الصورة للتوضيح فقط - تصوير simpson33 iStock
سبق وكتبت مقالا موسعا حول عملي محررا أدبيا، وبينت فيه جانبا مشرقا من الكتابة. ربما سيختلف الحديث في هذه الكتابة عما ورد هناك وإن تقاطعا في بعض الخطوط العامة.
أعود أولا إلى تجربة أولى؛ كانت تحرير كتاب التربوية الدكتورة إنصاف أبو أحمد "إدارة المشاكل السلوكية والانضباطية في مدارس المجتمع العربي"، الكتاب رسالة دكتوراه مترجم من الإنجليزية إلى العربية، حررت الترجمة العربية، كان يلزم أحيانا إعادة صياغة بعض الجمل واستشارة المترجم في ضبط المعنى، حتى خرج الكتاب بعد عناء طويل بحلة مقبولة، نكتشف أن الكتاب كان فيه كثير من الأخطاء فأعيد تدقيقه، وقد أخذت أجرا في المرتين. لكن رضا الدكتورة إنصاف كان بعيد المنال، فاتهمتني بالتقصير، ولعلها إلى الآن تصفني بصفات سيئة، على الرغم من أنني أنقذتها من نصابين أرادوا أن يطبعوا الكتاب تصويرا كدوسيه بمبلغٍ، دفعت نصفه فقط مع دار نشر معتبرة مع حقوق فكرية ومادية مثبتة بعقد كنت حاضرا عند توقيعه. لم تقدّر لي الدكتورة ما فعلته معها، لكنها بقيت تقول عني إنني نصاب وحرامي. أظن ذلك ظنا ولست متأكدا.
هذه انتكاسة أولى جعلتني أحجم عن هذا العمل مدفوع الأجر ولكنني لم أسلم تماما من اللوم؛ فعندما حررت كتاب "اقتفاء أثر الفراشة" للدكتور نبيل طنوس، وعملت عليه بمنهجية واضحة وعلمية، لم يعجب العمل الدكتور طنوس بحجة أنني لم أضع الشدة على الحروف المضعفة، فحوّله لغيري ليضع هذه الشدة، وربما هناك أشياء أخرى اكتشفها غيري في عملي على الكتاب. كتبي بالمناسبة لا ألتزم بوضع الشدة على الحروف التي تحتاجها إلا في كتاب بلاغة الصنعة الشعرية وفي ديوان وشيء من سرد قليل من أصل 24 كتاباً. حررت الكتاب تحت طائلة الخجل، واختلفنا لكننا بقينا أصدقاء.
التجربة الثالثة كانت تحرير ديوان شعر، كنت أحمل اللابتوب ونلتقي في أحد المقاهي العامة، أسافر من بلد إلى بلد وأعود متأخرا إلى البيت بعد دوام يوم عمل طويل، ولم يكن ذلك كافيا فكنت متاحا والعمل مستمرا ليلا من البيت لتعديل كلمة أو ضبط إعرابي أو صرفي، كان عملا مرهقا حقيقة؛ بناء ديوان شعر متناسق ومبوّب وتحكمه روح واحدة، عدا الغلاف ومشاكله. هذا العمل كان مجانا، لكنني وُضعت في سياق المدقق اللغوي، أو بالأصح مُسخ العمل من تحرير كتاب كامل إلى تدقيق لغوي، غضبت جدا وأصررت على محو ما يشير إلى عملية المسخ هذه عند طباعة الديوان.
لم أُذكر بعد ذلك، سوى كواحد من الذين اطلعوا على الديوان في ذيل منشور فيسبوكي بائس كبقية من اطلعوا على الديوان بعد تجهيزه. في الحقيقة كان أمرا مجحفا بحقي وتصرفا غير لائق ولا يحترم ما قمت به من جهد مضنٍ. هذه كانت صفعة شديدة وقوية مع أن العمل كان جيدا في مخرجه النهائي.
التجربة الرابعة غير الموفقة إطلاقا تجربة تحرير كتاب الأسير كميل أبو حنيش "وقفات مع الشعر الفلسطيني"، ومع هذا الكتاب كانت الأخطاء فادحة، وأتحمل المسؤولية عنها أخلاقيا وقانونيا، وبعيدا عن التبرير وخلق الأعذار لأنني لا أريد أن أحمل أحدا مسؤولية ما حدث. كتبت مقدمة لهذا الكتاب وفيها أخطاء أيضا.
يتصل بي كميل معاتبا بحدة، وأنا أعذره تماما فقد وضع كتابه أمانة بين يدي، فخنت الأمانة، هكذا فحوى عتاب كميل. لم يكن كميل ليصدّقني مهما قلت وأقسمت أغلاظ الأيمان على أن ما حدث بالكتاب لم يكن مقصودا ولكنني بالفعل لا أدري كيف حدث ما حدث. ولو تبادلنا الأدوار لربما كان موقفي كموقفه تماما من الشعور بخيبة الأمل، وكان يعوّل عليّ كثيراً. والشيء بالشيء يذكر فإن الأسير هيثم جابر وصف كتابه الأخير بما فيه من أخطاء كأنه مولود وُلد مشوّهاً، وكان يتحدث بحرقة وألم. أتفهم وجهة نظر هيثم، كما أنني عذرت كميل بكل تأكيد.
التجارب الأخرى في التحرير كانت أقل سوءا؛ كتحرير كتاب "أممية لم تغادر التل" و"لا تعجب زعترنا أخضر" وكتاب "تحيا حين تفنى"، مع أنها لم تخل من المشاكل. أما كتاب أماني حشيم "العزيمة تربي الأمل" لا أظن أن فيه ما يفسد متعة العمل، لكن ربما فاجأني أحدهم بما لا قِبَل لي بالدفاع عنه.
