logo

مقال :‘ محاولات إسرائيل الحَثيثة صَهْر هُوِيَّة فلسطينيّي الــ48 ‘

بقلم: راضي شحادة
26-03-2022 06:29:22 اخر تحديث: 18-10-2022 08:40:33

"إن جوهر ما يُسمّى "الهُوِيَّة الوطنيّة" هو الشُّعور بالانتماء؛ لكن الشُّعور بالانتماء إلى ماذا؟ لا لأُمَّة، لأنّ الأمم هياكل مصطنعة. لا إلى دولة أيضًا، لأنّ الدُّول تأتي وتذهب.


راضي شحادة  - صور شخصية

لكن لِلوَطن. والوطن هو بالضَّبط ما تقوله: أرض الوطن(Homeland). يبدأ بـ"الوطن" وينتهي بـ"الأرض". إنها الإحساس بالانتماء إلى منزل وبيت أسرة، إلى منزل حارة (حَيّ). ومنزل حمولة (النَّسب)، إلى قرية منزليّة ومجتمع قروي، إلى منطقة موطن وسكان المنطقة، وأرض الوطن وسكان الوطن"- د. مصلح كناعنة.
*"حين تحترم عقلك سيأخذك أعمق ممّا تَتخيَّل...إنهم يخشون من عقلك أن تفهم، ولا يخشون من جسدك أن تكون قويّاً"- *(المفكّر الإيراني الدكتور علي شريعتي- الذي اغتيل سنة 1977)

هل يستطيع الإنسان أن يُبَدِّل جِلدَه أو يَخرُج منه فيَتَحوَّل الى حَيه ؟
    هل تتغيّر هُوِيَّة الإنسان الفرديّة والجَمعيّة مع تغيّر الظّروف، وهل ينطبق هذا على حالنا كفلسطينيّين، وكمواطنين مَنْزوعِي الوَطن منذ اخترقَ حياتنا كيانٌ جديد بديل لوطننا، ألا وهو الكيان الإسرائيلي الصّهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري، ما قد يؤدّي الى جعلنا نتغيّر حتى في هُويَّتنا الفلسطينيّة والعربيّة؟
    هل هي هُوِيَّة جديدة، أم إنَّها هُوِيَّة مُتجَدِّدة؟ هل هي هُوِيَّة فلسطينيّة تتغيَّر مع الزّمن، أم إنَّها أصبحت خليطاً من أكثر من هُوِيَّة؟ هل هي هَجينة بَيْن بَيْن، بينَ فلسطينيّة وعربيّة وإسرائيليّة ودينيّة، وإنسانيّة عامَّة بدون هُوِيَّة خاصّة او جَمعيَّة؟ هل تتطوّر الهُوِيَّة وتتَحوَّر مع الزَّمن فتصبح هُوِيَّة أُخرى منقطعةً كلّيّاً أو جُزئيّاً أو في معظمها عن أصلها؟
    هل من الممكن أن تَهتزّ الهُوِيَّة الأصليّة فتتحوّل أو تتَطوَّر الى هُوِيَّة جديدة مناقضة للأصليّة في الشَّكل والجوهر؟ هل يتغيّر الإنسان وتتغيّر معه هُوِيَّته وتتبَدَّل حسب الظُّروف التي يعيشها؟
    قضيّة الهُوِيَّة قضيّة معقّدة، فكم بالحَريّ عندما تَخُصّنا نحن من نعيش كمواطنين في دولةٍ لا تُشعِرُنا أنّنا متساوون فيها، ولا نشعر أنَّها دولتنا، بينما نحن نعيش في وطننا التّاريخي الأمّ، وغير مستقلّين تحت حماية دولتنا الفلسطينيّة، فيكون لنا ما نريد ونحصل على حقّ تقرير مصيرنا.
    اذا كانت الهُوِيَّة كامنة داخل جسم الإنسان، فهل يستطيع نَزْع جِلده عن جسده، فَيتحوّر مع الوقت فيصبح حَيَّة؟ هل هو من ذوات الجِلد الـمُتَجدِّد و"الـمَـشْلُوحْ"، أم إنَّ الجلد الـمُتطوّر يبقى جزءاً من جسده الكامل؟ هل الهُوِيَّة موجودة داخلنا بناء على فلسفة *"الأُوبُونْتُو"، أم إنَّها مُقتصرة على جَسَد الفَرد بحدِّ ذاته، وضمن حدود جسده الفَرديّ؟ (*معنى الأُوبُونْتُو بلغة قبيلة "الزُّولو" في جنوب أفريقيا، "أنا أكون لأنَّنا نكون"، والتي تَحوَّلَت الى مفهوم فلسفي يعني: "إنَّنا هكذا لأنَّكَ هكذا"، الـمُعتمِدة على جَماعيَّة التَّفكير والشُّعور بالـمَصير المـُشتَرك بالـمُشاركة، وبالـمُشتَرك الإنساني الذي يلتزم الفرد من خلالهما تجاه الآخرين، وهو مدين لهم، وهم مدينون له بهذا الـمُشترَك الذي يجمعهم، وملتزمون به بين بعضهم البعض، وهذا ينطبق بقوَّة على معنى الهُوِيَّة الجَمعيّة، وينطبق على هُوِيَّتنا الفلسطينيّة العربيّة الوطنيّة والقوميّة).

الصِّراع بين هُوِيَّة الاحتلال الاستيطاني الاستعماري، وهُوِيَّة الواقع عليه الاحتلال
    بشكل عام يميل الإنسان غريزيّاً كالطّفل الى الاكتفاء باحتياجاته الخاصة والأوَّليّة الطّبيعيَّة مثل الحصول على الغذاء والحماية والتَّعلّق بدايةً بمحيطه الضَّيِّق، الـمُقتَصِر على الأم والأب، ولاحقاً تعلُّقه بسائر العائلة..ويستمر بالاكتفاء بهذا الانتماء، بينما هو يعيش تحت قَبْضَة وسلطة نظام فوقيّ يتحكّم به ويسيطر عليه، ويوجّهه ويُضلِّله ويراقبه باجتهاد وبـِحَذَر وبـِمواظبة، ويُسجِّل جميع أفعاله وتحرّكاته، ويدرُس بِدِقّة طريقة تفكيره وسلوكه، وفيما إذا كانت مُصطلحاته وتصرُّفاته معبّأة بالسّياسة والوطنيّة المعادية للنّظام، لا بل يستفيد من لهجته ولغته وطريقة نُطقِه للُغته، ولغة جسده في تحرّكه وملبسه ومأكله ومشربه، لكي يقوم مُمَثِّل هذا النِّظام بتمثيلها عندما يقوم بدوره كــ"مُسْتَعْرِبْ" مُتَخَفٍّ بشخصيّة عَدوّه الفلسطيني، وينتهج أساليبَه الـمَدروسة من قِبَل اختصاصيّين من أجل زرع منهاج الإلهاء والتَّسلية والتَّسطيح، وإزاغة نظر ذلك الشَّخص المـُعامَلِ كفأر تجارب، مُتنقِّلاً بين شتّى حقول ذلك السَّيِّد الذي لا يتوانى عن إيجاد أيّة وسيلة لمحو هُوِيَّة ذلك الفأر كلّيّاً، حتى وإن اقتضى الأمر تهجينه. 
     وهكذا يَسعى هذا النِّظام الى إدارة حياة هذا المواطن"العدوّ" في دولة هذا النّظام، فيستغلّه هو وعائلته ومجتمعه وشعبه، فيُحيِّدهم عن إمكانيّة الوصول الى هُوِيَّتِهم الفَرديَّة والجَمعيّة، والتي يجد فيها خطراً يهدّد وجوده وكيانه، ويَسعى جاهداً بكل ما لديه من حِنكة ويَقظة واجتهاد وإمكانيّات عسكريّة ومخابراتيّة واقتصاديّة مدعومة من حلفائه الـمُستعمِرين الغربِييّن، لكي يتَّخذ احتياطاته عبر سنوات وجوده كمحتلّ عبر عقود من الزّمن، فيلجأ الى الاقتلاع والظّلم والاحتواء وتضييق سبُل العيش، ويستعمل سلاح غسل الأدمغة، فيَنتُج لدى هذا الإنسان الذي يقَع عليه كل هذا الضّغط حالة من الصِّراع مع الذَّات والشِّيزوفرينيا، مُمَزَّقاً بين ما يُغسل به دماغيّاً، وبين تناقض ذلك مع طبيعته الأولى الأصليّة الـمُنغرسة فيه في هُوِيَّته الأصليّة، وهو يعيش بين متناقضات تُأَصِّل فيه الشُّعور بأنّه مُقتَلَع ومَهزوز، ومهزوم الهُوِيَّة. ولكن..
    ..على نقيض ذلك أيضا يكون لدى هذا الفرد رغبة ونزعة طبيعيّة وتَطَبُّعيّة أوَّليّة وأساسيّة الى الفهم العام والأوسع للحياة ولِذاته ولِكيانه ولتاريخه، وميله الى التَّوسُّع تدريجيّاً في التَّعرّف على هُوِيَّته وصَقْلها، محاولاً تثبيت أُسُسِها، حيث يجد في ذلك حماية له ولمجتمعه ولشعبه، مستَقبَلاً وعلى المدى البعيد، ولأطول مدى، ما قد يَضمن استمراريّة جذوره وبُذوره على قيد الحياة، فيزداد اطمئناناً بأنّه محميّ من مَغبّة فُقدان هُوِيَّته ووطنه وشعبه. بعضهم يجد في ضعفه قوّة، وبعضهم يبحث عن نُقاط قوّة تجعله يكافح من أجل مواجهة هذا الـمَصير الضَّاغط عليه وعلى حياته، وعلى هُوِيَّته. وهكذا، فَمِنْهم مَنْ يلجأ الى خيار استغلال قوّة ضعفه بسبب ضعف قوّته، ومنهم مَن يدّخر قوّته وصبره، ويزيدهما ذَخيرةً الى حين يَشعر أنّ قوّةَ قُوَّتِهِ التَّراكُميّة وَصَلت أوجَها .

