الكاتبة أسماء الياس - صورة شخصية
لا ينقصها سوى حبيب يعترف لها بأنه يحبها.
توقفت ناهدة عن السير، التقطت أنفاسها، نظرت نحو السماء الشمس متوهجة ولا أمل أن تمر سحابة حتى تخفف وطأة هذا الحر. الطرق خالية من البشر، لكن الشيء الوحيد الذي لا تخلو منه الطرقات المركبات على اختلاف أنواعها، لذلك تمنت لو استطاعت أن تقتني سيارة، لأنها أرادت أن تتذوق ولو مرة في الحياة كيفية هذا الشعور عندما تكون بمكان لا تشعر بأن انفاسك تكاد تنسحب منك، وأنك على قاب قوسين من الاختناق والموت من حرارة الجو. الذهاب كل يوم إلى العمل سيراً على الأقدام في مثل هذا الطقس الحار يجعلك تتمنى لو لم تولد.
لكن لديها أخوة ما زالوا صغاراً، فهم بحاجة للاهتمام والرعاية. ومن غيرها يستطيع التكفل بهم ويقدم لهم يد العون. فقد توفيا والداهما بحادث سير وتركاها تتحمل مسؤولية ضخمة لم تكن تتوقع في يوم من الأيام بأن الدلال الذي كانت تحظى به ينتهي ويتبدل بمسؤوليات جسام أكبر من أن يتحملها جسمها الغض. فهي الفتاة الوحيدة بين ثلاث فتيان، لذلك أخذت كل الدلال من والديها اللذين أحباها، فقد أخذت من والدتها العيون العسلية والشعر الأشقر الذي ينساب على كتفيها، فتبدو كأنها أميرة خرجت من كتب الحكايات، غير ذلك فقد أخذت من والدها الشموخ والكبرياء، وعزة النفس.
ناهدة تعرفت على الشقاء بسن صغير. بذلت مجهوداً خرافياً حتى تكون قوية بعد وفاة والديها تحملت مسؤولية أخوتها الذين ما زالوا بسن حرجة يريدون الرعاية والاهتمام بكل شؤونهم الصغيرة التي يحتاجها كل انسان منذ نعومة أظفاره حتى مرحلة النضوج، لهذا كان على ناهدة أن تكون الأب والأم والعمة والخالة والجدة إذا لزم الأمر.
عملت بعدة أعمال دفعةً واحدةً، عملت في مصنع النسيج، وعملت خادمة بإحدى البيوت لأشخاص أغنياء، عملت بنشاط لم تشكِ يوماً التعب حتى أقرب المقربين منها استغربوا من قوة تحملها وهي الصبية التي من المفروض أن تتمتع بشبابها، وهي الجميلة التي أعجب بها كل شباب الحي والأحياء المجاورة. لكن كل إنسان حظه ونصيبه في الحياة، وهي الفتاة المقتنعة بنصيبها. مع أن خطابها كثر لكن كانت تقول لهم دائماً:
- أنا لدي عائلة ثلاث شباب لا أستطيع التخلي عنهم.
مع ذلك كانت تكبر بعيون أهل بلدتها على صبرها وخدمتها لإخوتها.
في أحد الأيام بينما كانت ناهدة مشغولة بأعمال البيت سمعت طرقات متواترة على الباب، توجهت نحو الباب حتى تستطلع من الطارق تفاجأت بأن الطارق ابن عمها فارس الذي كان يدرس في الخارج موضوع الطب وقد تخصص بالجراحة التجميلية. استغرقت مدة وجيزة حتى استفاقت من هول المفاجأة عندما تكلم موريس وقال لها:
- كيفك بنت العم؟ هل ما زلت تتذكرينني؟ لك كل الحق أن تنسيني لأني عندما ذهبت للتعلم كنت ما زلت صغيرة، لكن اليوم أصبحت صبية تملأ العين والعقل. لقد عدت للوطن ودعت الغربة ولن أعود لها بتاتاً.
- الصحيح أنا مستغربة من عودتك التي لم تعلن عنها لأحد. كثيراً ما كنت اسمع بأنك لن تعود للوطن، لأنك تعودت على نمط معين من الحياة، هناك الهدوء لا تسمع صراخاً ولا اطلاق نار. كل واحد بحاله والناس هناك لا أحد منهم يتدخل بخصوصيات غيره.
- نعم هذه ميزة محببة في بلاد الغرب. لكني فقدت الدفء الموجود في جو العائلة، الحياة هناك رغم أني تعودت عليها، لكن يجيء علينا يوماً نَحِنُ لبلادنا لقهوة أمي كما قال الشاعر الكبير "محمود درويش أحن إلى خبز وقهوة أمي" وأنا اشتقت لكل شيء حتى رائحة التراب والعجين الذي كان ينبعث منه رائحة طيبة عندما كانت أمي تخبزه في التنور. الحياة بالغربة صعبة لا أحد يستطيع تحملها إلا وسيأتي يوم وتَحِنُ لوطنك لبيتك لأهلك لكل شيء.
- لكنك تتحدث عن فترة بعيدة، اليوم اصبحت عاداتنا وتصرفاتنا مثل الغرب، لكن الشيء الذي يميزنا عن الغرب تدخلنا بحياة الغير، وفرض الرأي حتى لو كان هذا الشيء لا يلائم هذا العصر الذي نحياه.
- نعم أعلم ذلك بنت العم، لكني كنت أحلم بأن اعود لتلك الفترة البعيدة التي عشناها بطفولتنا السعيدة، هل تتذكرين كيف كنا نلعب تلك الألعاب التي جيل اليوم لا يعرف عنها شيئاً.
- كيف لا أتذكرها وهي أجمل سنوات عمرنا. ماذا ستفعل بعد عودتك من الخارج؟
- لقد قدمت أوراقي لعدة مستشفيات حتى أعمل هنا. أنتظر الرد بفارغ الصبر.
- جميل جدا، شو رأيك تأتي اليوم للغذاء عندنا سوف يفرحون أخوتي عندما يعودون من المدرسة؟
- بكل تأكيد سوف أجيء بكل سرور.
وهكذا نمت علاقة طيبة بين ناهدة وابن عمها موريس الذي ساعدها بإيجاد عمل أفضل. عندما افتتح عيادة بعد أن أنهى كل ما يتطلب من معاملات وعينها سكرتيرة بعد أن دربها على العمل على استعمال جهاز الكمبيوتر، وبوقت قصير تعلمت حتى أصبحت خبيرة بكل ما يخص العمل مع هذا الجهاز المعقد.
لم تتوقف ناهدة عند هذا بل سجلت بإحدى الكليات تعلمت موضوع الحسابات وادارة الأعمال، وبعد سنتين تخرجت بحفل مهيب.
وكانت هذه نقلة نوعية بالنسبة لها عملت بجهد ساعدت اخوتها حتى كبروا وعاركوا الحياة واصبحوا رجال أعمال. شكروا اختهم التي وقفت معهم بأدق مراحل حياتهم.
تزوجت ناهدة من موريس وعاشوا بسعادة وخلفوا البنات والأولاد.
وهكذا تغلبت على كل المصاعب بقوة تحملها وصبرها وحبها لعائلتها.