وعلى العموم، فقد خرجت من تجربة تحرير الكتب بعدة دروس، أحاول تلخيصها فيما يأتي:
أولا- لن يرضى عنك الكتّاب مهما عملت، سواء أقصرت في العمل أم أخلصت، وسواء أتقاضيت أجرا أم لا، ولن يقبلوا لك عذرا مهما كان، فأنت في نهاية المطاف مُجرّم ومستغلّ.
ثانيا- لا يعترف لك الكتّاب الذين عملت على كتبهم بالفضل، فليسوا مدينين لك بالتقدير والاحترام، وخاصة إن أخذت أجرا على العمل. على الرغم من أن للمحرر فضلا يعترف به الكتاب الغربيون ويشيرون إليه في بداية كتبهم، إما في المقدمة، أو بإشارة مستقلة، أو بشكر خاص، ولا يخجلون من أن يقولوا ذلك. بل إنهم بفعلهم هذا يعلنون صراحة أنهم مدينون لمحرري كتبهم أو لمدققيها اللغويين بالفضل.
ثالثا: البعد عن هذا العمل خير وسيلة، و"رحم الله امرأ جبّ المغيبة عن نفسه"، فلا تدقيق ولا تحرير، لأنني مهما حاولت فلن أكون محيطا بكل الأخطاء، وستفلت مني مجموعة منها بلا شك، وهذه المجموعة سينظر إليها أنها هي كل ما كان في الكتاب من أخطاء، فأخرج من عملية التحرير والتدقيق جاهلا ولا أعرف قواعد العربية، وربما لعنوا الجامعة التي أعطتني الشهادة وأهّلتني لأدرّس أو أدقق.
رابعاً: أعتذر لكل من قمت بتحرير كتاب له، وشعر أنني خنت الأمانة أو قصرت بالعمل، ولم يخرج الكتاب كما يتصوره مؤلفه، شاملا في هذا الاعتذار كل من أخذت أجرا على تحرير كتبهم، ومن عملت ذلك مجاناً، فأنا مُدان أخلاقيا أولا، ومسؤول عن سوء هذه الفعال الناقصة ثانياً، ويحق لهم وصفي بما شاءوا من أوصاف سيئة ثالثاً، فمن رضي أن يعمل عليه أن يتحمل النتائج كافّة.
خامساً: سأمتنع من الآن فصاعدا عن تحرير ومراجعة أي كتاب مهما كانت الدوافع، ومنها كتب الأسرى الذين ربما وجدوا أنني أخذلهم خذلانا مضاعفا، على الرغم من أنني لم أتقاضَ أجرا مقابل أي كتاب راجعته لأي أسير سوى كتاب للأسير "باسم خندقجي"- وكان ذلك قبل الانخراط مع الصديق حسن عبادي بمبادرته من كل أسير كتاب- لم يعجب ذوي الخندقجي ما قمت به، فنفروا مني وحددوا علاقتهم بي. وصارت توجسية نفعية، وربما استغلالية من وجهة نظرهم. وكلما مر اسم الكتاب في ثنايا الحديث كانوا يقولون إننا حولناه لمدقق آخر.
سادسا: أعتقد بعد هذه التجارب المؤلمة المؤذية لي وللكتاب الذين دققت لهم كتبهم أو حررتها لا أنصح أحدا بتحرير أي كتاب ولا تدقيقه، وليتعلم الكتّاب النحو وصنعة الكتابة والتأليف قبل أن يقدموا على هذا العمل. فأنت في نظرهم لست سوى مأجور، وعليك أن تكون إلهاً تحيط بكل شيء.
سابعاً: الكتّاب أنانيون جدا، ولا يعترفون بأن الكمال لله وحده، فكتبي-مثلاً- ملأى بالأخطاء على الرغم من مراجعتها مرارا وتكرارا ويراجعها معي أصدقاء متخصصون وغير متخصصين، هذا أمر آخذه في سياقه الطبيعي، فلا كتاب يخلو من الخطأ سوى القرآن الكريم، أما ما عداه من الكتب فلم يسلم كتاب من هفوة أو زلة أو نسيان. لكن الكتّاب لا يعذر بعضهم بعضاً، ولا يتمتعون بأخلاقيات مهنة التأليف في الأعم الأغلب، ورحم الله العماد الأصفهاني حيث اعترف بالنقص الذي يستولي على جملة البشر في التصنيف، ففي هذا الاعتراف جماع أخلاقيات التأليف، فإذا كان هذا من أمر المؤلف نفسه في تعامله مع كتابه بما جاء به الأصفهاني، فما بالكم بتعامل الكتّاب مع كتبهم وهي بين أيدي المحرر والمدقق؟ إن ما سيعجب الكتاب سيكون نادرا، بل أكاد أجزم أنه لا شيء يعجبهم، وسيظل المحررون والمدققون اللغويون نصابين وسراقين.
وأخيراً، أرجو ألا يعاتبني أحد إذا ما قرأ هذا الاعتراف الممزوج بعدم الرضا عن النفس أولا، لأنني لن أكون قادرا على السماع أو تفهم أي موقف، فما قد مرّ بي في هذه التجربة يكفي ويغني، فلست بحاجة إلى مزيد من جرعات في خيبة الأمل من مقرّبين وأصدقاء وأباعد، فقد أثبتت التجربة أنهم كانوا كلهم في هذه التجربة سواء.