خطر الانصهار والانزلاق
     قد يُشكّل الانصهار والاندماج الجديد من قِبَل المحاصَر هُوِيَّاتِيّاً وعربيّاً وفلسطينيّاً مَهرَباً نحو لغة جديدة تشبه لغة المـُستَعمِر، حيث يجد الشَّخص في العَبْرَنَة نوعاً من الحماية والاطمئنان والابتعاد عن الشُّعور بالدُّونيَّة أمام اليهود الصّهاينة، وبذلك يشعر أنّه يحافظ على نفسه وعلى عائلته وعلى مَصالحه ورِزْقه، اتّقاءً لـِمَغبَّة طرده من عمله او سَجنه أو وضعه على لائحة المخالفين للتّعليمات العُليا، وتفادياً للعنصريّة الصّهيونيّة القمعيّة والتَّفريقيّة.
    أصبح كلام البعض مخلوطاً باللغة العبريّة، وأصبحت اللافتات التِّجارية في مدننا وقرانا مكتوبة بمعظمها باللغة العبريّة، وتهجَّنت أسماء قرانا ومُدُننا المـُهَجَّرة والمـُدَمّرة بأسماء عبريّة جديدة أو بأسماء توراتيّة قديمة. لأيّ مدى، مع مرور الزَّمن، ستُمحَى الهُوِيَّة الأَصليّة، أو ربّما قد تتحوّل الى هُوِيَّة جديدة قائمة هي الأخرى على أنقاض الهُوِيَّة الأصليّة؟ اذا كُنتَ لا تستطيع أن تَسبح في النَّهر مرّتين لأنَّ الماء تيّارٌ دائم الجَرَيان والتَّغَيُّر، فهل هذا يعني أن التّيار يُعبِّر عنك وأنت تسبح فيه، أم إنّه تيّار جارف لك يُحوِّلك الى انتهاج نوع جديد من السِّباحة، حتى وإنْ كنتَ بارعاً فيها، محاولاً تَفادِي الغَرَق؟ هل هو تيّارك أم أنّ غريباً قد سمح لك بالسّباحة في تيارٍ ونهرٍ يَدّعي أنّه مُلْكُه، وأنّه لم يكن في الأصل تيّارك ونهرك؟ هل أنت تسبح في مياه بحيرة طبريّة في مياهِ شاطيءِ مُنتَزَه يملكه إسرائيلي يتقاضى أُجرة دخولك لأنها بحيرة فلسطينيّة، أم إنّها بحيرة إسرائيليّة؟ هل فلسطين هنا، ام إنّها في الضّفَّة الغربيّة وفي قطاع غزّة، أم إنّها لا تزال تعيش قيد الحياة والأمل في عقول الـمُشرَّدين في أصقاع الأرض وفي مخيّمات اللاجئين؟
    يَسعى النِّظام المـُستَعمِر جاهداً لجعل هذا العُنصر الـمُسْتَهدَف "موظَّفاً" محدودَ الوظيفة والتَّوظيف، وعليه ألّا يحيد عمّا خُطِّط له وعمّا صُمِّم من أجله و"قُوقِع" فيه، بحيث يُصبح مُقتنعاً بأنّ الخروج عن هذه الحدود يُشكِّل خطراً على مصدر عيشه ووظيفتِه ومصلحتِه، فَيقْتنِع بأنّ هذه هي حدوده، ويجب ألّا يتجاوزها من أجل أن يحافظ على وجوده، وخاصة أنّه دائم القَلَق بأنّ وجوده مهدَّدٌ بالخطر من قبل النِّظام الرَّهيب الذي يتحكَّم بحياته وبتحرّكاته؛ فَيَكتفي هذا المحاصَر بأن يتوخّي الحذر وأن يُبقي اهتماماته ضمن حدود عائلته الضيّقة، وبحدود دينه او مِلَّته او طائفته، أو من خلال انتمائه العام لإحدى مؤسَّسات هذا النِّظام الـمُحاصِر. إنّه يؤمن بفلسفة "عدم حَمْل السّلم بالعَرْض"، و"حَادَتْ عَن ظَهري بَسِيطَة"، ما دام ذلك قد يُعرّضه للخطر وللخسارة. ومنهم من يقولها جهاراً او علناً: "مصلحتي مضمونة أكثر، وأقلّ خطورة، إذا اكتفيتُ بمواطَنَتي الإسرائيليّة، وسيكون الخَطَر أكبر لو أنّني بقيتُ متعلّقاً بفلسطينيّتي، ومُعَلِّقاً هُوِيَّتي فيها. اكتفائي بالمواطَنة يجعلني أستفيد أكثر، ويجعل السّلطات تغضّ الطَّرف عنّي، وتقبلني كما هي تريدني أن أكون، وترضَى عنّي".

