logo

مقال | إسرائيل ومحاولات السلام والتحالفات مع الدول العربيّة : وسيلة تبرّر الغاية

بقلم: المحامي زكي كمال
21-07-2021 06:17:10 اخر تحديث: 18-10-2022 08:27:19

على الرغم من أنّ ضوضاء الخلط بين السياسة والمواقف الحزبيّة من جهة، والتوتّرات والتحذيرات الأمنيّة من جهة أخرى، هي السائدة في إسرائيل في الأيّام الأخيرة،

 
المحامي زكي كمال

حتى أنها وصلت حدًا غير مسبوق من الهلع، دفع برئيس الوزراء نفتالي بينيت إلى التوجّه لكلّ مواطن يملك سلاحًا شخصيًّا أن يحمله معه دفاعًا عن نفسه وعن غيره وحمايةً للأمن المدنيّ، وعلى هذا سنعود لاحقًا، فإنّ " الهزّات الأرضيّة الارتداديّة " التي خلفتها القمم التي شهدتها المنطقة مؤخّرًا، ما زالت تتفاعل مؤكّدة أمرين، أولهما أن  المواقف وسلّم الأولويّات لدى السياسيّين تتغيّر وتتبدّل بتبدّل وتنوّع وتغيّر المصالح، وهذا صحيح بالنسبة لتصريحات بينيت حول الأسلحة الخاصّة، فهو تصريح يدرك بينيت دون شكّ خطورته، لكن حتّمته مصلحته الحالية خاصّة في هذه الأيام التي يتهمه الكثيرون فيها بإهمال أمن مواطني الدولة، كما أنّه صحيح بالنسبة للدول العربيّة المختلفة القريبة والبعيدة من إسرائيل بما يتعلّق بإيران والقضيّة الفلسطينيّة.
وثانيهما أن هذه القمم لم تكن سوى " نشرة معادة " لمحاولات سابقة شاركت فيها دول عربيّة وإسرائيل وأمريكا أرادت منها إسرائيل أوّلًا وأمريكا ثانيًا تحقيق هدفين بخطوة واحدة، أو ضرب عصفورين بحجر واحد هما " تحييد الشأن الفلسطينيّ " حتى لو كان ذلك على حساب علاقات واتفاقيات تشمل أو لا تشمل إعادة اسرائيل أراضٍ احتلتها، وإضعاف إيران النوويّة وأتباعها في المنطقة وتصويرها وكأنها الخطر الأكبر كما تريد أمريكا وإسرائيل ذلك، محاولات لم تنجح، ليس لأنّ أطرافها رفضت، أو تمنّعت أو مانعت أو اشترطت الحلّ بحلّ النزاع الفلسطيني الإسرائيليّ، بل لأنّ " الظروف لم تسمح بالحل ".

" قلعة ممانعة ورفض "
هذا بالضبط ما حدث مع سوريا، التي ما زال الكثيرون من الفلسطينيّين، ساسةً ومواطنين عاديين، حتى اليوم وكما اعتادوا طيلة عقود وعقود يعتبرونها قلعة ممانعة ورفض، وحليفًا دائمًا لهم حتى وصل بعضهم حدّ القول أن سوريا تعتبر حلّ القضيّة الفلسطينيّة الخطوة الأولى والضروريّة نحو حلّ قضيّة الجولان، باعتبار القضيّة الفلسطينيّة " قضيّة العرب الأولى " أو " قضيّة سوريا الأولى". وهذا ما كشفت عنه تفاصيل المحاولات المتعدّدة والمتكرّرة التي بذلتها إسرائيل بقياداتها المختلفة بدءا بإسحق رابين مرورًا بإيهود براك وانتهاءً ببنيامين نتنياهو، للتوصّل إلى اتفاق مع سوريا حول الجولان، ليس محبّة بسوريا، بل " نكايةً بإيران والفلسطينيّين "، وفي محاولة للوصول الى حالة تنتهي فيها الخلافات الإقليميّة مع الدول العربيّة المحيطة بإسرائيل كمصر والأردن وسوريا، لتبقى القضية الفلسطينيّة يتيمة يمكن الاستفراد بها من جهة، ولإبعاد سوريا عن إيران وحزب الله من جهة أخرى، أي خدمة لأجندة أمريكا وإسرائيل، وشيطنة الخطر الإيرانيّ وإقناع الدول العربيّة المحيطة بإسرائيل بأنّ القضيّة الفلسطينيّة يمكنها الانتظار، وأنّ ايران هي الأهمّ وبالتالي يجب خلق تحالف مضادٍ لها.
