسة اليمين، بل هي استمرار وجود نتنياهو في المشهد السياسيّ، ما يعني أنّ التغيير الوحيد الذي أنجزته كـ " حكومة تغيير "، هو إنهاء حكم نتنياهو الذي استمر منذ عام 2009 لغاية أداء الحكومة الجديدة اليمين الدستورية يوم 13 حزيران 2021، وهو ما دفع القائمة الموحّدة إلى إعلان تجميد عضويّتها في الائتلاف الحكوميّ والكنيست، كخطوة أولى تتلوها خطوات أخرى إذا لزم الأمر وذلك انطلاقًا من إعلان رئيسها الدكتور منصور عباس، أنّ المشاركة في الائتلاف ليست قدرًا محتومًا أو قرارًا لا رجعة عنه، بمعنى أنه إذا سار الائتلاف في الاتجاه الصحيح فستعطيه الموحّدة فرصة، والعكس صحيح فهذه الشراكة وتقييمها في نظره هي أمر مُتراكم ويحتاج إلى عام أو عامين حتى تتضح اتجاهاته. ومن هنا فإن الحكم على هذه الشراكة في الائتلاف لا ينبغي أن يكون حكمًا على قرار واحد إنما على مسار عام.
وإن تراوحت وتناقضت تفسيرات إعلان تجميد العضويّة بين من اعتبرها كالقائمة المشتركة، بأنها حركات بهلوانيّة جاءت بهدف تخفيف الضغوطات التي تتعرض لها الموحّدة بين المواطنين العرب وبين مصوّتيها في المجتمع الفلسطينيّ بالداخل، أو من اعتبر إن الموحّدة غير معنية بتفكيك الائتلاف، وستواصل العمل والتنسيق مع الأحزاب اليهوديّة المشاركة في الائتلاف الحكوميّ، فإن قرار الموحّدة وما سيليه من هدوء ائتلافيّ، أو تفجير للأوضاع والخلافات، له أبعاده الكبيرة طويلة المدى على ما يمكن تسميته " تجربة النائب الدكتور منصور عباس " في ضمّ العرب إلى مواقع ودوائر صنع القرار وجعلهم جزءًا فاعلًا، وليس متفرّجًا في الحياة البرلمانيّة والسياسيّة الإسرائيليّة، ولأوّل مرّة منذ 1948، خاصّة إن فشل هذه التجربة، أو عدم نجاحها بالقدر المطلوب سيؤدّي إلى نتائج بعيدة المدى تتراوح بين تعزيز المواقف اليمينيّة التي تقول إنه لا يمكن للعرب أن يكونوا جزءًا من أيّ ائتلاف أو حكومة في إسرائيل، وأنه يجب إبقاؤهم خارج حظيرة الإجماع القوميّ اليهوديّ الإسرائيليّ، وربما سيدفع ذلك باتجاه تعزيز مواقف أولئك بين المواطنين العرب في إسرائيل الذين يدعون منذ سنوات وعقود إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانيّة باعتبارها لا تؤتي أيّ ثمار، ناهيك عن أنها في عرفهم " ورقة التوت التي تغطي عورة إسرائيل "، ما يعني تحويل إسرائيل إلى دولة لليهود فقط، وجعل العرب أقلية قومية في الدولة حتى لو تم " حلّ " النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ سواء وفق حلّ الدولتين، أو وفق توجّهات اليمين المتديّن المتطرّف الذي ينادي بضمّ الضفة الغربيّة، وجعل إسرائيل في نظر اليسار " ثنائيّة القوميّة "، أو في نظر اليمين " دولة عرقيّة لليهود فقط يكون العرب والفلسطينيّون فيها " قاطنين وساكنين وليسوا مواطنين " في حالة أقرب ما تكون إلى الأبارتهايد.
" ارتباط وثيق "
داخليًّا أيضًا ، أعادت توترات الأسابيع الأخيرة إلى الواجهة الحديث عن العبر الرئيسيّة التي كان على أجهزة الأمن الإسرائيليّة تعلّمها من أحداث أيار2021 التي وصلت داخل إسرائيل وتحديدًا المدن المختلطة، والتي كانت شرارتها محاولات إخلاء مواطنين مقدسيّين من منازلهم في حي الشيخ جراح وأحداث المسجد الأقصى، وفي مقدّمة هذه العبر الحاجة إلى الفصل والتمييز بين الجبهات، إذ أشار مراقبون إلى أن إسرائيل نجحت حاليًّا في الفصل بين الجبهات ومنع انزلاق التوتر من القدس إلى الضفة الغربيّة باستثناء مواجهات محدودة، أو إلى قطاع غزة وانضمام " حماس " و" الجهاد " إلى الأمر وإطلاق الصواريخ على إسرائيل، كما نجحت في منع وصول الصدامات إلى البلدات والمدن العربية في إسرائيل والمدن المختلطة كحيفا وعكا واللد والرملة وتل أبيب – يافا وغيرها، رغم أن رئيس مجلس الأمن القوميّ الإسرائيليّ الأسبق، غيورا آيلاند، أكّد في مقال نشرته "يديعوت أحرونوت"، إنّ صورة الوضع اليوم والتوتّرات الأمنيّة الراهنة، لا تختلف كثيرًا عما كان عليه الوضع عشية العمليّة العسكريّة ضد قطاع غزة العام الماضي والتي سمتها إسرائيل " حارس الأسوار".
هكذا هي السياسة والقضايا السياسيّة فهي اليوم مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا في معظم الأحيان، أي أن كلًا منها هو جزء من كلّ، وبينها تأثيرات وعلاقات وتبعات، وربما مصالح تهمّ الكثيرين، خاصّة قضيّة النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ وهو نزاع قوميّ سببه اليوم احتلال الضفة الغربيّة وقطاع غزة ( ومعها هضبة الجولان السوريّة )، يحاول البعض لأهدافهم ودوافعهم تحويله إلى نزاع دينيّ، أو حرب دينيّة بين المسلمين واليهود، ما ينذر باتساع دائرته، من المحليّ إلى الإقليميّ ومن ثمّ ربما العالميّ، وهو ما لا يريده أحد، خاصّة أن لما يحدث هنا في منطقتنا تأثيرات مباشرة على قضايا العالم كما أكّدت الأسابيع الأخيرة، فعلى شاكلة القول الشهير لجورج أورويل: " في عصرنا لا يوجد شيء اسمه بعيد عن السياسة، كلّ القضايا هي قضايا سياسيّة " يمكن القول ختامًا إنه عندما يتعلّق الأمر بالقدس والأماكن المقدّسة والشأن الفلسطينيّ " لا شيء اسمه سياسة محليّة أو إقليميّة، بل إنه سياسة عالميّة تمسّ قضايا الدنيا ومن فيها ".
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان:[email protected].