     يسعى النِّظام الحاكم الضّاغط بلا كَلَل بأساليبه النّفسيّة والميديويّة والتّربويّة والسّياسيّة والمخابراتيّة، مستعملاً فلسفة التَّرغيب والتَّرهيب، لكي يُبقي هذا الإنسان الـمـُستَهدف، ومَن على شاكلته من أبناء شعبه وهُوَيَّته، بعيداً عن المشاكل الاجتماعيّة والسِّياسيّة الحقيقيّة، ومشغولاً طوال وقته بمسائل ومصالح شخصيّة معيشيّة أو سطحيّة؛ وعن طريق ضَخّ معلومات مُكثَّفَة عبر وسائل إعلام موجِّهة، تهدف الى زرع القَناعة التَّامة لديه أو لديهم، لكي يَتَبنّى أو لكي يتبنّوا ككتلة بشريّة وجهة نظر النّظام. إنّها سيرورة مدروسة تُساهم في سياسة الإنَسَاء للانتماء للهُوِيَّة والإعماء عنها، وبتجذير الانتماء للـــ-لاهُوِيَّة والإلهاء عنها، بواسطة الإعلام والمنهاج المكثّف بكل الوسائل أحاديَّة التَّوجُّه، وأحادِيّها يقتصر على البرنامج الـمُخطَّط مسبقاً لإعماء الـمُتلقّي وإقناعه بأنّ ما يُقدَّم له هو الحقيقة وهو الصَّواب. يَتجلَّى ذلك بوضوح من خلال ضخّ كمّيات كبيرة من وسائل التَّرفيه والتَّسلية السَّطحيّة، بينما الشَّيء الذي كان يُؤمِن به هذا الـمـُستَهدَف سابقاً، مشكوكٌ بأمره وبعيدٌ عن الحقيقة، فيجعله يؤمن بالحقيقة الجديدة الـمُزيّفة، ونافراً من الحقيقة الأصليّة لهُوِيَّته ولانتمائه.
عندما يصبح صاحب الهُوِيَّة الوَطنيّة والفرديَّة جالداً لذاته:-
    إنّ خطّة النِّظام الحاكم بالضّغط على عنق المواطن من المكان القريب من خَنقه قريباً من منطقة ابتلاع لقمة عيشه، تبدو خُطّة تُؤْتِـي أُكلها، فتجعل الرَّغيف يركض أمامه وهو يركض وراءه، وتُضيّق عليه سبُل الحصول على الأرض والـمَسكن، ما يجعله مشغولاً بحاجاته الأولّية، وبإرغامه على الاكتفاء بالنَّزر القليل من سُبُل العيش، وفي النِّهاية تجعله إمّا متفجّراً بعنف، أو مصاباً بالإحباط والشُّعور باليأس والعجز والاستسلام، ويصبح اهتمامُه ثانويّاً بأموره الهُوِيَّاتِيَّة والسّياسيّة والوطنيّة، أللّهمّ إلّا إذا وجَد نفسه ضمن تجمُّع تَظاهريّ من الـمُتفجّرين غضباً واحتجاجاً على وضعهم الـمُشترك، مُطالبين بالعدل، ومحاولين الـمُطالبة بالتَّغيير الذي قد لا يَتعدّى بأضعف الإيمان الأمورَ الإصلاحيّة وليس الثَّوريّة.
    ومنهم مَن تتحوّل نَقْمتُه على مجتمعه قائلا: "المجتمع خَرا، فَهَل عندك حلّ؟"، فيأتيه الرّد: "الحلّ هو إمّا أن تُغيِّر المجتمع أو أن تُغيِّر نفسك"، فيقول يائسا مُحْبَطاً: "أنا لا أستطيع تغيير هذا ولا ذاك. أنا يا دوب أقدر ألاقي معاش يكفيني ويكفي عائلتي. أنا يا دوب قادر أَعَمِّر. أصلاً لا يوجد عندي أرض أبني بيتاً عليها، ولا يوجد لديّ إمكانيّة الحصول على مالٍ كافٍ لأَبني بيتي وأعطي لعائلتي ولأبنائي ولأطفالي حقّهم. وأمّا القادرون على ذلك فهم مشغولون بمشاريعهم الخاصّة ويتصرّفون بحذر من منطلق الخوف عليها، فلا هم يغيّرون ولا أنا قادر على التّغيير، ولا أشعر أنّ وضعي غير الـمُستقرّ مادّيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً يجعلني قادراً على بناء نفسي وشخصيّتي وهُوِيَّتي ووعيي كما يجب".

هُوِيَّة مُشَرْذَمَة ضمن عدّة هُوِيَّات مشتَّتَة ومُشَتِّتَة
    إذن، ضمن كل هذا الواقع الـمُستمِرّ في الضّغط عليه من أجل كَسره وتغييره، هل ستصبح الهُوِيَّة عنصراً متغيّراً وأنّ حاملها قابل للاستغلال والتغَيُّر؟ هل من الممكن أن تتجزّأ الهُوِيَّة فتنشطر الى عدّة هُوِيَّات، ومنها الهُوِيَّة الإسرائيليّة والدِّينيّة والقوميَّة والإنسانيَّة العامّة، والهُوِيَّة الحياديّة التي تنحو الى استغلال الظّروف التي تسمح للإنسان بِتَلبية حاجاته الخاصّة واليوميّة، أكان ذلك بدافع "أنانيّ" أو "أناويّ"؟ ومن هذا المنطلق فقد تُصبح الهويَّات كُتَلاً مُنغلقة على ذاتها مُعادِيَة إحداها للأخرى، وبخاصة اذا كان الأمر يتعلّق بهُوِيَّة شعب يعيش في ظَرف احتلاليّ خاص، يختلف وضعه عن شعوب لديها دُولها وحكَّامُها واستقلالُــها ومؤسّساتها الوطنيّة، ولا يعانون من حالة انفصام في هُوَيَّتهم الوطنيّة والقوميّة والجمعيّة؟ قد تعتدي الهُوِيَّة الدينيّة مثلاً على الهُوِيَّة القوميّة إذا اتّخذها الإنسان باتّجاهٍ واحدٍ أحادي التَّوجّه. هل من الممكن أن تجتمع جميع هذه الهُوِيَّات السَّابقة الذّكر في هُوِيَّة واحدة متماسكة وغير مُنشطرة وبدون أن يَعتَوِرها أيّ خَلَل؟
      الكيان الاحتلالي الاستعماريّ يجذّر فينا حالة الانتماء لهُوِيَّة دينيّة مِلَلِيَّة طائفيّة عائليّة، مُنحصرة ضمن سيادة الأب او المختار او رئيس المجلس المحلي او البلدي، وهو يَعْلم أنّنا مُهيَّؤون لذلك في زمن نشعر فيه بالضَّعف، والحاجة الى الاستجداء من قوّة تحمينا والاستنجاد بها، وكلّ ذلك مُدار من النِّظام الأعلى الذي يضمن من خلال هذه التَّركيبة إبعادَنا كأقلّيّة عن هُويِّتنا الوطنيّة الجامعة والمشتركة، وهكذا يضمن لنفسه ديمومة تفريقنا، ويضمن استمرار التَّحكّم بنا والسَّيطرة علينا من خلال ضمانه إبقاءنا على ضعفنا، مُجزَّئِين، مُشَتَّتين، مُنفصمي الهُوِيَّة، لا بل متعدّدينها.
    إنّ سيطرة النِّظام على الفرد وتقَوقُعُه داخل حدود حاجيّاته الضَّيّقة، جعلت مهمّة سيطرته على الجماعة أسهل، لأنّ الفرد عند خضوعه للنِّظام الاحتلالي العنصري والاستيطاني يجعله خائفاً من الانتماء الى الجماعة كشعب او كأصحاب هُوِيِّة وطنيّة او قوميّة جامعة، والتي تُعتَبر من وجهة نظر النِّظام اليقينيّة حالةً مُرتبطة جذريّاً بالهُوِيَّة الأصليّة والأصيلة، والتي تُشكّل عنصراً مُهدِّداً لوجود هذا النِّظام، الذي يُدرك جيّدا أنّه تأسس على أنقاض هذه الهُوِيَّة، وهذا الوطن. وهكذا فإنّ رضوخ الأفراد كأفراد لسُلطة النِّظام ستَتحوَّل بالتّدريج الى رضوخِ الجماعة أو بعضها أو معظمها الى التَّأثير ذاته الذي يُصبح هو ذاته الموجِّه للفرد او للجماعة، وهكذا تندمج جهود  تحويل هُوِيَّة الفرد مع جهود تحويل هُوِيَّة الجماعة، فتصبح شخصيّة الجماعة شبه متشابهة في إطاعتها للنّظام السَّائد .
    إنّه التَّناقض بين الانتماء او الانفصال والانفصام، بين مصلحة الحاجة اليوميّة الآنيّة والأنانيّة، والمصلحة الهُوِيَّاتيّة المرتبطة بالمجموع وبالآخرين من ذوي الهُوِيَّة المشتركة التي قد تصل الى مرحلة الانفصام او الاقتراب من مرحلة القَطيعة إحداها عن الأخرى.