هذه المحاولات التي تجلّت في قمّة النقب السداسيّة، بدأتها إسرائيل مع سوريا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، وتزامنًا مع الحديث عن سلام مع الفلسطينيّين عبر اتفاقيات أوسلو، فهي من حيث تسلسلها الزمنيّ بدأت في واشنطن عقب مؤتمر مدريد بمحادثات بين الوفدين الإسرائيليّ والسوريّ في إطار صيغة مدريد.
وفي 1994، جرت مفاوضات على مستوى السفيرين في واشنطن، وتركّزت على الترتيبات الأمنية وعن عقد اجتماعين لرئيسي هيئتي الأركان الإسرائيلي (إيهود براك)، والسوري (حكمت الشهابيّ) في كانون الأول 1994 وحزيران 1995، إذ اعتقدت إسرائيل بأنّ اجتماعات مباشرة وعلنيّة على مستوى عالٍ بين زعماء إسرائيليّين وسوريّين ستدفع المفاوضات وستعزّز ثقة الجمهور في إسرائيل بحرص سوريا على إجراء مفاوضات سلام جديّة ومباشرة وعلنيّة إذا أمكن، مع إسرائيل وصولًا إلى اتفاق سلام قال عنه رئيس الوزراء الأسبق رابين إنه معاهدة تنصّ على انسحاب ذي معنى في هضبة الجولان، على أن تُطْرَح اتفاقية السلام المقترحة لإقرارها في استفتاء شعبيّ وطنيّ في إسرائيل قبل توقيعها، مع الإشارة إلى أن سوريا وافقت في كانون الأول ديسمبر 1995، على استئناف المفاوضات مع إسرائيل دون شروط مسبقة، وبعد عرضها بعض نقاط المرونة بالنسبة لشكل هذه المفاوضات، لكنّها قرّرت عدم رفع مستوى المفاوضين إلى مستوى سياسيّ واستعاضت عن ذلك بزيادة صلاحيات السفير السوريّ في واشنطن، من العام 1990 إلى العام 2000 وليد المعلم، ووافق السوريّون في تلك المرحلة على التعامل مع الأمور التي يتضمّنها " السلام الكامل "، أي نوعيّة السلام وتطبيع العلاقات والمياه، علمًا أنّه جرت جولتان من محادثات السلام الإسرائيليّة - السوريّة تحت رعاية الولايات المتحدة في مركز المؤتمرات في " واي ريفر "، وفي معهد أسبن في كانون الأول 1995 (فور اغتيال رابين) وكانون الثاني يناير 1996 ( عشية انعقاد مؤتمر صانعي لسلام في شرم الشيخ ) وتركّزت على قضايا أمنيّة وغيرها، ورغم أنهما لم تسفرا عن نتائج عمليّة، إلا أنه يسود الاتفاق على أنهما دفعتا بشكل ملحوظ النقاش حول القضايا الجوهريّة في أيّ معاهدة سلام مستقبليّة، وشرح احتياجات كلا الجانبين، وخلق قاعدة متينة للمزيد من المناقشات، بل شكّلتا أساسًا لإعلان الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في كانون الأول 1999، أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود براك والرئيس السوري حافظ الأسد وافقا على استئناف مفاوضات السلام بين إسرائيل وسوريا من النقطة التي توقّفت فيها في كانون الثاني 1996.