بين الانتماء الضَّيِّق للأنَا والانتِمَاء الواسِع للنَّحْن
    يميل الإنسان بشكل عام بطبعه وتَطبُّعه الى الانتماء الضّيِّق، الذي تَغْلب عليه النَزْعة الفرديَّة، بينما هو يشعر بالأمان عند انتمائه البِدائيّ للقَطيع، وهو أمرٌ مرتبطٌ بِحاجته للذَّود عن نفسه وعن بيته الصّغير، وعن مصدر رزقه، وعمّا لا يجعل كل ذلك متناقضاً مع مصلحة الحاكم القويّ الذي يُعتَبر التَّهديد الأساسي لكيانه، رغم كثرة أفراد القَطيع، وعن قناعة وهميَّة بأنّ الكثرة تغلب الشَّجاعة. ورغم انتمائه للقطيع، فإنّ هذا الانتماء أيضا غالباً ما يكون، ورغم توفُّر الكثرة، قليلَ التّجذُّر والتّعَمُّق فيما يـَخُصّ هُوِيَّته ووطنه وشعبه وقوميّته، وإن كان لا يزال يؤمن بذلك في أعماقه، فإنّه يتفادى التَّصريح به عَلَناً، ما يجعله مع الوقت قريباً من مرحلة التَّنازل عنه. وبما أنّه غالباً قد صُمِّم او اضطُرّ مرغماً او بلا-إرادته، على الاكتفاء بوعْيه المحدود، وبفكره الضَّحل، وبثقافته الهَشّة، فإنّه يتولّى أمرَ الرّقابة على ذاته وعلى تحرّكاته، وعلى لُزومه الحذَر في طريقة تفكيره وطريقة تعبيره كلاميّاً، وبالتّالي فإنّه يقوم بكلّ ذلك بإرادته الذّاتيّة بدون أن يَطلب منه أحد ذلك، فهو "واعٍ!؟" لخطورة خروجه عن المطلوب وعن "النّظام" الـمَرسوم له لكي لا يخرج عن المطلوب. كل ذلك سينعكس على نوع الهُوِيَّة المـُهَجَّنة التي سينتهجها، والتي قد تكون مُخطَّطة له مُسبقاً وعن قصد من قبل حاكمه الدَّاهية، والواعي لذاته، لأنّه قادرٌ على التَّخطيط قصير الـمَدى وطويله، مدعوماً من قوى عالميّة قويّة، لا بل هي دول معروفة كدول استعماريّة، ووصلت إحداها الى مرحلة الإمبراطوريّة التي لا تُقهر.
    صحيح أنّ الهُوِيَّة الوطنيّة والقوميّة هي هُوِيَّة "تُبَدِّيْ" الانتماء للشَّعب او للوطن او للأمّة، و"تُثَنِّي" الهُوِيَّة الإنسانيّة العامّة، ولكنّها ضروريّة في ظروف مرحلة سيرورة محاولة التَّحرُّر من قيود الهيمنَة والاحتلال الاستيطاني، وبعد هذا التَّحرُّر يصبح "تَرَف" الشُّعور بالهُوِيَّة الإنسانيّة العامّة أفضليّة أمميّة.     
    هذا الشَّخص النَّفعي بحكم ضرورات الحياة، وضعفه أمام جبروت الظُّروف التي يعيشها تحت كَنَف هذا النِّظام، تُسيطر عليه النَّزعة الفرديّة والأنانيّة، فيحاول أن يلعب على أكثر من حبل للنَّجاة. منهم من يكون صامتاً او مناصراً للسِّياسة الإسرائيليَّة، وفجأة يتحوَّل الى إنسان وطنيّ ومزاود فــ"يَــرْكب على القضيَّة"، فهو تارة وفي فترة ما من حياته يُسايِر النِّظام، وعندما يجد في النِّظام وفي شعبه مكسباً ثنائيّ الـمَصلحة، تراه حينا يزاود بوطنيَّته وبفلسطينيّته وعروبته، وتارةً يدّعي أن تصرّفَه "الدِّبلوماسي!!" مع النِّظام نابع من معرفته "الحكيمةّ؟!" من أجل المصلحة العامّة ومن أجل مصلحة مجتمعه وشعبه، وعندما يجد أن النِّظام لا يشكّل خطراً على مصالحه وعلى حياته، فإنّه يقفز الى مرحلة جديدة يزاود فيها بثوريّته وبتقدّميّته وبِكُرهه للظُّلم وللتَّفرقة العنصريَّة، وبوُقُوفِه مع الحقّ ومع المظلومين. تتطوّر هذه التَّقلّبات في هُوِيَّته، فيتحوّل الى كتلة من الإنفصامات الـمُتعدِّدة في شخصيّته.
    هل الهُوِيَّة قابلة للتَّغيير الى حالة تصبح فيها ضدّ نفسك وضدّ أقربائك وشعبك، وضد هُوِيَّتِك الأصليّة؟ الهُوِيَّة قابلة للتَّغيير، ولكنّها عندما تتغيّر بتجذيرها ومَلْئِها بالمزيد من الوعي والانتماء لشعبك ولوطنك، فهذا يُعدّ تغييراً إيجابيّاً، ولكن التَّغيير بالاتّجاه المعاكس، باتّجاه مناصرة أعداء وطنك وشعبك، فإنَّها تصبح قريبة من حدود الخيانة، والأخطر من ذلك أنّها تُصبح خيانة "مُبَرَّرة!؟" بحُكم تغيُّر الظُّروف والتَّاريخ والجغرافية و"الحسابات!"، وبحكم انتهاج فلسفة قوة الضّعيف، وبدافع صراع البقاء خوفاً من الإبادة.   
  هنالك تغيير عُضوي وطبيعي بطبيعة التَّأثُّر من الأجواء التي يعيش فيها الإنسان، وهنالك تغيير نَفعي انتهازي يصل الى حدّ الضَّرر بمن حولك من مقرَّبين وشعب ووطن، ومن أبناء الهُوِيَّة الوطنيّة الواحدة. هذه المعادلة الصَّعبة تنطبق علينا كأناس لم نصل بعد الى مرحلة تحرّرنا الوطني، ولم نحظَ باستقلال كُلّي في حدود دولة لنا وتخصُّنا، وهو ما يجعل من الحديث عن قضيّة الهُوِيَّة حالة تَخُصُّنا جدّاً أكثر من الشُّعوب التي نالت استقلالها وحرّيتها، ولا ترزح لعقود تحت نير احتلال استيطاني استعماري.

انفصامات في هُوِيَّات المثقّفين والمُتَثاقفين والمُتَعلِّمين  النَّفعِيِّين والتَّسَلُّقيِّين
    لكي نميّز بين صفة "الـمُثَقَّف"، وهي صفة لها مدلول إيجابي، أكان ذلك يدلّ على مثقف "مُشْتبِك" أو مثقّف غير مُشتبِك، وهو ما يميّز هذا المثقّف عن "الـمُتعلّم"، فإنّنا سنلجأ الى صفة "الـمُتثَاقِف"، كَصِفة سلبيّة نقيضة لــ"المثقَّف".
    قد يكون المثقَّف متعلّماً، ولكن ليس بالضَّرورة أن يكون الـمُتعلّم مثقّفاً، ولكنّه يمكن أن يكون متثاقفاً. ليس كل متعلّم "فَهْمانْ" خارج نطاق تخصّصه، ولذلك يمكن التَّمييز بين الـمُتعلّم والمثقّف والمتثاقف.
    هل المتعلِّم او حامل شهادة تخصُّص هو بالضَّرورة أخلاقي ومثقَّف ومُتسامٍ وعميق في تفكيره، وهل هو يتمتّع بهُوِيَّة أصيلة وعميقة؟ لا بل إنّ المتثاقف والمتعلّم يجد نفسه في كلّ مناسبة يلعن العرب وخياناتهم وفسادهم، ولا يتوانى أحيانا عن لَعْن الفلسطينيّين "الخَوَنَة!؟"، لكي يبرِّر ما وصل اليه من قناعات شخصيّة تتنافى وهُوِيَّته الفلسطينيّة الأصليّة، فيدّعي أنّهم هم السَّبب في جعله مقتنعاً بمن هم أفضل من شعبه وأرقى وأكثر تحضُّراً. هو لا يدينهم ويَشتُمُهم لِكَوْنه يطرح بديلاً ثوريّاً ووطنيّاً أرقى منهم، بل لأنّه يجد في حضيضِه الجديد قمّةَ نقائِه، ومُبرِّراً قَويّاً يدافع به عن نفسه عمّا جعله يتّخذ هذا الخيار لطريقة حياته.
    هنالك ضرورة لوجود مثقّف عميق التَّجربة والمعرفة ومتشعِّبِها، واتّساع مفهومه للحياة، ومدى عُمق تجاربه فيها وفهمه لها، وتمكُّنه من الـتَّأثير والتّأثُر من خلال سمُوّ فِكْرِه وتَقدُّميّته وثَوريّته، وهو يُشبه في صراعه ونشاطه صراع المبدع، بين إبداعه النَّخبوي والجمالي من جهة، وبين محاولته إيصاله لكل أنواع الـمُتلقّين من جهة أخرى، وينطلق هذا التأثير بدءاً من مُتَلَقٍّ عادي بسيط ونهاية بِمُتَلَقٍّ عميق التَّجربة والوعي الحياتي.
     ما يدعو للقلق أن بعض المثقّفين الـمُتثاقفين الـمُتعلّمين يُشكّلون خطراً على الوعي العام لأنّهم يتمتّعون بقدرتهم على الإقناع، لكونهم لديهم مصطلحاتهم وبراهينهم التي يستطيعون من خلالها التَّغلغُل في فِكْر العامة والخواص، ويساهمون في عمليّة التَّغيير للهُوِيَّة. المخيف في الأمر أن هؤلاء، ومع مرور الزّمن، يقومون بالوَعْظ من خلال هذا التَّفكير الجديد لنوع هُوِيَّة جديدة، لا يفعلون ذلك عن خُبث او عَمالَة أو عن شعور بالخيانة، بل لأنّ ذلك أصبح جزءاً من قناعاتهم "المبدئيّة!؟" و"العلميّة!؟" بحُكم الظّروف، وبِحُكم الحاجة لتغيير الهُوِيَّة واستبدالها بهُوِيَّة أفضل منها، إيماناً منهم بأنّ مفهوم الهُوِيَّة هو مفهوم مَطَّاط ومعجونيّ، وهم ذاتهم  مُدَّعُو "الثَّقافة الوطنيّة" التي تقترب تدريجيّاً من "الثّقافة الوطنيّة الإسرائيليّة".. لا مانع لدى بعض هؤلاء بأن يتجنّد أبناؤهم في جيش إسرائيل وشُرطتها مُبرِّرين ذلك بأنهم مواطنون إسرائيليّون يقومون بالواجبات ويحصلون على الحقوق، مثل أي مواطن إسرائيلي أو صهيوني في الدَّولة... ابنه سَيرتديّ البزّة العسكرية ويحمل السِّلاح وينطلق الى ساحة الوَغى. لماذا؟ لكي يقاتل مَن؟ هل سيقاتل عدوّه؟ هل عدوّه هو ابن شعبه العربي والفلسطيني؟ هل يُرسله لكي يقتل النَّاس بأوامر من قائده لكي يخدم سياسة إسرائيل ضدّ أهله؟ إنّه يُوافق أن يجعل ابنه قاتلاً او مقتولاً من أجل إسرائيل.. وأمّا ذلك الضَّابط العربي الفلسطيني الـمُتقاعد من خدمته في جيش إسرائيل فقد قال بثقة وبفمٍ ملآن: "اي سؤال غريب هذا؟ هذا سؤال لا يُسأل. طبعاً ابني سيذهب الى الخدمة العسكريّة في دولتنا. هذه دولتنا ونحن مواطنون مخلصون لها ونخدمها كما هي تخدمنا". هذا الضّابط تَقَاعد من الخدمة العسكرية وأصبح شاعراً يتغزَّل بالإنسانيّة والعصافير وجمال الطّبيعة، وضرورة الحفاظ على البيئة من قَرَف الإنسان "اللا-حضاريّ!؟"، وحُبّ الانسان لأخيه الإنسان، وحبّ السّلام والتآخي والمساواة بين أبناء البشر.
    هذه الوسائل فَتَحت منصَّات واسعة لهؤلاء المـُتثاقفثن الـمُتَعلَّمين الواعظين للهُوِيَّة الجديدة، ومن بينهم فنّانون مبدعون، يكتبون ويشاركون في ڤيديوهات ومقابلات وأعمال فنّيّة تنتشر بكثافة عبر وسائل الميديا الحديثة، تجعلهم مع الوقت يحظون بمُعجَبين وبمُقتَنِعين بهم، فَيُصبح لديهم مُريدُون. بل لا يتورّعون عن التَّعبير أحياناً عن وطنيّتهم، ويخترقون بفكرهم أذهان جيل لا خلفيّة وطنيّة لديه، ولا تَعلُّق بهُوِيَّته الأصليّة، ولا امتداد طبيعي ووَعْييّ مع ماضيه، ما يجعل عمليّة الحَقْن ممكنة ومتراكمة. وحتى وسائل الاعلام الإسرائيليّة تفتح لهم المجال للتّعبير بحريّة عن وطنيّتهم، بحجّة حريّة التّعبير والدّيمقراطيّة، ما يجعل الـمُشاهد متَتبِّعاً ومُتقَبِّلاً ومتفاعلاً مع وسائل الاعلام هذه، وهي بدورها تتابع لُعبة غسل الدِّماغ والتَّضليل، والسّعي نحو إفقاد الهُوِيَّة الأصليّة للمُتلَقي. صار حضورهم في وسائل الاعلام الإسرائيليّة عبارة عن "تِحْلَايْ" او حَلوى للتَّلذُّذ بها قبل وبعد الوجبة التي خَطَّط الإسرائيليّون لتمريرها في عمليّة التّزييف للتّاريخ وللهُوِيَّة وللحقائق، وتمريرٍ لمخططِ صاحب القَرار وصاحب البرنامج الـمُخطَّط مسبقاً باجتهاد وبذكاء وبمثابرة. هذه الوسائل تنحو إلى إِنْسَاء النَّاس ماضيهم وصياغة ماضٍ جديد وحاضرٍ جديد من أجل بناء مستقبل جديد مغاير لجذور الـمُتَلقي الفلسطيني، ما سيشكل مع مرور الوقت هُوِيَّة جديدة، تَقْوَى أكثر وأكثر إذا لم تُجابَه ببديل آخر أقوى وأذكى وأكثر اجتهاداً ومثابرةً وتضحيةً، يُعيد مجرى مياه الكيان الهُوِيَّاتي وتيّاره النّقيّ الى مجاريه الصَّافية. صحيح أنّ هنالك أناساً يتغيّرون للأحسن، ولكن هنالك أيضا من يلبسون جلداً جديداً، وأصبح لديهم القدرة على تبديل جلودهم كالأفاعي، أكان ذلك عن وعي، او عن قصد، أو عن جهل، وعن اقتناعهم بغسيلهم الدِّماغي الجديد، وهذه الإمكانيّة الأخيرة هي الأخطر على كيان الهُوِيَّة.