" محادثات بلا نتيجة "
وقد انتهت بدون نتيجة المحادثات التي انطلقت في قمّة استضافها الرئيس كلينتون في كانون الأول بين رئيس الوزراء براك الإسرائيليّ ووزير الخارجيّة السوريّ فاروق الشرع، والتي أعقبتها جولة محادثات في شيبردستاون بفيرجينيا الغربيّة في كانون الثاني 2000، ثمّ توقّفت المفاوضات مع رحيل حافظ الأسد ووصول ايهود أولمرت إلى سدّة الحكم، وهو من أعلن في نيسان 2007 أنّ إسرائيل معنيّة بتحقيق السلام مع سوريا، لكنّها ما زالت تؤكّد أنّ سوريا لا تزال تشكّل جزءًا من " محور الشر " بالنسبة لإسرائيل، وبالتالي على كلّ مفاوضات أو اتفاق سلام معها، أن يشمل تعهّد سوريا بالتوقّف عن تمويل حركتي حماس والجهاد الإسلاميّ والامتناع عن تزويد حزب الله بالأسلحة، وكذلك الامتناع عن زعزعة الاستقرار في لبنان والعراق، والتخلي عن علاقاتها الاستراتيجيّة مع النظام في إيران، لتأتي النتيجة وبعد جمود استمرّ ثماني سنوات، عبر إعلان مشترك لسوريا وإسرائيل في نهاية أيار 2008 أنّهما تجريان مفاوضات سلام غير مباشرة برعاية تركيا التي زارها أولمرت في شباط 2007 للقاء نظيره التركي رجب طيب أردوغان، وتم الاتفاق يومها على أن تقوم تركيا بوساطة بين إسرائيل وسوريا.
في حينه مع سوريا، كما اليوم مع دول عربيّة وقعت " اتفاقيات أبراهام "، أو وقّعت سابقًا مع إسرائيل اتفاقيات سلام، أرادت إسرائيل السلام ليس غايةً فحسب، بل وسيلة أيضًا، ففي حالة سوريا أرادت إسرائيل السلام غاية لتحييد سوريا، لكنّها أكثر من ذلك أرادته وسيلة لتحقيق أهداف عديدة منها خلق واقع جديد في جنوب لبنان قد ينتهي بتفكيك سلاح حزب الله وإضعاف الموقف الفلسطينيّ الرسميّ، ويغطّي فشل المفاوضات الفلسطينيّة الإسرائيليّة، ويفتح باب العلاقات العربيّة مع إسرائيل، وفكّ العلاقة الاستراتيجيّة بين سوريا وإيران، تمامًا كما أرادتها سوريا وسيلة لاستعادة هضبة الجولان، ومبرّرًا لإنهاء العزلة الدوليّة على دمشق ما سيتيح إعادة ترتيب علاقاتها مع الدول الغربيّة، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ولعلّ هذا ما يفسر موقف إسرائيل الرافض لتوجّه الرئيس السوريّ بشار الأسد، والذي جاء بعد رفض تلقائيّ للعرض الإسرائيليّ في منتصف 2003 لاستئناف العمليّة السلميّة مع إسرائيل، والذي اعتبرته إسرائيل وأمريكا تجسيدًا لحالة ضعف يعانيها النظام في سوريا، أو محاولة للهروب من الضغوط الأمريكيّة الكبيرة على دمشق لتغيير سياستها الإقليميّة، ليعلن بشار الأسد في نهاية نفس العام عبر صحيفة " نيويورك تايمز " أن سوريا لا تطرح شروطًا مسبقة لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، ما فسر إسرائيليا بأن دمشق قبلت بالعودة إلى المفاوضات من نقطة الصفر، ليتضح بعد ذلك أن الأسد ما زال يطالب بحلّ الأزمة الفلسطينيّة، وهو ما جاء الردّ عليه بأنّه لا مجال لفتح باب التفاوض مع سوريا ما دامت تُطالِب إسرائيل بتقديم تنازلات للفلسطينيّين، ورغم ذلك أعلن أريئيل شارون عام 2004 أن إسرائيل مستعدة للتفاوض مع سوريا إذا أوقفت مساعدتها لما سمّاه " المنظّمات الإرهابيّة في لبنان وفلسطين "، وبعبارات أخرى، تحييد القضية الفلسطينّية ووقف تحالفها مع إيران أو حليفها حزب الله، وهو ما كشف عنه ما نشره الأمريكيّ فريدريك هوف، الذي اختاره الرئيس الأمريكيّ أوباما عام 