    كيف يمكن تفسير تجنيد إسرائيل مائة ممثل فلسطيني وعربي بين محترف وهاوٍ في مسلسل يخدم في أهدافه حقّ الصَّهاينة "الـمُستعربين" "الإنسانيّين!؟" بأن يَقتلوا الفلسطينيّين والعرب "الإرهابيِّين!؟"، بينما هم مُتَخفُّون بلباس عربي وبشخصيّات عربيّة، وما يُطلق عليهم اسم "مستعربون"، ويَظهر الممثِّلون العرب والفلسطينيّون فعلاً على شكل إرهابيّين "لاساميّين!!" وهم يهدّدون الكيان الصّهيوني اليهودي "السَّامي!!؟؟" الذي يدافع "بحقّ!؟" عن أرض آبائه وأجداده؟ قليل من هؤلاء الممثّلين الفلسطينيّين والعرب في مسلسل "فَوضَى" الإسرائيلي تجرَّؤوا على تبرير مَنطِق مُشاركتهم فيه، والذي يتنافى ويتناقض ويتعادَى مع هُوِيَّتهم الفلسطينيّة والعربيّة، سِوى ادّعاء بعضِهم أنّهم يقومون بتقديم شيء من تجربتهم الاحترافيّة في مجال تخصُّصهم، وهذا بالإضافة الى أنّ المشاركة مغرية من ناحية الشُّهرة و"الارتزاق!". هل مقابل ارتزاقنا والحصول على لقمة عيشنا يتطلّب لدى البعض التَّغاضي عن هُوِيَّتنا الوطنيّة خدمة لـمُشَغِّلنا، والذي يدفع لنا مقابل جهدنا المبذول، وهو كما نعتقده صواباً ربّما يصبُّ في مصلحتنا الشَّخصيّة الماديَّة الأنانيّة والأناويّة؟ لا نُنكر أنّه أصبح لدى البعض شعورٌ بالحاجة للتَّنكُّر لهُوِيَّته وقوميّته ووطنيّته التي تُهدِّد مصالحه الشّخصيَّة، ويجد في ذلك توازناً بينه وبين مصالح النِّظام الإسرائيلي ومُشغّليه.
     لقد امتلك النِّظام القوّة، وأجبرنا في فترة ضعفنا على تقبُّله ككيان مُعتَرَف به كحقيقة حتميّة، وأمراً واقعاً، ويجب أن نعيش ونتعايش معه، وبمشيأتنا، او بمشيأته أو رغماً عنا، فهو غالباً ما يكون في نهاية الأمر مَن يملك السُّلطة والنّفوذ والمال والقُدرة على القرار. إنّه يحاول أن يصوغ لنا هُوِيَّة جديدة قسريّة من خلال إيمانه بأنّه مع تقدُّم الزّمن ستُصبح هذه الهُوِيَّة الإسرائيليّة الجديدة هي البديلة لهُوِيَّتنا الفلسطينيّة الأصليّة، وتتماشى مع مُخطّطاتهم وبرامجهم، فيصبحون هم أمراً واقعاً، ونصبح نحن كما يريدون تحت رحمة الأمر الواقع علينا.
    نحن نرى أنّه خلال 74 سنة تحت حكم إسرائيل، حتى لحظة كتابة هذا البحث، يوجد بعض "المثقَّفين الـمُتثاقفين المتعلِّمين!!" يعبّرون عن إسرائيليّتهم عن قناعة. بعض النّاس العاديِّين أصبحوا يؤمنون عن قناعة بقبولهم بشكل طبيعي الانخراط في صفوف جيش إسرائيل وشرطتها، وأصبحوا جزءاً من مشروع السُّلطة الإسرائيليّة، وهو مشروع ضدّ شعبهم وضدّ هُوِيَّتهم، فهم ضائعون بين عَدَم تمكنّهم من الانتماء لهُوِيَّتهم الجديدة بالتّجرّؤ على القول: "شعبنا الإسرائيلي" لأنّ من يقول ذلك هم اليهود الذين قرَّروا أنّ هذه الدَّولة هي دولة يهوديّة للشّعب الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته لا يستطيع هؤلاء الـمُنخرطون في مؤسّسات الدّولة العَسكريَّة والمخابراتيّة وغيرها من مؤسَّسات، أنْ يدَّعوا بالقول: "شعبنا الفلسطيني"، لأنّهم أصبحوا شبه مقتنعين أنّ ما هم فيه الآن هو إسرائيل، وما هو فلسطيني فهو هناك في مكان ما ليس محدوداً تماماً مكانه الدَّقيق. الفلسطينيّون هناك ونحن هنا في إسرائيل، بالإضافة الى أنّ جزءاً من هذه القناعة نابعٌ من عدم ثقتهم بعروبتهم، فيتحوّل مبدؤهم الى عقيدة دينيّة لا تتناقض مع عيشهم في دولة دينيّة يرتزقون منها بشكل طبيعي، وكأنها دولتهم الـمُستقلّة التي هم مواطنون فيها يخدمونها وتخدمهم، فيقدّمون لها الواجبات ويأخذون منها الحقوق.. هذا التّفكير النّاتج عن تراكُم زمني في العيش في هذا الـمُحيط الـمُستَمرّ في البقاء  لعقود من الزّمن، يجعل هذا الانسان مؤمناً بإسرائيليّته كمواطَنَة وليس كشعب في وطنه، على حساب وطنيّته وقوميّته الفلسطينيّة والعربيّة، ويساعدُه على ذلك ويقوّي هذا الشّعور لديه الالتجاء الى دينه كمكمّل لشخصيّته الجديدة، بدون أن يشعر أنّ ما يفعله هو انتماء لهُوِيَّة دينيّة داخل كيان سياسي جديد يتناقض وهُوِيَّته الوطنيّة الأصليّة، بدليل أنّك أحياناً تجد منهم من يلبس الملابس العسكريّة الإسرائيليّة على أساس أنّ ذلك يُعتَبَر جزءاً من أدوات الوظيفة المكشوفة للعيان، وهي لا تشبه وظيفة الــ"عميل" أو "الواشي" او "الجاسوس"، او ما يُطلّق عليه بالعامّيّة الفلسطينيّة صفة "الفَسَّادْ"، ظانّاً، أي هذا الشخص اللابس للزّي العسكريّ المكشوف للعيان، أنّ مفهوم العمالة والخيانة ينطبق فقط على الـمُنخرطين في سلك المخابرات وعلى الذين يَشُونَ بأبناء جلدتهم وأبناء بلدهم لجهاز الأمن والمخابرات الإسرائيليّة. والأدهى من ذلك أنّ هذه القناعة تكون أحياناً نابعة عن تربية مُتلاحقة ومُكثَّفة عاشها هذا الإنسان، وتعرَّض لها منذ طفولته حتى يوم "توظيفه" بزّيه الـرَّسمي التّابع للنّظام الذي يشغّله عبر عقود من الزّمن. 