2009 ( ضمن طاقم السلام الشرق أوسطيّ برئاسة السيناتور جورج ميتشيل وهو ابن لعائلة مؤلّفة من والد إيرلندي وأم لبنانيّة هي ماري سعد ) وسيطًا لمحاولات إحلال السلام بين اسرائيل وسوريا، تحت عنوان: " وصول المرتفعات: قصة محاولة سريّة للتوصّل إلى سلام إسرائيليّ سوريّ " ضمن منشورات معهد السلام الأمريكيّ للعام 2022، سرد فيه محاولات تحقيق السلام بين الجانبين السوريّ والإسرائيليّ، والتي جرت في عهد  رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو الذي قال في مستهلّ جلسة للحكومة أوائل شباط 2010  إنّ إسرائيل منفتحة على استئناف المفاوضات مع سوريا، لكنّه أكّد على أنّ المفاوضات يجب أن تكون دون شروط مسبقة، وعلى أنّ أيّ اتفاق يجب أن يضمن أمن إسرائيل، وهي محاولات باءت بالفشل بعد اندلاع الحرب الأهليّة في سوريا، رغم أن الإدارة الأمريكيّة برئاسة بيل كلينتون بذلت جهودًا كبيرة لذلك، حتى أن الرئيس كلينتون التقى حافظ الأسد مرّتين ( حافظ الأسد اعتبر السلام بين سوريا وإسرائيل أمرًا يجب أن يتم بمشاركة ثلاثة أطراف: أمريكا، سوريا وإسرائيل تمامًا كما السلام بين مصر وإسرائيل، والهدف كان استعادة شرعيّة سوريا والحصول على دعم ماليّ أمريكيّ)، وأنّ إدارة باراك أوباما أرادت استنفاذ كافّة الوسائل لتحقيق هذا السلام بين إسرائيل وسوريا، مع التأكيد على أنّ نتنياهو كان قد عبَّر في فترته الأولى عام 1996 عن استعداده لتنازلات كبيرة للوصول إلى سلام مع سوريا ضمن جهود بذلها الأمريكيّ جورج نادر، وشارك فيها المقرّب من نتنياهو، الملياردير رون لاودر، لتتغيّر في السنوات الأخيرة مواقف نتنياهو من هضبة الجولان التي أعلنت إدارة ترامب أنها جزء من إسرائيل، بعد أن وجدت إسرائيل في السياسة الأمريكيّة الجديدة والمواقف الأيديولوجيّة لليمين الأمريكيّ وإدارة ترامب فرصة تاريخيّة للهروب من استحقاقات السلام مع الفلسطينيّين أولا تحت عنوان ضرورة تطبيق الفلسطينيّين البند الأول من خطة خارطة الطريق، ومع السوريين ثانيًا تحت عنوان موت وديعة رابين بالتنازل عن هضبة الجولان، أي عودة المفاوضات إلى نقطة الصفر. 

" تذويب القضيّة الفلسطينيّة "
إسرائيل، ومنذ نحو عقد من الزمن، تريد إنهاء فكرة الصراع العربيّ الإسرائيلي وتحويله إلى صراع عربيّ - إيرانيّ أو سنيّ - شيعيّ، وتمرير صفقة القرن وتذويب القضيّة الفلسطينيّة، في حالة تؤكّد أن إسرائيل أجادت استغلال " الربيع العربي " الذي حطَّم معظم الدول العربيّة التي أصبحت أضعف ممّا كانت عليه أصلًا، بل غير ذي وزن عالميّ أو إقليميّ، ما سبَّب أن  العرب تركوا مسألة تحديد أولويّاتهم الاستراتيجيّة للآخرين، ناهيك عن أن الاهتمام بالنزاع الفلسطينيّ الإسرائيليّ شهد تراجعًا كبيرًا خلال السنوات الماضية على حساب تعاظم المخاوف من التمدّد الإيرانيّ في المنطقة، وذهب البعض إلى القول بأنّ الدول العربيّة ستقبل بالتضحية بـ " القضيّة الفلسطينيّة " في سبيل كسر الشوكة الإيرانيّة، رغم أنّ هناك من يقول إنه حتى إذا ما تمّت التضحيّة بالقضيّة الفلسطينيّة في إطار تسوية ما فلن يترك الغرب للدول العربيّة فرصة الاستمتاع بانتهاء التهديد الإيرانيّ، أي أن أمريكا ومعها إسرائيل ستعملان على إبقاء وجود إيران كخطر مستمر يتهدّد الدول العربيّة، وهو نوع من التهديد والابتزاز لدول المنطقة .