    بقي أن نوضّح أنّ المنخرطين في سلك جيش اسرائيل وشرطتها هم قلّة قليلة جدّاً من مجمل فلسطينيّي الـ48، لا بل إنّ نسبةكبيرة جدّاً من "الدُّروز" الذين يخضعون لقانون الخدمة الإجباريّة في جيش إسرائيل يرفضون هذه الخدمة، وكثير من هؤلاء يتعرّضون للسّجن وللملاحقة لأنّهم يصرّون على التّشبُّث بهُوِيّتهم الفلسطينيّة. وهذا يدلّ أنّه بعد أكثر من سبعة عقود من محاولات إسرائيل محو أو إذابة أو صهر الهُوِيَّة الفلسطينيّة يبدو الفلسطينيّون بغالبيّتهم متشبّثين بهُوِيّتهم الأم.
المـَحقونون بِهُوِيَّةٍ جديدة هَجينَة تحت راية فرِّق تَسُد، وراية وحدانيَّة اللّه وليس توحيد البشر:-
    ينشأ الـمَـحْقُون تدريجياً، وعلى مدار فترة طويلة من تقدّمه في  العمر، في بيئة جديدة ناتجة عن اقتلاعه تدريجيّاً من بيئته الأصليَّة، فيصبح على قناعة بما يُحْقَن به، من حيث يَدري او لا يَدري، فيقوم هو تدريجيّاً بالقيام بعملية الحَقْن لأبنائه، ولكلّ من يوجد من حوله في بيئته الجديدة، بحيث تَصِل هذه الـمَرحلة الى تفريغ الأدمغة من العمق في التَّحليل والتَّفكير، فيُصبح الجماعة او القطيع يحملون فكراً هزيلاً، مُكتفين بما يُحقنون به من قِبَل حاقِنهم الذي يعمل على جعلهم كذلك عبر وضعهم ضمن خُطّة طويلة المدى، وإن كانت قصيرة المدى فهذا أيضا أفضل، بحيث يتصرّف الـمَحْقونون بها ومن خلالها بقناعة تامّة وبقرارهم الذّاتي بما أصبحوا عليه، وكأنّه جزء من شخصيّتهم الحقيقيّة.
     وقد يتّخذ النِّظام على سبيل المثال من حاجة النّاس للانتماء الدّيني وسيلة قويّة لزرعها في مُحْتَقَنِيه، وهو بذلك يكون على قناعة بأنّ الدّين لن يحيده عن التَّقوقع في فكر مغلق وغَيْبيّ يربطه بالماضي السَّحيق، ويَقْطعه عن التّفكير بمواجهة مصيره من خلال الحاضر والتَّخطيط للمستقبل، ناهيك عن أنّ انتماءه الدّيني يُبعده عن انتمائه الوطني والقومي، ويجعله نافراً من التَّفكير في وضعه السِّياسي الوطني والهُوِيَّاتي، لا بل يكتفي بالنّظر الى أعلى منتظراً "الرِّزقة" التي ستأتيه من الله ومن السَّماء، او من كَرَم وعَطْف حاكمه، وبخاصة أنّهم أقنعوه أنّ الدّين لا حدود له، لا بل إنّ حدوده تصل الى أقاصي الأرض وأعالي آخر السَّماوات، بينما الحقيقة الحقيقيّة والدّنيّويّة والمنطقيّة وغير الغيبيّة هي أن الوطن والدّولة الـمُستقلَّة والـمُتحرّرة والشَّعب الحرّ، كلّ ذلك عبارة عن كتلة مرتبطة بالهُوِيَّة والحماية والاستقلال والأرض والدّنيا والحدود الحامية له. وهكذا يضمن النِّظام الاحتلالي لنفسه قطيعاً جاهلاً لا يفكر في التَّمرُّد ويمنعه من السّعي نحو فكر عميق  ومُستقبليّ في حياته الدّنيويّة وانتمائه للجذور، لأنّه بذلك نَسَفه من جذوره، لا بل يحثّه على الجمود في الماضي والتّخّدر فيه متنازلاً عن الحاضر والمستقبل، وطامعاً في حياة غيبيّة يجد فيها مصلحته الحتميّة، حيث لا أحد يستطيع أن يضمنها له سوى حُكم الله والشَّرائع الدِّينيّة.
    لم تُثبِت الدّيانات التَّوحيديّة عبر تاريخها أنّها تسعى الى التَّوحيد بين البشر، وبقيت مصرّة على أنّها جاءت لتؤكّد على وحدانيَّة الله وليس على اتّحاد البشر، أكانوا أبناء شعب واحد او أبناء أمّة واحدة او أبناء وطن واحد، وأنّهم يعيشون ضمن اتّحادهم عن طريق المساواة فيما بينهم، بل إنّ علاقتهم المصلحيّة في كسب رضى الله من أجل أن يضمن لهم مكانا مستقبليّاً في الجنّة، ومن أجل ذلك لم يعد يهمّهم علاقتهم الاتّحادية فيما بينهم خلال حياتهم الدّنيويّة، فتَشَتَّتَتْ مصالحهم لتصبح أديانا متنافرة وطوائف مشرذمة وملل متفرّقة ومتقوقعة في اعتقاداتها الضّيقة، التي تحوّلت الى بؤرٍ منغلقة على ذاتها لدرجة التَّفرقة العُنصريّة فيما بينها، بينما هي في الظّاهر تَعِظ بالمحبّة والسّلام والتآخي؛ وفي الباطن، فإنّ هؤلاء ينفّذون سياسات السُّلطة القاتلة والظَّالمة والمدمّرة والمستعْمِرة والمـُحتلّة، لدرجة أنّك عندما تعود الى تاريخ هذه السلطات الدّينيّة والسِّياسيّة عبر التَّاريخ فإنّك تكتشف أنها كانت سبباً في نشوب الحروب القاتلة لملايين البشر باسم الله والدين، وباسم ممثّلتهما على الأرض، ألا وهي السّلطة السّياسيّة الحاكمة. لا بل إنّ القوم او الأقوام تفرّقوا أيدي سبأ فيما بينهم داخل دينهم الذي من المفروض أن يوحّدهم حول تجمّعهم حول إلهِهِم الـمُشتَرك، أو وطنهم المـُشترك أو شعبهم الـمُشترك، فأصبح المسلمون شيعة وسنّة ومعتزلة ودروز.. ألخ، وأصبح المسيحيوّن كاثوليكاً وبروتستانت وأورثودوكس وأنجليكانيّين..ألخ، ففطن الصَّهاينة بمدى قوّة العنصر الدّيني الذي قد يصبّ في صالحهم إن هم سعوا للمساهمة في هذا التّشتيت بين الدّيانات، وصَهْر الهُوِيَّات الـمُتماسكة والأصيلة وتذويبها، لكي يحظوا بيهوديّتهم الدِّينيّة الصُّهيونيّة التي أقنعوا بعض الآخرين من الدِّيانات الأخرى بأنْ يجعلوا دينَهم ودَيْدَنَهم المزيد من الانقسام، فانضمّ الى صهيونيّتهم الدِّينيّة ملايين الأنجليكانيّين الذين سعوا معاً لـِمَزيد من الجَشع والطَّمع والسُّلطة والظّلم والقتل والتّعصّب والاستعمار والاحتلال، فنجحوا في إرساء المزيد من نظام سياسة فرّق تسُد، وفي الـمُحصّلة تحوّلت الدِّيانات التَّوحيدية الى ديانات عُنصريّة استعماريّة، حيث أصبح جُلّ همّها إلغاء وحدة الشُّعوب واتّحادها، وتجزيء الأوطان وشعوبها، بناء على تَجْذِير فلسفة "فخّار يكسّر بعضه" وأنّ الدَّيمومة هي للأقوى والأذكى الذي أصبحت كامل السُّلطة بين يديه، ويجلس فوق عرشها الذي لا يُقهر.  

    خَدمَ أحدُهم  في سلك الشُّرطة الإسرائيليّة إبّان الانتفاضة الأولى في الضّفة الغربيّة المحتلّة، وقبض على أحد الشُّبّان الفلسطينيّين الـمُتظاهرين، وأطلق النّار من مسدّسه على رأسه فأرداه شهيداً. لاحقاً اتّضح لهذا القاتل أن الشّابَّ الذي قتلَه مسيحيّ، فأصابه النَّدم والشّعور بالذّنب، قائلاً إنّه لم يكن يعلم أنّه مسيحي من أبناء دينه، وظنّ أنه قتل مسلماً(طبعاً بسلاحٍ يهوديّ، أو الأصحّ بسلاحٍ صهيونيّ). هذا الشّاب تعبّأ منذ طفولته مسبقاً بقناعته بإسرائيليتّه وبوظيفته التي يعتاش منها بشروط مُغرية، ومِن خلال وظيفته كَمَسيحيّ مع أصدقائه اليهود، كارهاً المسلمين ومستعدّاً أن يقتلهم، مع أنّه من المفروض أن تقوده مسيحيّته المؤسّسة على فلسفة التَّسامح الى الامتناع عن قتل أيّ انسان. والأنكى من ذلك أنّه غَيْر واعٍ أنّ الشّهيد الـمَقتول هو من أبناء شعبه، وفي الأصل يحمل هذا الشّرطي هُوِيَّته الفلسطينيّة التي تحوّلت مع الزّمن الى هُوِيَّة إسرائيّليّة معادية لأبناء شعبه، لا بل يعمل في خدمة "اليهود" الذين صلبوا له مسيحه. هذا الشّاب مُتديّن، وكلّما مرّ بقرب أية كنيسة يرسم شارة الصّليب، ويؤدّي الصّلوات وجميع الطّقوس المسيحيّة، ويشعر أنّ هذا جزءٌ أساسيّ من هُوِيَّته، غير واعٍ بأن مَن يُصلّي باسمه وهو السّيد المسيح أرداه اليهود شهيدا مصلوباً مُعَذّباً بشكل بَشِع مِن قِبَل الذين يخدمهم هذا الشّرطي، ويَقتل من أجلهم أبناء شعبه. أسياده يعبِّؤونه بمقولة إنّكم أيها المسيحيّون أفضل من المسلمين، وأنتم "مُتحضّرون" ولطيفون أكثر من المسلمين. أفرادٌ من أقرباء هذا الشُّرطي يقومون بتدريب قُوّاتّ من إحدى وحدات الجيش الاسرائيلي المعروفة باسم "الـمُستعربين" على العادات العربيّة واللغة العربيّة وطريقة اللباس والتَّصرف كعرب، لكي يذهب هؤلاء الى الضّفة الغربيّة لاصطياد الـمُتظاهرين والوطنيّين والثُّوار. بعض المسلمين أيضا يتجنّدون في خدمة الجيش والشّرطة بدون أن يكون ذلك إلزاميّاً  كما هو مفروض كخدمة إجباريّة على الفلسطينيّين الدُّروز.
    الأخطر من ذلك أن هذا السّلاح يُوَجَّه الى صدور بعضنا البعض بعد أن استطاعت بعض العصابات والمافيات الحصول عليه بوفرة والـمُتاجرة به وتمكّنوا من إخراجه من مخازن جيش إسرائيل بتغاضٍ من أجهزة مخابرات النِّظام أو بمعرفة منه، فجزءٌ من مخطَّطاتهم تعتمد على فلسفة "فُخّار يكسّر بعضه". وهكذا فالنِّظام يُخطّط لافتعال الـمُشكلة ويجعلها مُعلَنة بكثافة في جميع وسائل الإعلام، فيصرخ النّاس طَلباً للنَّجدة من قِبَل الشُّرطة والجيش ومؤسَّسات الدّولة المعنيّة بالأمر، فتتدخّل السّلطات من أجل تلبية طلب النّجدة، وفي الـمُحصِّلة يظنّ البعض أنّنا نحن المشكلة والنِّظام هو المـُنجِد والحلّ ، وهو مَن يستطيع حلّها، بينما في الحقيقة يكون النِّظام هو المشكلة وليس صاحب الحلّ، بل يسعى الى المزيد من تعقيده.  
     في مرحلتنا الحاليّة وصلت حوادث القتل أوجها وتحوّلت الى موضة متكرّرة بشكل شبه يوميّ. إنّها تُنفّذ بأيدي بعض من أفراد أبناء شعبنا، وبسلاح أوتوماتيكي متطور أضعاف أضعاف سلاح بندقيّة الـ"مَرْتِينِي" ومسدّس الــ"برَابِلُّو" الذي توفَّر بكمّيّات شَحيحة لدى الثُّوار الذين استعملوه دفاعاً عن الوطن الذي يحمي الهُوِيَّة جسداً وروحاً، فتحوّل هذا السِّلاح وبمعرفة تامّة من قبل السُّلطات الإسرائيليّة لهُويِّة حامليه ومُستعمِليه، ومن أين مصدره، لكي يُوَجَّه الى صدور أبناء جلدة مستعملي هذا السِّلاح الحديث، والذي تم الحصول عليه من عدّة مصادر، لا بل وقسم كبير منه خرج من مخازن جيش إسرائيل. كان الذي لا يُسلِّم المرتيني والميزر والبرابيلو وقتها يُعدم،  بينما يُشجَّع على حمله كسلاحٍ حديث بأيدي اللاثوّار لكي يوجّهوه ضدّ أبناء شعبهم. وهكذا تحوّل مفهوم الثّوار الى قَتَلة ومجرمين، وهكذا ومع مرور بضعة عقود تحوّل السِّلاح البدائي البسيط الذي كان في خدمة الوطن والهُوِيَّة، الى سلاح حديث ومن عدّة أنواع حديثة كالـ"عُوزِي"، والـ" M16" والمسدّسات على أنواعها، والقنابل، وكل ذلك يصبُّ ضدّ الوطن، وفي خدمة  النِّظام السَّاعي لمحو الهُوِيَّة والوطن.
    ومنهم من لا يجد تناقضاً بين كونه مسلماً او مسيحيّاً ومتديّناً، ويستطيع من خلال إسرائيليّته أن يؤدّي طقوس ديانته والحجّ والعمرة كإسرائيلي، ويجد أن ذلك لا يتناقض مع دينه، متغاضياً عن هويَّته الفلسطينيّة والقوميّة والوطنيّة، فهو يجد أنّ دينه هو حدود هُوِيَّته، بالإضافة الى أنّه يعتبر هُوِيَّته إسرائيليّة. يوجد مسلمون إسرائيليّون ومسلمون عرب وسعوديّون وأفغانيّون وباكستانيّون..الخ، ويوجد مسيحيّون أمريكيّون واوروبيّون واستراليّون وفي جميع أنحاء العالم، فلماذا لا يكون انتماؤه الدّيني هو هُوِيَّته؟ الوطنيّة بالنّسبة له ليست مقتصرة على وطن جغرافي محدَّد لأنّ إسلامه أو نصرانيّته هي جغرافيته اللامحدودة الحدود التي ينتمي لها، ومواطَنَتُه تُعْتَبَر موطنه حيث يسكن ويعيش، وهي تختلف عن وطنيّته، لا بل أَوجَد بعضُهم هُوِيَّة جديدة يستعملون من خلالها مصطلحات جديدة مثل: "الشَّعب المسيحي"، الشّعب الإسلامي" الأُمَّة الإسلاميّة"، "الأمَّة المسيحيّة"، مستحدِثين بذلك مصطلحات عبثيّة تساعد اليهود بالادّعاء أنّهم "الشّعب اليهودي".
     ولا غرابة في أنّ الوصول الى هذا المستوى من التَّسطيح والتَّهميش والقهر المادي والاجتماعي والتَّجهيل سيقود الى العنف والجريمة والتَّعصّب الأعمى الـمُنغلق على ذاته، ما يؤدّي في النّهاية الى قبول بعضهم بالموجود، وعدم الرَّغبة في التَّمرّد والثَّورة على وضعهم من أجل الوصول الى الوضع الطبيعي والمثالي لهُوِيَّتهم الأم، ما يجعلهم في وضع جمود و"مكانك سرّ".   

    عندما يحصرون أطفالنا منذ جيل الرَّوضة حتى يكبروا داخل جدران المدارس، ويحقنونهم بإبر المنهاج الإسرائيلي، ويعلّمونهم كيف يرسمون عَلَم إسرائيل، ويغنّون أغاني عيد استقلال إسرائيل، فإنّه مع مرور الزّمن ينشأ هذا الإنسان داخل هذه البوتقة ا