صحيح أنّ القمة في النقب كانت هامّة، وأثارت الاهتمام. لكنّها، رغم محاولات وسائل إعلام إسرائيليّة وسياسيّين إسرائيليّين، غير قابلة للمقارنة مع القمّة الدوليّة لصانعي السلام في الشرق الأوسط، " التي استضافتها مصر يوم 13 آذار 1996 في مدينة شرم الشيخ (بعد 4 أشهر من اغتيال رابين) تحت الرئاسة المشتركة للرئيسين المصري حسنى مبارك، والأمريكي بيل كلينتون، وناقشت إنقاذ عمليّة السلام وتوفير الأمن في المنطقة، ومكافحة " العنف والإرهاب "، وضمّت القمة 29 دولة، إضافة إلى الدولتين الراعيتين لعملية السلام بالمنطقة وهما الولايات المتحدة، وروسيا.
وشاركت في القمّة أطراف مباشرة في الصراع هي إسرائيل، والسلطة الفلسطينيّة، والأردن، و12 دولة عربيّة أخرى هي مصر، والمغرب، وموريتانيا، وتونس، والجزائر، واليمن ودول مجلس التعاون الخليجيّ وغابت عنها سوريا، علمًا أنه يمكن القول أنّ قمّة النقب تجسّد حلم المبادرين إلى عملية السلام، قبل ثلاثين عامًا، وتحديدًا شمعون بيرس الذي تحدّث عن شرق أوسط جديد يسوده تعاون معلن بين إسرائيل ودول المنطقة على أساس مصالح مشتركة، دون علاقة بوضع الفلسطينيين، أو حلّ شامل للصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، الذي ما زال يتفاعل حتى اليوم بين مدّ جزر، وبين تفاؤل بسلام بين الجيران وتوتّرات أمنيّة أدّت إلى اجتياحات إسرائيليّة للضفة الغربيّة وحملات عسكريّة ضد غزة وعمليّات عسكريّة ينفّذها فلسطينيّون، أو عدد من المواطنين العرب في إسرائيل،  أدّت الأخيرة منها  كما ذكرنا في مستهلّ هذا المقال، برئيس الوزراء نفتالي بينيت إلى دعوة مواطنيه لحمل السلاح، والسماح للجنود بحمل السلاح حتى في عطلة نهاية الأسبوع، وأثناء عودتهم من معسكراتهم إلى منازلهم، وذلك لحماية أمنهم ومنع تنفيذ اعتداءات مسلحة دون أن يدرك أنه بعد انتهاء التأثير الشعبويّ لهذا التصريح سيحوّل مواطنيه إلى أشخاص " يأخذون القانون بأيديهم " ومجموعات انتقاميّة مسلّحة تنفّذ العقوبات والقصاص،  كما ترتأي نفوسهم ومواقفهم السياسيّة يدعون بالإنجليزية " Vigilante "، متناسيًا وجود جماعات يحمّل أعضاؤها السلاح، وينادون لقتل وإعدام المواطنين العرب، فماذا سيحدث إذا تم إغراق الشوارع في إسرائيل بالسلاح خاصّة في أيدي الجماعات سابقة الذكر، والتي ستدَّعي أنها تنفِّذ أوامر أو توجيهات  رئيس الوزراء، دون أن يتم التمييز بين الحقّ في الدفاع عن النفس، أو حقّ كلّ شخص في الدفاع عن سلامته وجسده وأملاكه، أو أملاك وجسد القريبين منه، أو إذا ما شعر أن حياته في خطر من جهة، وهو هنا معفىً من المسؤوليّة الجنائيّة وفق أدلّة يجب توفيرها، وبين الأعمال الانتقاميّة " Vigilante " من جهة أخرى، وهي أعمال تتم بدافع الانتقام، وكأَن بينيت يمنح المواطنين المسلحين حقّ اتّخاذ القرار حول أمور قضائيّة تتعلّق بمصطلحات مثل الحقيقة والصدق والعدالة، وهو أمر خطير للغاية إزاء ما تعيشه إسرائيل من تنافر سياسيّ وعداء حزبيّ وأيديولوجيّ وتوتّرات طائفيّة وعرقيّة وأمنيّة، وإزاء تدهور ثقة المواطنين بالشرطة والمحاكم وأجهزة إنفاذ القانون، وهو ما قد يعني تكرار ما حدث من مظاهرات في أمريكا بعنوان " Black Lives Matter " وما تلا ذلك من توتّرات كانت ذروتها اجتياح الكابيتول في السادس من كانون الثاني 2021.

" حالة غريبة "
في هذا السياق، يجب الإشارة إلى أنّ التحريض الذي يتعرّض له المواطنون العرب في إسرائيل بعد العمليّات الأخيرة يندرج ضمن حالة غريبة تعيشها إسرائيل، وهي أن الردّ على أيّ سؤال يتعلّق بالمواطنين العرب فيها وفي مختلف المواضيع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها، يحظى بردّ يتعلّق بالموقف، أو التوجّه السياسيّ لمن يردّ، وبالتالي فإن كافّة المعطيات والتصريحات التي يتم تداولها عبر وسائل الإعلام الإسرائيليّة، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، والمتعلّقة بما إذا كانت حركة " داعش " قد حظيت بموطئ قدم بين المواطنين العرب هي معطيات بعيدة عن الواقع تعكس المخاوف وليس الحقائق، فالمعطيات الحقيقيّة تفيد أن عدد المنتمين إلى " داعش " من المواطنين العرب قليل ولا يكاد يذكر، ما يؤكّد أنّ " الجميع " في المجتمع اليهوديّ  يضخّم الخطورة. وأن المعطيات المتعلّقة بقضايا المواطنين العرب ودولة إسرائيل يجب أن تؤخَذ بمنتهى الحساسيّة.
يكفي أن نشير مثلًا إلى أن معظم المواطنين العرب في إسرائيل يعتقدون أن موجة العنف المستشري سببها إهمال متعمّد من الحكومات المتعاقبة في إسرائيل، وأن الشرطة لم تفعل ما يكفي لمكافحة العنف، أو إلى أن المجتمع العربيّ يؤكّد أن مواجهة العنف بحاجة إلى ميزانيات يتم استثمارها في كافّة النواحي الحياتيّة، بينما يعتقد المواطنون اليهود - أي أغلبيّة مواطني الدولة - إلى أن ذلك يتطلّب تغيير المفاهيم الاجتماعيّة والحضاريّة في المجتمع العربيّ، وهو الأمر أيضًا في قضايا الحياة المشتركة التي لم تعد اختيارًا أو أمرًا قابلًا للنقاش، بل أصبحت حالة مفروضة وغير ذلك.
هنا لا بد من القول إنّ مشاركة القائمة الموحدة في الائتلاف الحكوميّ الحالي، تلعب دورًا في فهم هذه الفوارق في المواقف وكيفيّة التطرّق إليها، فمؤيّدو مشاركتها يؤكّدون أنّ هذه المشاركة تسهل مواجهة كافّة الخلافات والاختلافات، وتخفّف حدّة التوتّرات وتساهم في دمج العرب في حياة الدولة السياسيّة والاقتصاديّة والأكاديميّة وغيرها، أما معارضو انضمامها فيقولون إن وجودها يزيد من التوتّرات، ولا يجعل المواطنين العرب في إسرائيل يشعرون بمزيد من الانتماء.


هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان:
[email protected] .